حراسة الأراضي المقدسة
ثلاثة عشر عاماً مرّت على زيارة الحج التي قام بها البابا يوحنا بولس الثاني، وأربعة أعوام مرّت على تلك التي قام بها البابا بندكتوس السادس عشر، وها هي التحضيرات تتم في الكواليس لإستقبال البابا فرنسيس هذا العام في مدينة القدس.
لم يكن إختياره المجيء إلى المدينة المقدسة في هذا العام 2014 مجرّد صدفة. فقبل 50 عاماً من اليوم، في الرابع من كانون الثاني، بدأت في الأردن رحلة الحج التاريخية التي قام بها البابا بولس السادس إلى الأرض المقدسة. يعطي الصحفيون بإستمرار لرحلة البابا بولس السادس صفة “التاريخية”، وهي بالفعل أنسب كلمة توصف بها تلك الرحلة. لا يجد الأحبار الرومانيون اليوم صعوبة في التنقل من بلد إلى آخر، لكن يجب علينا أن لا ننسى بأن الزيارة التي قام بها البابا بولس السادس كانت الأولى من نوعها. لم يغادر في الحقيقة أي من البابوات الذين سبقوه شبه الجزيرة الإيطالية بإرادته الشخصية. ومنذ القديس بطرس، لم يقم أحد من البابوات بالمجيء إلى الأرض المقدسة.
أعلن جيوفاني باتيستا مونتيني، البابا منذ 21 حزيران 1963، عن رغبته المجيء في زيارة إلى الأرض المقدسة، خلال الخطاب الختامي لثاني جلسات المجمع الفاتيكاني الثاني، الذي ألقاه في الرابع من كانون الأول عام 1963. “لدينا القناعة العميقة بواجب تكثيف الصلوات والأعمال التي تهدف إلى إختتام اعمال المجمع، لذلك فقد قرّرنا، بعد التفكير الناضج والكثير من الصلاة، أن نجعل من أنفسنا حاجاً إلى أرض الرب يسوع… كي نكرّم شخصيّاً، في الأماكن عينها التي ولد فيها المسيح، وعاش ومات وصعد إلى السماء بعد قيامته، أسرار خلاصنا الرئيسية، أي التجسد والفداء. سوف نرى تلك الأرض المباركة التي منها خرج بطرس، ولم يعد إليها أحد من خلفائه. أمّا نحن فسنعود إليها، بكل تواضع ولفترة وجيزة، كعلامة على الصلاة والتوبة والتجديد، مقدمين للمسيح كنيسته، ولكي ندعوا إليها، وهي الوحيدة والمقدسة، الإخوة المنشقين، ونستمطر الرحمة الإلهية لأجل السلام بين البشر… ولكي نتضرع إلى المسيح الرب لأجل خلاص البشرية بأسرها”.
هبطت طائرته في الأردن بعد شهر من إعلانه هذا، ومكث هناك ثلاثة أيامِ حج مُكثف، قاده من موقع عماد الربّ إلى بيت عنيا، ومن ثم إلى الأماكن التي شهدت لآلام المسيح (طريق الآلام، القبر المقدس والجتسمانية)، وإلى الجليل (مع وقفة في الناصرة، وقانا، والطابغة وكفرناحوم وجبل التطويبات وطابور)، ثم العودة إلى القدس لزيارة العليّة المقدسة، وأخيراً مدينة الميلاد بيت لحم.
كان لقاءه بأثيناغورس، بطريرك القسطنطينية، ولا شك، اللحظة الأهم خلال هذه الرحلة. تم هذا اللقاء حينها بمبادرة من البطريرك نفسه، الذي ما أن وصله نبأ إعلان الحبر الأعظم نيته المجيء كحاج إلى الأرض المقدسة، حتى قدَّم له إقتراحه هذا. عقد في الواقع بينهما لقائان. تم تحديد موعد اللقاء الأول ليكون في مساء 5 كانون الثاني، في مقر القصادة الرسولية الواقع على جبل الزيتون، ضمن لجنة مصغّرة. أمّا اللقاء الثاني، الذي عقد في 6 كانون الثاني، فقد أقيم في مقرّ بطريرك القدس للروم الأرثوذكس، الواقع على جبل الزيتون. هذا اللقاء الأخير هو الذي تمّ نقله عبر وسائل الإعلام.
كانت رؤية البابا حينها وهو يصعد الطائرة التي أقلته إلى الأرض المقدسة بمثابة ثورة. وكانت رؤيته وسط الزحام خلال الرحلات التي قام بها، بمثابة صدمة. يذكر “إيرين”، أحد متطوعي حراسة الأراضي المقدسة، أن الصور التي تناقلها التلفاز آنذاك، بثت في نفسه القلق على حياة البابا نفسه. كتب حينها الأب “لوغانس”، وهو مدير مجلة الأرض المقدسة بالفرنسية في ذلك الوقت، قال: “تكلم البعض عن التعثر، والحشد والإضطراب الذي لا يمكن تصوره، والإقتحام والحشود الهائجة… أما أنا فأفضل الحديث عن طريق ظافرة، وفرح شعبي وهذيان ملؤه الحماس، يتعذر كبحه.”
كان البابا بولس السادس من طالب برؤية “شعبه” الذي تم إبعاده عن الناصرة “لأسباب أمنية”، وهو البابا الذي قام بزيارة أحد المرضى في بيته، وهو البابا الذي مال على حارس الأراضي المقدسة محاولاً إعطاء البركة لأحد المعاقين الذي إلتمس رؤيته، وهو أيضاً البابا الذي ترك الكرادلة المرافقين له عند وجبة الإفطار كي يأخذ طريق كفرناحوم في أسرع وقت ممكن… عندما نرى أعمال البابا بولس السادس، الذي بجرأته إستطاع تهدأة كل من أحاط به، فكيف لا ننتظر أيضاً وبفارغ الصبر، إستقبال البابا فرنسيس!