أُعبر إلينا وأعنَّا
( أع 16 :9 )
القديس بولس في مدينة ترواس حيث يرى رؤيا: رجل من مكدونيا يوناني يظهر له ويقول له: أُعبر إلينا وأعنّا فعبر بولس البحر وتوجه إلى اليونان كارزاً ببشارة الإنجيل. الآن نجد الآف اليونانيين يقولون نفس الشيء ويطلبون ذاتَ الطلب ” أُعبروا إلينا وأعينونا “.
إن يسوع من أعالي صليبه يُعلن: قد أُكمل … العمل الذي أعطيتني لأعمله قد أتممته…بين يديك استودع روحي وأمال رأسه وأسلم الروح… وخرج من جنبه دم وماء…
هذه المشاهد الأخيرة من حياة الرب يسوع تُعلن إنه سلمَ الشُعلة مضيئة ” أنا نور العالم ” إلى الكنيسة التي هي هبة حبه…وعلامة حضوره…وأداة خلاصه…
الكنيسة حملت الأمانة وواصلت عملها الرسولي على مر العصور والأجيال بنجاح… مؤمنة بأنها خرجت من جنب المخلص المطعون بالحربة وان مهمتها هي توصيل ثمار الفداء إلى جميع البشر ” إذهبوا إلى العالم أجمع …” فتُصبح كما أرادها المعلم الإلهي وسيلة خلاص وتكون فعلاً بيت الله وباب السماء (تك 28 :17). ونحن الخدام نقول مع القديس بولس: إننا بكل سرور ننفق النفقات بل ننفق أنفسنا لأجل نفوسكم
( 2 كور 12 :15).
هذه الرؤيا للقديس بولس… تُعطينا طمأنينة والأقتناع بأن صوت الله إلى موسى في العليقة: إذهب وأطلق شعبي من مصر… مَن أنا حتى أذهب إلى فرعون وأُخرج بني اسرائيل من مصر؟ أنا أكون معك
( خر 3 : 11).
الإرسال العظيم للرسل بأن يذهبوا ويُعملوا ويُعمدوا جميع الأمم … إذهبوا ومعكم الضمان الأكيد للنجاح: أنا معكم إلى انقضاء الدهر ( مت 28 :20 ).
صوت الله إلى بولس عن طريق الرجل المكدوني أُعبر إلينا وأعنّا فعبر بولس ومعه نفس الضمان… إذهب وأنا معك.
ويسوع قبل صعوده إلى السماء يُعطي تلاميذه:
الأمر… إذهبوا وعلموا جميع الأمم.
الوصية… أن يُحبوا بعضهم بعضاً.
الضمان… أنه سيكون معهم إلى منتهى الأجيال.
الوعد… ستَنالون قوة متى حلَّ عليكم الروح القدس.
الصوت الإلهي هو موجه لنا الآن… لأنه لم يفقد استمراريته ومضمونه… بناءً على هذه الوعود الجميلة والمُطمئنة يجب علينا أن نعبر… أُعبروا إلينا وأعينوننا… يارب إجعل أذاننا مُصغية إلى احتياجات الأخرين: المادية والأدبية والروحية.
مؤهلات البداية
البداية… نجدها في مشهد إرتداء بولس الرسول على طريق دمشق… حيث إلتقى صاحب الدعوة ” يسوع ” مع المدعو ” شاول ” وأعاق طريقه ” طريق الإضطهاد ” أنا يسوع الذي أنت تضطهده ( اع 9: 5)، فيُصبح في لمح البصر بولس رسول الأمم… ماذا تريد مني يا ربُّ أن أفعل؟ إذهب إلى دمشق… استسلام كامل ومُطلق… أجعل منه آنيةً صالحةً…
على طريق دمشق تم التعارف الحقيقي ما بين يسوع صاحب الدعوة ” الرسالة ” مع بولس المدعو للعمل… وتوثقت روابط المحبة. وهذا ما عبر عنه بولس الرسول في رسالته لأهل رومية ( روم 8 :35 ).
” من يستطيع أن يفصلني عن محبة المسيح؟ أضيق أم شده أم اضطهاد أم جوع أم عريّ أم خطر أم سيف… اننا لأجلك نُمات النهار كله وقد حُسبنا مثل غنم لللذبح… بل اكثر من ذلك حيث نجده يُعلن وحدته الكاملة مع المسيح: لست أنا الحي بل المسيح يحيا فيَّ “.
الصعوبات التي تعترض طريق رسالتي
المشهد الأخير من حياة يسوع الأرضيّة وقبل صعوده إلى السماء مباشرة، كلفَ رُسُله بالإرسال العظيم والأخير قائلاً لهم: دُفع إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض… إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتُكم به وهأنا معكم إلى إنتهاء الدهر.
لقد كان إرسال يسوع لتلاميذه بهذه الصورة الشاملة والقاطعة والغير قابلة للمناقشة… إنه أمر… إذهبوا… من وجهة النظر البشرية مستحيلة… إذ كيف لعدد قليل 11 رجلاً أن يذهبوا إلى العالم أجمع… الكنيسة اليوم ممثلة في كل شخص منّا وتواجه نفس الصعوبة.
الجواب السهل هو أن نضع روؤسنا في الرمال وننسى ما طلبه يسوع منّا مُبررين مواقفنا الضعيفة رسوليّاً بصورة أو بأخرى… أو قد نقلق ونضطرب ونحمل هم العالم كله على أكتافنا وكأن المسئوليّة أُعطيت لنا كاملة… وكأن الله قد تخلى عنا وعن ضمانه لنا ” أنا معكم…” هذا ما ظنه بطرس والرسل عندما كانت سفينتهم تتلاعب بها الأمواج وكان الرب يسوع نائماً… رسالتنا بدون يسوع هي عبارة عن مثلث يَنقصه ضلع… أنا أجعلك صياداً للناس… موقف داود من جُوليّات… أختفى داود في الله… أتيتَّ إليَّ بالسيف والرمح وأنا أتيك باسم رب الجنود. في هذا اليوم يَجعلك الرب في يديَّ فأقتلك وأقطع رأسك…
المستحيل يُصبح ممكنّاً لأن يسوع هو الذي يتكلم… المستحيل أصبح ممكنّاً بالعنصرة… الكنيسة اليوم محتاجة لعنصرة جديدة حتى يُصبح المستحيل ممكنّاً.
إذهبوا وأنا معكم… كيف نذهب؟
لنذهب متحليّن بصفات الفلاح ” الصبر” الذي يعرف المواسم ويتوقع الحصاد… إنه يعلم أن للزراعة وقت وأسلوب… وأن الأرض تحتاج إلى حرث وجهد وأن الري ضروري للنمو… إنه يعلم أيضاً أن الوقت والأنتظار ضروريان لنضج الثمر والحصاد… أنه لا يقلق ولا يضطرب ولا ييأس بسبب بطء النمو… ولا يتساءل متى سيحصد… إنه يعمل واجبه بأمانة وإخلاص والله يبارك هذا العمل بالثمار… من هو بولس؟ ومن هو أبولو؟ إنهما خادمان أمنتم على أيديهما وكما أعطى الرب لكل واحد… الله هو الذي يعطي الحياة والنمو… الغارس والساقي كل واحد سيأخذ أجرته حسب تعبه ( 1كو 3 : 5-8 ).
لنذهب متحليّن بفضيلة المحبة
المحبة في الكتاب المقدس هي ليست كلمات مجاملة أو حركات إنما هي موت: ” إننا انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب الأخوة ” ( 1يو 3 :14 )..
المحبة ليست هي أن ننظر لبعض ولكن هي إننا جميعاً ننظر لهدف مشترك.
المحبة تبدأ بتحطيم اسوارنا الوهميّة… والانطلاق إلى الخارج والدخول في بيئة مَن نخدمهم لنتعلم لغتهم وتعبيراتهم وتقاليدهم لنقدم لهم رسالة الخلاص.
إن السيد المسيح عندما أحبنا عبر إلينا متجسداً صائراً مثلنا ما خلا الخطيئة ثم بذل ذاته لأجلنا… ليس حبُّ أعظم من هذا أن يبذل الإنسان نفسه لأجل أحبائه…
اليوم إذا نظرنا حولنا بقلب الخادم الأمين الذي يبحث عن الخروف الضال لوجدنا كثيرون يصرخون فينا: أُعبروا إلينا وأعينّونناً.. بولس الرسول كسر أسوار التعصب ولبس ثوب المحبة ودخل اسوار الأخرين ليُقدم لهم محبة المسيح فيقول: ” إني إذ كنت حراً استعبدت نفسي للجميع لأربح الاكثرين… صرت لليهود كيهودي… صرت للضعفاء كضعيف لأربح الضعفاء… صرت للكل كل شيء وهذا أنا أفعله لأجل الإنجيل لأكون شريكاً فيه ” ( 1كو 9 : 19 – 23 ).
لا يوجد عمل رسولي بدون حب ولا يوجد حب بدون تنازلات. إن الأمر الجوهري في عملنا الرسولي هو أن نعرف الخط الذي يجب أن نتبعه ونسير عليه… ولا نسمح لأحد بأن يقودنا إلى تشتت أو يعوق مسيرتنا.
لو ألقينا نظرة سريعة على إنجيل القديس يوحنا الفصل الرابع لوجدنا نموذجاً رائعاً للحوار الهادف والبنّاء… السيد المسيح لم يسمح للمرأة السامرية أن تقوده إلى مجادلات جانبيه… كان طريقه واضحاً وهدفه محدداً
يسوع يطلب أن يشرب… إعلان إحتياج… كيف تطلب أن تشرب مني وأنت يهودي وأنا امرأة سامرية، وأباؤنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون أنه في أورشليم المكان الذي ينبغي أن يُسجد فيه… الساجدون الحقيقيون لله بالروح والحق ينبغي ان يسجدوا. السيد المسيح كان هدفه واضحاً وهو تبشير السامرية وعن طريقها يدخل مدينة السامرة.
لا يستطيع الإنسان أن يكون سلسّاً واضحاً ويعرف طريقه ويحدد أهدافه بدقة في حياته إلا إذا تعلم وتدربَّ.
إن يسوع اختارنا لنعمل به وله اعمالاً عظيمة… مطلوب منّا أن ننقل رسالة المسيح إلى الجميع وخاصة المحتاجين والمهمشين والبائسين… نخرج من اهتمامنا بأنفسنا لنرى الناس كيف يعيشون ومما يُعانون وما الذي يتمنوه ويأملون فيه؟
أتمنى أن نكشف بمناسبة يوبيل الرحمة عن وجه الكنيسة كأم رحيمة تتوجه إلى أبناءها المحتاجين… ويكون لها أذان صاغية لتسمع أنين المتألمين وأن تتحلى بثقافة الفهم والمغفرة والحب.
نطلب من الله أن يُنير عيوننا لنرى ما لا يستطيع أن يراه الأخرون وأن يُنير بصيرتنا… ونقول: له ينبغي أن ينمو ولي أن أنقص.
الأنبا / يوسف أبو الخير
مطران كرسي سوهاج