المونسنيور د. بيوس قاشا
في البدء
يقف العراق والشرق ومنذ سنين عديدة على مفترق طرق وخاصة في هذه المرحلة الراهنة، ومعه يمرّ المسيحيون بمواقف قاسية ومؤلمة بل مميتة في الكثير من الأحيان، وينسبون إليهم الكفر وما عليهم إلا أن يكونوا كحَمَل إبراهيم وحينما يشاؤون، وهذا ما يسبب خوفاً وخطراً على وجودهم بل عاملاً أكيداً لهجرتهم وإفراغ الشرق منهم، ولمحو أصالتهم وتدمير حضارتهم وإن أمكن حتى تشويه إيمانهم ومسيرة عقيدتهم، والسبب يكمن في أن حقوقهم قد صودرت وأصالتهم قد شُيّعت وأصبحوا غير مرغوب بوجودهم إلا عبر كلمات مؤتمرات فيها التعليق والتلفيق، والسبب سببنا فما نحن إلا عملاء لمصالحنا ومصالح مطيعينا وأزلامنا ، وأوفياء لمناصبنا، وحقيقة وجودنا، وكبار دنيانا، ومنشغلون بأمور كثيرة فنهمل ماذا يحصل، ولا نملك “غير صوت صارخ” (مرقس 3:1) ، ونحن ندرك جيداً (ومن المؤسف) أنه لا أحد سيسمع صراخنا، فما نحن إلا تقدمة الوجود وضحية المذابح… أليس كذلك!.
جهل شعبنا
في عراقنا… ما يحصل في عراقنا الجريح من تهميش لمسيرتنا وعدم تلبية حقوقنا ما هو إلا تفتيت لوجودنا، وما يحصل في شرقنا ألا يجعلنا نحن المسيحيين ـــ وإنْ كان لأبنائنا رؤى مختلفة ومتعددة لحل مشاكل شعبنا بحرية فكرية وليس بطروحات خيالية يعلنها كبار الزمن ورجال المعابد، وهذا ما يؤدي إلى تقطيع شعبنا وتقسيمه، وفقدان الثقة بكبار رجالاتنا وبتراب سهلنا. فكلنا نعاني، وكلنا تحت هذا الثقل واقعون ـــ نقول لأنفسنا: ألم نتعلم درساً مما حصل لتاريخ داعش معنا؟، ألا يكفي أن نرسم حقائق وجودنا كما تشاء مصالحنا؟، ألا يكفي استغلال جهل شعبنا من أجل مستقبل مناصبنا وديمومة كراسينا وحقيقة مصالحنا حينما نبيع مقدساتنا من أجل سياسة مزيفة ومصلحة مبرمجة؟، ألا يكفي أن نكون علامة خلال بدل أن نكون علامة حوار لحلول أمينة يطمئن إليها شعبنا ويستعيد ضميرنا حقيقته وعقيدته دون تمييز أو إلغاء أو تهميش أو تشويه… أليس كذلك!.
نطمر رؤوسنا
في عراقنا… إن خطر محو المسيحية لا زال يُسرع الخطى نحو تحقيقه شئنا أم أبينا، والمشكلة ليست في معرفتنا ذلك بل الحقيقة تكمن في أننا غير مبالين، ونجعل أنفسنا نعامة ترى كل شيء ولكنها لا تُدرك شيئاً لأنها تخبئ رأسها أسفلاً. هكذا نطمر رؤوسنا كي لا ترى عيوننا من أجل توحيد كلمتنا وتجاوز خلافاتنا، وكبار زمننا ليسوا إلا حُماة كراسيهم ومناصبهم، ويبقى قداسة البابا فرنسيس ينادي كما نادى قبله أسلافه “إن الشرق الأوسط من دون مسيحيين لن يكون شرقاً أوسطاً”، لذا اسمحوا لي أن أقول: إن ما يحصل اليوم بعالمنا وفي شرقنا وخاصة في عراقنا ما هو إلا إبادة وإخلاء، وما ذلك إلا قراءة واضحة لواقعنا، ومن المؤسف ما نحن إلا مشاهدون بل متفرجون… أليس كذلك!.
حقيقة السماء
في عراقنا… هرب أولادنا وشبابنا بسبب ما حلّ ببلدنا من مآسي مؤلمة، وتكفير القاعدة وتهجير داعش، وضياع القيم والأخلاق، وفساد السيرة والمسيرة، وتحقيق الأماني كذباً وغشاً ورياءً، وتقديم التحايا والسلام المزيف الذي نصطنعه لتبجيل مسيرتنا، ونرسم على جباهنا ديناً وإيماناً حسب ما نشاء، فنؤلّه مَن نشاء ومتى نشاء وحسب ما تراه حقيقتنا وإن كانت مزيفة. إنها سياسة مصالح، وليس ذلك حقيقة السماء، والنجاح يُكتب لها لأننا نريد أن تكون هكذا. فهذا الوضع الهش الذي فيه ربما نبيع مقدساتنا بأسباب سياستنا لنكسب ما قسمه الله للذين يسألون على الأخضر لتدمير “الشجرة المثمرة ” (لوقا 43:6) ، وما ذلك إلا سيمونية مدروسة لحقيقة معاشة. فأين نحن من حقيقة أيامنا؟. فلنصلح حالنا ولا نبقى ساكتين على واقعنا المزيف الذي يرسمه لنا كبار زماننا، فالرب أوصانا أن نسهر لئلا يأتي “السارق فيزرع زؤان الدمار” (متى 24:13-30) ، لذا علينا أن نكون شجرة مثمرة (لوقا 43:6) كما قال متى الانجيلي كي “تُثْمِرُوا ثَمَراً يَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ” (متى8:3) أليس كذلك!.
عزة كبرياء
في عراقنا… علينا أن ندرك أين نحن من الذي يحصل في مسيرة حياتنا اجتماعياً وسياسياً وإيمانياً. فهزيمتنا في هجرتنا حقيقة خوفنا ” من الآتي إلينا” ( لوقا 19:7) ، وهذا ما جعلنا نتشتت في أصقاع الأرض ونفتش عن مأوى آمن وأمين ليضمن أيام حياتنا ومستقبل أطفالنا ـــ والسبب واضح ـــ بسبب الحروب وشراستها ومآسيها. كما ندرك أنه لا دور لنا في قانون البلد ومرحلته الدستورية، فما نحن إلا خاضعون بل أحياناً خانعون (وعذراً للكلمة)، ولا نفتش إلا عن حقيقة تباهينا وفخرنا وعزة كبريائنا وشهرة أنانيتنا، وهذا ديدن كبار زمننا ورجال معابدنا. والقول يصح إذا ما قيل “فليأت الطوفان من بعدي”. إنني اليوم موجود، آمر وأنهي ما أشاء، ففي ذلك يقول البابا فرنسيس (في كلمته أمام أعضاء عون الكنيسة المتألمة التي تهتم بكنائس الشرق الأوسط):”إنها خطيئة التسلط والهيمنة”. وهذا ما يقودنا إلى السكوت عن حقيقة إيماننا حينما ندرك جيداً أنهم يعملون ما يشاؤون، ويفسرون حقائقنا بما يهوون، والسبب كان ولا زال ـــ ومع الأسف الشديد ـــ تمسكنا بطائفيتنا وننسى أن نُصلح حالنا، وكلنا ندعو أننا كنيسة المسيح ولكن كل واحد منا يعيش مسيحاً يشاءه، وغنىً وثراءً باسم عون الفقير، وهذا ما يعلّق عليه البابا فرنسيس قائلاً “إن البعض يدعون كنيسة المسيح الفقيرة وهم يعيشون الثراء”، إنها خطيئة كبرى… أليس كذلك!.
زمن عصيب
في عراقنا اليوم وفي هذا الزمن العصيب المؤلم يعتبر بلدنا من البلدان الخطيرة التي فيها قلّ عددنا. ففي عراقنا اليوم يبكي أولادنا على مسيرة أيامهم في دستور غائب عن حقوقهم، وتعليم بعيد عن إيمانهم وفحوى عقيدتهم، وإن كانوا يقولون عنا أنتم أصلاء البلاد وأوائل بلاد بين النهرين، والحقيقة أقوال بلا أفعال. فما يحصل يتناقض مع وجودنا وحقيقة أصالتنا، وما ذلك إلا سبب نقص عددنا عبر هجرة مؤلمة. فالأرض كانت لآبائنا ولنا، واليوم سُلبت من صدورنا وأمام عيوننا. فالمعاناة كبيرة، والمأساة أكبر، والمحنة مؤلمة… أليس كذلك!.
الخاتمة لذا أقول: حتى ما نبقى نتفرج على ما يحصل في عراقنا وما يعانيه شعبنا. ولنعلم جيداً أن شعبنا يموت كل يوم من خوفه من الآتي المخيف ونحن نداويه في تخدير مسيرته بأقراص مهدئة، جاعلين من أصالته رمزاً لوجوده وإن كانت لإبادته، ولم ندرك بعدُ أن كلامنا ما هو إلا ثرثرة بشرية. فالمستقبل ليس بين أيدينا وإنما ما نراه، فالمستقبل يكسوه ضباب السياسة والمصالح المزيفة والأنانيات والمحسوبيات المحسوبة والمبرمجة لتدمير الأصلاء والأبرياء، وحقيقة الاحتلال تلعب دورها لإفساد معالمنا، وفي ذلك ضاعت حقيقة وجودنا، ويئس أطفالنا وشبابنا، لأننا لا ندرك إلا غاياتنا. وأختم بكلام حقيقة الحياة ماقاله قداسة البابا فرنسيس في قداسه في كابيلة سانتا مرتا (25 تشرين الأول 2019):”إن الروح الشرير يحبطنا على الدوام لكي يتغلّب علينا. لذا أوجّه الدعوة إلى كل فرد لكي يسأل نفسه إن كان شخصاً في مسيرة ولكنّه لا يتنبه لما يجري حوله، وإن كانت قراراتنا من الرب أم انها تنبع من كبريائنا ومن الشيطان. من المهمّ أن نعرف ماذا يحصل في داخلنا، من المهمّ أيضاً أن نعيش قليلاً في داخلنا وألا نسمح بأن تكون نفسنا درباً يمرُّ عليها الجميع. لأننا أحياناً نعرف ما يحصل في الحي وفي منزل الجيران ولكننا لا نعرف أبداً ما يحصل في داخلنا”. وأخيراً سنبقى ننادي “أنبقى مهمشين، أنبقى بلا حقوق ، أنبقى نحيا بما يريده ، دستورهم، وطائفيتهم، وكراسيهم، أنبقى نقدس الكذب والتزوير والفساد ،من أجل مصالحنا ،أنبقى نُشيّع الحقيقة وحامليها، ألم يُعلمنا الخوف والخطف والتهجير والقتل، ألم تعلمنا الأيام البائسة التي مرّت علينا ولا زلنا نحياها ، حتى ما!.نعم حتى ما تبقى قراراتنا من كبريائنا!”كماقال قداسة البابا فرنسيس !نعم وآمين… أليس كذلك!