السياسة الحاضرة الغائبة

للأب متى المسكين

السياسة هي مدرسة الشعب بكل فئاته وطبقاته، عرفناها منذ أن تفتَّح وعينا على ما يجري حولنا، سواء في ملاحقة الاحتلال وألاعيبه المأساوية، أو في تصارُع الزعماء والأحزاب على تولِّي الحكومات وإدارة شئون البلاد؛ حيث كانت تقف لها الصحافة بالمرصاد لتعلِّي من شأن المرغوب من رجال الحكم وخاصة زعماء الوفد، بدءًا بسعد زغلول وانتهاءً بالنحاس، حينما كانت حكوماتهم تملأ أسماع المصريين عن بكرة أبيهم من الإسكندرية إلى أقصى صعيد البلاد بأعمالهم الباهرة وخطبهم التي كانت تُقتنى وتُحفظ. فكان الشعب كله يتلقَّى دروسه اليومية بأكثر ما يكون الشغف والتسابُق في شراء الصحف وسماع الخطب. فتثقَّف الشباب أولاً بأول بكل فنون السياسة وشئون الحكم حتى أوعزت إليه الأحزاب للتدخُّل رسمياً في كيفية إسقاط الزعماء غير المرغوب فيهم بافتعال المظاهرات الصاخبة واستمرارها بالضغط بكل عزم على المندسِّين في الحكم، عملاء الملك والإنجليز، لإسقاطهم. فكان الشباب في الحقيقة أقوى مُعِين على قيام الزعماء الأقوياء، وتوفير الهالة المهيبة التي كانوا يحتاجون إليها للمضي في الحكم، وكان صوتهم يمثِّل إرادة الشعب. ومن هؤلاء الشباب مَنْ نضج واستلم دفَّة التوجيه، سواء في الأحزاب نفسها أو في البرلمان أو في الحكومات المتعددة. فكانت السياسة حقًّا مدرسة يتخرَّج منها رجال أقوياء سياسيون مهرة، جيلاً بعد جيلٍ، لملء كل وظائف الدولة، وقد شربوا كل أصول الحكم والسياسة.

وأتذكَّر حينما كنتُ في مدرسة شبين الكوم في بكور شبابي، وكان زعيم المدرسة طالباً في حزب الوفد، شاباً حديدياً، وكان اسمه أحمد السايرداير، وكان معنا  آنئذ  في سلك التلمذة المشير عبد الغني الجمسي، وكنت أكبره بسنة دراسية، وقد اعتدنا على سماع الصوت الجهوري لأحمد هذا يُنادي من يوم إلى يوم بأعلى صوته: “فليحيا الإضراب”. فكانت المدرسة كلها عن بكرة أبيها تغادر الفصول وتتجمَّع في فناء المدرسة، وبعدها يسألون هذا الزعيم فيما كان الأمر اليوم؟ فيكشف لنا ما خفي علينا كطلاَّب منشغلين بالدرس أنهم أسقطوا الوزارة ظلماً وأسقطوا زعيم البلاد من الحكم. وبصوت واحد يُجلجل أرجاء المدرسة، يُنادي هذا الزعيم ونحن من ورائه: “فليسقط الإنجليز، فليسقط الخونة، لتحيا مصر حرَّة… إلخ”. وهكذا نتدافع كلنا خارج المدرسة وقد اشتركنا جميعاً بصوتنا ومشاعرنا في سياسة البلاد.

وكان عملنا هذا يُضاف مع بقية المدارس والجامعة لحساب قوة الوفد وإنزال الخوف على المقاومين. فكانت مصر بطاقة شبابها وراء سياسة البلاد لإسقاط القُوَى المناهضة للحق والعدالة، وتمكين الزعماء الأوفياء من إدارة شئون الحكم كدرعٍ واقٍ. وهكذا كانت السياسة تبني الأجيال. فنشأنا نحن الأقباط على وعي ودراية بما يجري في البلاد، ندفعه إلى الأمام بقلوبنا وأيدينا، ونشعر بكل الثقة واليقين أننا نُشارِك إخوتنا المسلمين في فرحتنا بالانتصارات وأحزاننا في النكسات. فكانت السياسة تجمعنا في نسيج واحد يسعد به الوطن.

قصة في المضمون:

كنتُ في بكور صباي في مدينة المنصورة وكانت الأسرة تكلِّفني صباح كل يوم بشراء الفول المدمس. وفي يوم من أيام شهر أغسطس سنة 1927 الحزينة، خرجتُ كالعادة، وبمجرد أن جاوزت حارتنا وإذا بالشارع الكبير في “ميت حدر” الذي تصطف على رصيفه الدائري كل صباح فئات النسوة يبعن في مشنَّاتهن كل ما يخطر على البال من خيرات الريف؛ لم أجد فيه في ذلك اليوم ولا امرأة واحدة، وجميع المحلات مغلقة. فداهمني الخوف ووقفتُ أنظر، وإذ بضَفْوَةٍ من النسوة، ربما أربعين أو خمسين امرأة، في سواد ملابسهن يمسكن بالطُرَح يحرِّكنها حول رقابهن ويتمايلن يمنة ويسرة في رقصة حزينة مكتومة ويصرخن: “لا حياة من بعدك يا سعد”، فدَاخَلني التعجُّب: ما لهاته النسوة وسعد وموت سعد؟ وأخيراً، أدركتُ كيف تصنع السياسة حينما تكون على مستوى الشعب، فيضحِّي الشعب بلقمة العيش ليُعبِّر عمَّا أصابه بإصابة الأُمَّة. فهو شريكٌ في سياسة الأُمة وكأنها حياته وأعزّ من رزقه. فكانت السياسة تحرِّك الأُمة عن بكرة أبيها كالقلب للجسم. ومن يومها وأنا أجلُّ المنصورة وأحترم شعبها الذي كان على وعي بنبض سياسة البلاد ويشترك في حوادثها الجسام، وهذه هي مصر.

ولكن أين السياسة الآن؟ هي حاضرة، ولكن في صورة مناهج مُتقنة ذات خير عميم، توزَّع على الوزراء ويناقشها مجلس الشعب للموافقة وتستحسنها الصحافة؛ والشعب لا يدري ما يُصنع له أو من أجله، سادرٌ في غيبوبته السياسية وقد فَقَدَ حسَّها، وتغرَّبت هي عن وجدانه. نعم، قد غابت ولم تَعُدْ. فلو كان توفيق الحكيم حيًّا لقلتُ له: لقد كذبتَ علينا أيها الحكيم، فوعي الأُمة لم يَعُدْ بعد.

 

اقترحها للنشر

الأب إسطفانوس دانيال جرجس

خادم مذبح الله بالقطنة والأغانة – طما

stfanos2@yahoo.com