بعض الأمراض الشائعة والمخفية
إعداد المونسنيور د. يوأنس لحظي جيد
أولًا: وصف مرض سوء النية والسوداوية
مرض سوء النية والسوداوية هو حالة نفسية تتميز بـنمط تفكير سلبي ومزمن، حيث يميل الشخص إلى تفسير الأحداث والنيات، حتى المحايدة أو الإيجابية منها، على أنها سيئة أو ضارة، أو خلفها نوايا خفية ومخفية. سيء النية لديه نظرة قاتمة للعالم، يرى فيها الشر والخطر في كل زاوية، ويشكك في دوافع الآخرين، ويتوقع الأسوأ دائمًا.
لا يتعلق الأمر هنا بمجرد ميل للتشاؤم وإنما لحالة مرضية تسيطر على حياة الفرد يمزج بين:
- سوء النية: حيث ينسب الشخص للآخرين دوافع خبيثة أو أنانية، حتى لو لم تكن هناك أدلة كافية على ذلك. يفترض أن الناس يتآمرون ضده أو يسعون لإيذائه.
- السوداوية: وهي حالة من الحزن العميق واليأس، والاعتقاد بأن النتائج ستكون سلبية دائمًا، وأن السعادة مستحيلة أو مؤقتة.
هذا المزيج يؤدي إلى عزلة نفسية واجتماعية، حيث يعيش الشخص في عالم من الشك والخوف، غير قادر على الاستمتاع بالحياة أو بناء علاقات صحية.
ثانيًا: أمثلة على سوء النية والسوداوية من الحياة اليومية
في الكنيسة: مسؤول الخدمة الذي يرفض أي اقتراح ويرى فيه مؤامرة لطرده والاستيلاء على مكانه. كذلك الكاهن أو المكرس الذي يمضي وقته في الاستماع بشغف للهمهمة وللإشاعات والاكاذيب ويحكم على الناس بناءً على اقاويل بدون أدلة. كذلك المسؤول الذي يعيش لزرع الفرقة والتفرقة الزؤوان بين الناس مؤمنا بقاعدة فرق تسد.
في العمل: المدير الذي يرفض أي اقتراح جديد من موظفيه، معتقدًا أنهم يحاولون التهرب من العمل أو أن أفكارهم لن تؤدي إلا إلى الفشل أو أن زملاءه يتآمرون عليه ليأخذوا مكانه.
في العلاقات الشخصية: الزوج/الزوجة الذي يسيء تفسير أي تأخير أو صمت من شريكه على أنه علامة على الخيانة أو عدم الاهتمام، حتى بدون دليل. أو الأب/الأم الذي يعتقد أن أبناءه يهدفون إلى إيذائهما أو استغلالهما.
المتشائم: الشخص الذي يرى غيمة واحدة في السماء فيتوقع أن اليوم بأكمله سيكون كئيبًا وممطرًا أو عندما يتلقى مجاملة، يعتقد أن الشخص الآخر يسخر منه أو لديه دافع خفي أو يرى هرةً سوداء أو عنكبوت أبيض فيبدأ في التشاؤم والخوف مما سيحدث.
الرافض للمساعدة: الشخص الذي يرفض المساعدة من الآخرين، معتقدًا أنهم لا يقدمونها إلا لمصلحة شخصية أو أنهم سيطالبون بالثمن لاحقًا.
مفيش فائدة: الشخص الذي يرى كل شيء بنظارة سوداء ويعتقد أن حياته كلها في خطر وأنه ضحية لسوء الحظ والحسد وأن لا أمل له في النجاح أبدًا.
ثالثا: أمثلة من الكتاب المقدس
الشعب التذمر: كثيرًا ما يتذمر بنو إسرائيل في البرية ضد موسى والله، متهمين إياهم بسوء النية ومرارة العيش، ومتوقعين الموت دائمًا، حتى بعد كل المعجزات التي رأوها.
الجواسيس العشرة غير المؤمنين: عندما أُرسل يشوع اثنا عشر جاسوسًا لاستكشاف أرض الموعد، عاد عشرة منهم بتقارير مليئة بالخوف والسوداوية، مبالغين في قوة الأعداء، ومشككين في قدرة الله على منحهم النصر. لقد زرعوا الشك واليأس في قلوب بني إسرائيل (عد 13-14).
قصة أيوب: تحكي لنا قصة أيوب عن أصدقائه (إليفاز، بلدد، وصوفر) الذين أظهروا سوء نية وسوداوية في تفسير معاناته. فقد افترضوا أن معاناته لا بد أنها نتيجة خطيئة عظيمة ارتكبها، وأن الله يعاقبه، رافضين فكرة البراءة أو الاختبار الإلهي.
الكهنة والفريسيون: غالبًا ما فسروا معجزات يسوع وتعاليمه على أنها من عمل الشيطان أو محاولة لزعزعة السلطة، بدلًا من رؤيتها كدليل على محبة الله وصلاحه. كان لديهم قراءة سلبية حتى تجاه نواياه (مثلًا مر 3: 22، يو 7: 12).
تلاميذ يسوع أحيانًا: حتى أقرب تلاميذ يسوع، مثل بطرس، أظهروا أحيانًا ضعف إيمان وسوداوية. على سبيل المثال، عندما سار بطرس على الماء، بدأ يشك ويغرق بمجرد أن رأى الريح شديدة (مت 14: 28-31).
رابعا: خطورة مرض سوء النية والسوداوية
تتجلى خطورة هذا المرض في تأثيره المدمر على الفرد نفسه وعلى المحيطين به:
على الشخص المصاب:
العزلة الاجتماعية: الشك المستمر وسوء الظن ينفران الناس فيجد المصاب صعوبة بالغة في تكوين صداقات حقيقية أو الحفاظ عليها، وينتهي به الأمر وحيدًا، مما يعمق شعوره باليأس.
التعاسة الدائمة والاكتئاب: توقع الأسوأ باستمرار، والتركيز على السلبيات، يؤدي لا محالة إلى شعور دائم بالحزن واليأس، وقد يتطور الأمر إلى اكتئاب سريري.
القلق والتوتر المزمن: العيش في حالة تأهب دائم للتعامل مع “الشرور” المتوقعة يسبب ضغطًا نفسيًا هائلاً، مما يؤثر سلبًا على الصحة الجسدية (مثل ارتفاع ضغط الدم، مشاكل الهضم، الأرق) وفقدان السلام الداخلي.
الكآبة: الخوف من الفشل أو من خيانة الآخرين يمنع المصاب من خوض التجارب الجديدة، أو متابعة أحلامه، أو الثقة في الفرص المتاحة أو العيش بطريقة سلسة وهادئة.
الشعور بالاضطهاد: قد يطور المصاب شعورًا بأنه ضحية دائمًا، وأن العالم يتآمر عليه، مما يزيد من مرارته وغضبه.
تآكل الثقة بالنفس: يصبح الشخص متشككًا في قدراته وقراراته، ويفقد إيمانه بذاته.
على المحيطين بالشخص المصاب والمجتمع:
تدمير العلاقات: سوء النية والسوداوية يدمران الثقة، وهي أساس أي علاقة صحية. الأصدقاء والعائلة يتعبون من الاتهامات المستمرة، والشك، والنظرة السلبية لكل شيء. وغالبًا ما يَخْتَارُونَالانسحاب والابتعاد.
نشر السلبية: الطاقة السلبية للشخص المصاب يمكن أن تكون معدية، فتؤثر على معنويات المحيطين به وتجعلهم يشعرون بالإحباط.
الخلافات المستمرة: يفسر المصاب النقد البناء كعدوان، والنصيحة كاتهام، مما يؤدي إلى جدالات وخلافات لا تنتهي.
الظلم وتشويه السمعة: يدفع سوء النية المصاب إلى اتهام الآخرين زورًا أو نشر إشاعات سلبية عنهم، مما يضر بسمعتهم دون وجه حق.
التحجر: في العمل أو المشاريع الجماعية، يعيق الشخص السلبي والمتشائم أي مبادرة أو تقدم، مما ينشر الإحباط بين الزملاء.
خامسا: أسباب مرض سوء النية والسوداوية
لا يوجد سبب واحد لهذا المرض، بل هو نتاج تفاعل معقد بين العوامل الوراثية، البيولوجية، النفسية، والاجتماعية، مثل:
تجارب سلبية سابقة: التعرض لخيانة أو إساءة أو خيبة أمل، بشكل متكررة في الماضي ومن أشخاص اعزاء، يولد عدم الثقة وتوقعات سلبية للمستقبل.
صدمات الطفولة: الطفل الذي يتعرض للإهمال، النقد المفرط، أو ينشأ في بيئة غير آمنة يرسخ نمط التفكير السلبي والشك وتوقع الشر بشكل مبالغ فيه.
تدني احترام الذات: عندما يشعر الشخص بعدم الكفاءة أو عدم الأهمية، غالبًا ما يعتقد أن الآخرين يرونه بنفس الطريقة أو يسعون لإيذائه.
أنماط التفكير المشوهة: تقود أنماط التفكير المشوهة مثل التفكير الكارثي (تضخيم السلبيات)، التعميم المفرط (استنتاج أن كل شيء سيء بناءً على حدث واحد)، والتصفية الذهنية (التركيز على السلبيات فقط وتجاهل الإيجابيات)، إلى السقوط في فخ السوداوية وسوء النية.
آلية دفاع: عندما يشعر المرء بانخفاض السيطرة على حياته وأنه لا يملك القدرة على التحكم في حياته أو نتائجه، غالبًا ما يفترض الأسوأ كآلية دفاع.
القلق المزمن: يدفع القلق الشخص لتفسير أي إشارة غامضة على أنها تهديد.
البيئة السلبية: العيش في بيئة يسودها النقد، السلبية، أو عدم الثقة، يمكن أن يعزز نمط التفكير السلبي فنحن ثمرة أيضا للبيئة والمحيط والأسرة التي نشئنا فيها.
التعرض المفرط لأخبار سلبية: التعرض طول الوقت لأخبار الجرائم، الكوارث، والصراعات والحروب والخيانات والاخفاقات يمكن أن تشوه نظرة الشخص للعالم وتجعله يرى الشر في كل مكان.
الضغط الاجتماعي والثقافي: بعض الثقافات والمجتمعات والاعراق تشجع على الحذر المفرط أو الشك كآلية للبقاء.
سادسا: طرق علاج مرض النفسية والروحية
يتطلب علاج سوء النية والسوداوية جهدًا واعيًا ومستمر، وغالبًا ما يتضمن مزيجًا من العلاج النفسي والتغيير في نمط الحياة والدعم الروحي
الخلاصة:
مرض سوء النية والسوداوية هو سجن للنفس، يحجب عنها نور الحياة وجمالها. إنه حالة من الاختيار الحر لسجن الذات في أفكار واعتقادات سلبية لرؤية العالم من نظارة سوداء ترى الشر في كل مكان وتتوقع الأسواء دائمًا فتفقد بهجة الحياة.
فمن الأفضل التعرض للخيانة على العيش دائمًا في قلق التعرض لها، ومن الأذكى التمتع بالحياة على اختيار سجن الذات بين سلاسل التوجس والمبالغة والخوف والقلق.
يتطلب التحرر من هذا المرض رحلة شجاعة نحو تغيير أنماط التفكير، وشفاء الجروح العميقة، وتبني نظرة أكثر تفاؤلًا وثقة في الحياة والآخرين.
إن التغيير ليس سهلًا ولكنه ممكن، ويحتاج إلى أن يُقنع المصاب نفسه بأن الإيجابية والتحرر من ظُلْمَةِ العيش في كهف المخاوف لا يقدر بثمن.
قمنا في الأسابيع السابقة بالتكلم عن:
أولًا: مرض الإنكار
ثانيًا: مرض الإسقاط
ثالثًا: مرض التظاهر
رابعًا: مرض الكذب والإنكار
خامسًا: مرض تبلد أو موت الضمير
سادسًا: مرض التطفل والحشرية
سابعًا: مرض العناد
ثامنًا: مرض الخنوع والعبودية الاختيارية
تاسعًا: مرض التطرف
عاشرًا: مرض الحصان المَيْت
حادي عشر: مرض استغلال الآخرين والتلاعب بهم
ثاني عشر: مرض عمى البصيرة
ثالث عشر: مرض القطيع أو التحجج بالأغلبية
رابع عشر: المراهقة المستمرة وعدم النضج
خامس عشر: مرض الخيانة
سادس عشر: مرض لعب دور الضحية
سابع عشر: مرض الفساد الروحي والأخلاقي والعاطفي والمالي
ثامن عشر: مرض تضخيم صورة الذات
تاسع عشر: مرض الرياء والتملق
العشرون: مرض الشبق الجنسي
الحادي العشرون: مرض الجشع
المرض الحادي والعشرون: مرض نكران الجميل
سنتناول في الأسابيع القادمة بعض الأمراض الأخرى (للحديث بقية).