زيارة البابا لاون إلى تركيا ولبنان وقيمة “قبول الآخر” كضرورة وجودية للشرق الأوسط

زيارة البابا لاون إلى تركيا ولبنان وقيمة “قبول الآخر” كضرورة وجودية للشرق الأوسط

مونسنيور د. يوأنس لحظي جيد

اختار قداسة البابا لاون الرابع عشر، في أولى زياراته الرسولية بعد توليه قيادة الكنيسة الكاثوليكية، التوجه إلى تركيا ثم لبنان، لإطلاق نداء وبياناً لاهوتياً وسياسياً ودينيا قوياً حول قيمة قبول الآخر والمختلف، خاصة في منطقة الشرق الأوسط التي تعاني من انغلاق طائفي وسياسي مزمن. لقد اختيار البابا لاون الرابع عشر الذهاب لتركيا ولبنان للتأكيد على أهمية قيمة قبول الآخر. وبرغم من أن الزيارة تأتي في إطار إتمام التزام سلفه البابا فرنسيس بالاحتفال بمرور 17 قرناً على مجمع نيقية (325 م)، لكن البعد الأعمق للزيارة يتجسد في دعوتين: الأولى الدعوة لقبول الآخر المسيحي، من خلاللقاء الطوائف المسيحية ودعوتها لتعزيز الحوار المسكوني بين الكنائس، والاعتراف بالاختلاف اللاهوتي دون التخلي عن الوحدة الروحية. وثانيا الدعوة لقبول الآخر المختلف ثقافيا ودينيا، من خلالزيارة دولة ذات أغلبية إسلامية يرتبط تاريخها بقلب التاريخ البيزنطي، للتأكيد على ضرورة حوار الحضارات ورفض فكرة الصدام بين الشرق والغرب [هانتنجتون، 1996].

يحمل إضافة لبنان إلى الرحلة، بوصفها “دولة رسالة” [كما وصفها قداسة البابا يوحنا بولس الثاني]، رسالة مباشرة إلى المنطقة للاعتراف بالتنوع كقوة. يمثل لبنان نموذجاً تاريخيا للتعددية الطائفية، ولذا اختاره البابا تأكيداً على أن التنوع الديني ليس لعنة أو ضعفاً، بل هو ثراء حضاري يجب الحفاظ عليه وقبوله كأصل وجودي. رسالة البابا إلى لبنان هي دعوة للبنانيين أنفسهم لقبول بعضهم البعض سياسياً واجتماعياً، ونبذ الانقسام الطائفي الذي يهدد كيان الدولة.

تظهر أهمية قيمة “قبول الآخر” عبر تحليل مرض “رفض الآخر” المستشري في العديد من الدول والمجتمعات. إن رفض الآخر هو كل سلوك أو فكر يرى في الاختلاف تهديداً وجودياً يجب إقصاؤه أو إلغاؤه. يتجلى رفض الآخر في الأحادية الفكرية والدينية والاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة وإقصاء وإلغاء كل ما يخالف هذا التصور بل ومحاربته. يتجلى في انتشار التعصب والانغلاق والتمسك الأعمى بالهوية الفردية أو الجماعية وإغلاق الذات عن التأثير الخارجي أو الفكر المخالف. يتجلى في التطرف والإرهاب كالشكل الأكثر عنفاً لرفض الآخر، حيث يتم تبرير العنف الجسدي أو المعنوي ضد المختلف باسم الحقيقة المطلقة.

على الرغم من أن منطقة الشرق الأوسط كانت مهد الأديان والحضارات، إلا أن رفض الآخر فيها له جذور معقدة مثل التوظيف السياسي للطائفية حيث يتم استغلال الانقسامات الدينية والاثنية من قبل الأنظمة السياسية كأداة للسيطرة والحكم، مما جعل الهوية الفرعية تطغى على الهوية الوطنية. كذلك غياب ثقافة ديمقراطية حقيقية ومتجذرة. إن الافتقار إلى فضاءات ديمقراطية حقيقية يمنع التنافس السلمي للأفكار، ويجعل المختلفين يرون بعضهم البعض كأعداء يجب إقصاؤهم بدلاً من شركاء في الوطن. يضاف إلى هذا الصراعات التاريخية والإقليمية الطويلة في المنطقة والتي كرست ثقافة العداء المتبادل والشك، مما أدى إلى ترسيخ الانغلاق [مركز دراسات الشرق الأوسط، 2023]. وأخيرا الاعتقادات الدينية المتطرفة حيث يتم استخدام النصوص الدينية لتبرير الكراهية والتعصب بدلا من نشر المحبة والتسامح، مما يخلق ثقافة دينية تبرر وتشجع الاقصاء والإرهاب ورفض المختلف. يضاف إلى هذا الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والفشل في تحقيق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية يخلق بيئات خصبة لنمو التطرف والإقصاء، حيث يتم تحميل “الآخر” مسؤولية الفشل.

إن الدعوة البابوية إلى قبول الآخر ليست ترفاً أخلاقياً، بل هي ضرورة وجودية لإنقاذ المنطقة من التفكك والانهيار. قبول الآخر هو الضمانة الوحيدة لبقاء وتماسك المجتمعات التعددية. فإذا لم يتم قبول الآخر دينياً أو عرقياً، فإن النتيجة الحتمية هي التطهير العرقي أو الطائفي والهجرة القسرية، مما يفقد المنطقة ثراءها البشري والتاريخي. إنها دعوة لمكافحة الإرهاب عبر رفض الأحادية الفكرية والدينية التي يتبناها المتطرفون. قبول التنوع هو حائط الصد الفكري الذي ينزع الشرعية عن خطابات الكراهية والإقصاء. إنها نداء لفهم أنه لا يمكن تحقيق التنمية المستدامة والاستقرار السياسي دون تحقيق السلم الأهلي الذي يتطلب قبولاً كاملاً ومؤسسياً لحق الجميع في المشاركة الكاملة دون تمييز [البنك الدولي، 2021]. إن قبول الآخر هو جوهر المبادئ الإنسانية والدينية، التي تؤكد على أن الكرامة متأصلة في كل إنسان بغض النظر عن عقيدته أو فكره.

إن زيارة البابا لاون الرابع عشر إلى تركيا ولبنان هي نداء وإعلان لمبدأ أنه لا مستقبل للشرق الأوسط دون قيمة قبول الآخر. هذا القبول ليس مجرد تعايش سلبي أو تحمل للوجود المختلف، بل هو تسامح إيجابي يرى في التنوع مصدراً للقوة وشرطاً للوحدة الوطنية والإقليمية. إن رفض التعصب والانغلاق والأحادية الفكرية، كما دعت الزيارة، هو الخطوة الأولى والضرورية نحو استعادة السلام والتوازن في المنطقة. يبقى “قبول الآخر” المختلف هو المقياس الأهم لحقيقة التقدم الحضاري، فكلما ازداد الرفض كلما ازداد الانحطاط والتخلف والتراجع والتعصب والانهيار وكلما ازداد قبول الآخر المختلف دينيا وثقافيا كلما ازداد التحضر والتقدم والازدهار والسلام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *