وباء التحرش الجنسي وفضيلة العفة

وباء التحرش الجنسي وفضيلة العفة

مونسنيور د. يوأنس لحظي جيد

يؤكد الإطار الحقوقي والأكاديمي، خلافًا لبعض المفاهيم الثقافية التي تربط التحرش بالاعتداء الجسدي الصريح فقط، أن التحرش الجنسي يكمن في كل ممارسة لفظية وجسدية تقوم على عدم الرضا من الطرف المجني عليه، وفي انتهاك لحدود الحرية الشخصية، وهو سلوك وظاهرة تُعبر عن عدم التحكم في الغرائز الجنسية مدفوعة، وتقوم في جوهرها على الرغبة في ممارسة القوة والسلطة على الضحية. التحرش الجنسي، بحسب منظمة العمل الدولية 2022، هو إذا كل سلوك جنسي منحرف، ينتهك كرامة الضحية، ويخلق بيئة مخيفة وعدائية ومهينة. إنه يشمل كافة السلوكيات، سواء أكانت لفظية (تعليقات أو تلميحات)، أو غير لفظية (نظرات أو إيماءات)، أو جسدية (لمس أو اعتداء).

بالرغم ما يحيط بالتحرش الجنسي من خجل واستحياء وإنكار واستنكار، بل ومحاولة للتقليل من خطورته، إلا أنه مرض منتشر كالنار في الهشيم، ويمثل تحدياً شخصيًا ودينيًا، محليًا وعالمياً، لأنه يتجاوز الحدود الثقافية والاجتماعية. إنه وباء يلتهم الكثير من المجتمعات وخاصة تلك المنغلقة والتقليدية والمحافظة والتي تدعي الالتزام بالتدين الظاهري وتمارس الطقوس والشعائر في الميادين والساحات والبرامج التليفزيونية. لدرجة أنه يُلاحظ انتشار هذه الظاهرة بشكل لافت في المجتمعات الأكثر انغلاقا وتلك التي ترفع راية التدين والحشمة، مما يخلق تناقضاً اجتماعياً حاداً. فكلما زادت المظاهر الدينية المزيفة زادت نسبة التحرش الجنسي سواء بين المدعين التدين أو حتى بين رجال الدين أنفسهم، وهذا يشمل التحرش بالنساء والرجال والأطفال وحتى كبار السن وبأصحاب الهمم وذوي الإعاقة. إنه مرض يزور كافة الأماكن ويضرب كافة المستويات فنجده في النوادي، وأماكن العمل، والمواصلات، والنوادي الرياضية، ودور الرعاية، والمستشفيات والمدارس وحتى دور العبادة وأقدس الأماكن. نجده بين المتزوجين والعازبين، بين الشباب والكبار، بين المراهقين والبالغين، بين المسؤولين والعاطلين.

تعود أسباب هذا الانتشار إلى سببين رئيسيين. الاول مرتبط بعوامل البنية الاجتماعية والثقافية. في المجتمعات المصابة بهذا الوباء، غالباً ما يتحول التركيز من مساءلة المتحرش إلى لوم الضحية، وخاصة المرأة، على مظهرها أو وجودها في مكان عام [مركز الدراسات الاجتماعية والقانونية، 2018]. مما يكرس ثقافة الصمت بل ويشجع المتحرش على الإفلات من العقاب. وهو ما نطلق عليه ثقافة لوم الضحية. كذلك انتشار القمع الجنسي والازدواجية الأخلاقية. فكافة محاولات القمع الجنسي التي تمارسها المجتمعات المغلقة والرقابة الصارمة على العلاقات بين الجنسين تخلق بيئة من الكبت النفسي. هذا الكبت، بدلاً من أن يولد العفة الحقيقية، يتحول إلى سلوكيات عدوانية يتم تفريغها في الأماكن العامة حيث يكون المتحرش آمناً من المساءلة الاجتماعية المباشرة [الباجي، 2015]. أخيرا الخلط بين العفة والستر، فيُساء فهم فضيلة العفة، ويتم اختزالها غالباً في “ستر” الجسد، والتستر على الجاني والمجني عليه، والخوف من الفضيحة، متجاهلين أن العفة هي قبل كل شيء فضيلة باطنية تُترجم من خلال ضبط النفس والتحكم في الغرائز البدائية والسلوك باستقامة لكلا الجنسين. هذا الخلط يضع عبء الأخلاق كاملاً على الضحية (المرأة والطفل، والمجني عليه)، ويُعفى المتحرش من المسؤولية الأخلاقية عن نظرته وسلوكه.

السبب الثاني مرتبط بتفسير النصوص الدينية وبوجود خلل في موازين المساواة بين البشر. ففي العديد من البيئات التقليدية، يتم منح الرجال سلطة اجتماعية وأخلاقية أحيانًا غير محدودة، وتبرير كافة تصرفاتهم، لدرجة جعل التحرش وسيلة يستخدمها الأفراد وأصحاب النفوذ لتأكيد وممارسة هذه السلطة على حساب ضعف المرأة وعجز الضحية اجتماعياً. يؤدي كل هذا للأسف لغياب الردع القانوني والاجتماعي الحقيقي. لدرجة أن المجتمعات التي تتظاهر بالتدين تخلق في حقيقة الأمر نوعا من التسامح مع التحرش أو تبرر السلوك المنحرفة، فتجعل هذا السلوك غير المقبول ينتشر أكثر، مما يفسر التناقض والازدواجية بين الخطاب الديني الأخلاقي الظاهري والرسمي والسلوك الفردي والجماعي المنحرف.

تتطلب مقاومة التحرش الجنسي أكثر من الشجب والتصريحات وتحتاج إلى تطبيق استراتيجية شاملة تشمل الجوانب القانونية، التربوية، والأخلاقية، والدينية. فلا يمكن علاج التحرش إلا من خلال سن تشريعات وتطبيق الردع القانوني الصارم، وتشريع وتفعيل القوانين الصارمة التي تُعرّف التحرش بشكل واضح، وتضمن محاكمة عادلة للمتحرشين، وتوفر حماية قانونية ودعم نفسي للضحايا. يجب أن تكون الأحكام الرادعة وغير قابلة للتأويل أو التبرير أو التسامح الاجتماعي. تتطلب المقاومة أيضًا تغيير ثقافة لوم الضحية وتعميق الوعي بأن التحرش هو جريمة لا تبرير لها. والعمل من خلال الأسرة والمدرسة لتعزيز مفاهيم احترام الجسد والحدود الشخصية والموافقة لكلا الجنسين. يجب كذلك على المؤسسات الدينية أن تكون في طليعة محاربة هذه الظاهرة، عبر تبني خطاباً لا يقبل الازدواجية الأخلاقية، يشدد على أن التحرش هو جريمة صريحة وانتهاك لكرامة الإنسان، ويُحرِّم الإساءة للآخرين تحت أي ذريعة.

اعتقد شخصيا أن فضيلة العفة هي “الترياق” الحقيقي لمواجهة سلوك التحرش الذي يمكن وصفه بـ”الأخطبوط” الذي يمد أذرعه في المجتمع. العفة في الفكر والقول والسلوك الأخلاقي. العفة في النظر واعتبار “أنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ”، كما يقول السيد المسيح. فالتحرش يبدأ بالنظر بطريقة غير سوية وبفكرة مريضة تتحول إلى انحراف وعمل اجرامي ومرضي.

العفة لا تعني مجرد الامتناع عن العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، بل هي فضيلة تشمل “ضبط النفس” و”احترام كرامة الآخرين”. إنها التدرب على ممارسة القدرة على التحكم بالغرائز والشهوات وتوجيهها نحو ما هو إنساني وأخلاقي، وتجنب تحويل الآخر إلى مجرد موضوع لإشباع الرغبة. إنها احترام وجود الآخر، جسده وحدوده، وعدم اختزاله في بُعده الجنسي. العفيف هو من ينظر إلى الآخر كـ”شخص” يتمتع بكرامة مقدسة، وليس كـ”شيء” يمكن استخدامه.

العفة هي الدرع الأخلاقي الذي يحمي الشخص من أن يصبح متحرشاً. فالعفيف يتحمل مسؤولية نظراته وأفكاره وسلوكه، ولا يُلقي باللوم على الآخر أو على البيئة المحيطة. يظل العفيف عفيفا بين المنقبات والعاريات، في الأماكن المقدسة كما في أماكن اللعب والتبرج. العفة تُظهر النزاهة الباطنية ومن خلالها نقيس الانسجام بين التدين الظاهر (الخارجي) وبين السلوك الباطني (الداخلي)، مما يُنهي الازدواجية الأخلاقية التي تولد التحرش.

التحرش الجنسي يمثل دليلاً على الفشل الأخلاقي والاجتماعي في تطبيق القيم الإنسانية والدينية التي تدعو إلى الكرامة والاحترام المتبادل. ويمثل انتشاره الدليل القاطع على الازدواجية القاتلة بين الظاهر والباطن، بين الادعاء والواقع، بين الشعائر والحياة، بين اتهام الآخرين بالانحراف وتبرير المتحرشين، بين إبراء البريء وعقاب المذنب، بين الانجراف الجنسي والمجتمعي والديني والرغبة الحقيقية في العلاج. إن مواجهة هذا “السلطان السام والمدمر” تتطلب إصلاحاً قانونيًا وتربوياً وأخلاقياً عميقاً. تتطلب التربية على فضيلة العفة، لضبط النفس واحترام الآخر. تبني العفة، كنهج أخلاقي سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، هو العلاج الأنجح لننظر إلى الجميع كأشخاص يتمتعون بالكرامة، وليس كأشياء للاستخدام أو الانتهاك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *