مونسنيور د. يوأنس لحظي جيد
أمام طوفان الأخبار الكذبة (Fake News) والصور المفبركة والفيديوهات المصنوعة بالذكاء الاصطناعي وعصر تبادل المعلومات الصحيحة والكاذبة بسرعة البرق، وأمام صعوبة التمييز بين الأصيل والمزيف دعونا نتساءل حول قيمة الحق ومعناه وحاجتنا لها سواء في الحياة الشخصية أو العمل أو في التعاملات اليومية مع النفس ومع الآخرين. وكيف نحمي أنفسنا من وباء التضليل والتشويه الذي نؤثر فيه ويؤثر علينا ويتحكم كثيراً في الرأي العام ويشوه سمعة الناس والمؤسسات والدول وحتى القامات والشخصيات العامة؟
إنها ظاهرة تشملنا جميعاً ولا أحد يستطيع الادعاء بأنه ليس جزءاً منها. فنحن إما من ضحاياه أو من المساهمين في انتشارها وتغولها. نرى كل يوم آلاف الأخبار والصور الفيديوهات والتعليقات ونشارك في نشرها وتقاسمها مع الآخرين لدرجة أننا أصبحنا، سواء عن قصد أو من دون قصد، «شركاء في النشر وترويج» لما هو صالح وأحياناً لما هو طالح وفاسد أحياناً أخرى.
ظاهرة لا يمكن فهمها أو التعامل معها بطريقة صحيحة من دون التعمق في قيمة الحق والتمرس على فضيلة التمييز بحكمة. فالأشياء تُفهَم بنقيضها، والمعادن تُمتح بالنار، ويبقى الزمان هو المقياس بين الباقي والزائل، بين الثابت والعابر، بين الدائم والفاني. فنحن نعي قيمة النور عندما يغشانا الظلام، وقيمة الطعام عندما ينهشنا الجوع، وقيمة الصحة عندما يزورونا المرض، وقيمة الأخلاق عندما تدهسنا القباحة، وقيمة الوطن عندما نتغرب أو نتشرد، وقيمة الأسرة عندما نتذوق مرارة الوحدة، وقيمة الصداقة عندما يهرب الجميع، وقيمة الأمانة والولاء عندما نتعرض للغدر والخيانة. كذلك، لا نستشعر القيمة الحقيقية للحق إلا عندما يغمرنا زيف الأخبار الكاذبة والعلاقات المزيفة.
يبقى إذا التمسك بقيمة الحق، في تصرفاتنا وأقوالنا وتصريحاتنا وعلاقاتنا، هو المرسى الأكيد لضمان العدل الاجتماعي، واستقرار المجتمعات، والحصن الآمن لمنع الظلم والفوضى، وتبقى القيمة الدينية والإنسانية التي تدعو لها كافة التقاليد الدينية، ويقاس على أساسه حقيقة إيمان الأشخاص وحقيقة تدينهم ودينهم. فالسعي للعيش بحسب الحق (الحقيقة والعدل)، والدفاع عنه يعتبر جزءًا أصيلاً من العبادة الحقة والتدين الصالح. إن الحق هو طريق الحرية، يقول السيد المسيح: «تَعْرِفُونَ الْحَقَّ، وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ». فلا حرية حقيقية أو خلاص من دون الالتزام الحقيقي بالحق والحقيقة.
يبقى التمسك بقيمة الحق، برغم طوفان الأكاذيب، هو النور الذي يهدينا ويرشدنا في خضم الفوضى والميزان الأخلاقي الذي بدونه تنهار الكرامة الإنسانية ويختل مكيال الحقيقة.
ليس الحق إذا مجرد فكرة نظرية، بل هو مبدأ أخلاقي وسلوك عملي يجب أن يتحول إلى تصرفات وأقوال يومية، ويترجم إلى التزام بالصدق والمسؤولية. إنه عمل وسلوك نلتزم به كأفراد ومجتمعات عندما نطالب بالمساواة أمام القانون وعندما نكافح الفساد والمحسوبية في المؤسسات، عندما نطبق العدالة المطلقة على الجميع دون محاباة، حتى على أقرب الناس. فحتى الدولة المدنية الحديثة تأسيس على حماية الحقوق والحريات الفردية من الظلم والتعسف، تطبيقاً لمبدأ أن الجميع متساوون أمام القانون.
يظهر الحق في قوة الموقف والالتزام بالمبدأ في وجه الضغوط الاجتماعية أو السياسية في العمل والأسرة والمجتمع.
تُترجم قيمة الحق على المستوى الشخصي عندما نكون صادقين في تعاملاتنا مع الناس، ومنصفين في أحكامنا على الآخرين، ومدافعين عن حقوق الضعفاء والمظلومين، ومسؤولين عن أداء واجباتنا قبل المطالبة بحقوقنا. هذه المبادئ هي التي تحول الحق من مجرد كلمة إلى قوة حية تبني الحضارات وتصون كرامة الإنسان.
أمام طوفان الأخبار الكاذبة والمفبركة يبقى التمسك بقيمة الحق هو النور الذي يهدينا ويرشدنا ويؤنبنا، ينصحنا ويعاتبنا. يبقى الأساس الذي نبني فوقه إما أوهام التعجرف والاستعلاء والتشويه والتضليل وإما أبراج العدل والصدق والنزاهة والحيادية. يبقى المؤشر لحقيقة معدننا والمقياس الصادق لأصالة أقوالنا وإيماننا ومعتقداتنا. إنه إحدى صفات وأسماء الله القدوس وبصمة المتعالي فينا. فكل إنسان يعيش بحسب قيمة الحق يقترب من النور الإلهي، وكل إنسان يجافيه يبتعد عن الله عز وجل.
