المونسنيور د. يوأنس لحظي جيد
أمام نجاح شخص مُسلم في انتخابات عمدة نيويورك، هل يحقّ لنا أن نتساءل حول خرافة الإسلاموفوبيا؟ وحول المجتمعات الديمقراطية التي تحترم الكرامة الإنسانية من دون تفرقة أو تمييز بين الناس، وحول ظاهرة التناقض بين التحدّث عن الكرامة الإنسانية في مجتمعاتنا وفي المؤتمرات والمحافل العامة ووصفها بأجمل العبارات واعتبارها خطاً أحمرَ لا يجوز تخطّيه، وفي الوقت ذاته صعوبة عيشها وحمايتها وتطبيقها في أرض الواقع. فلماذا هذه الهوَّة الساحقة بين المبدأ والتطبيق، بين الشعارات والأفعال، بين التصريحات والواقع؟
الكرامة الإنسانية من حيث المبدأ
تحدّث شيشرون عن الكرامة الإنسانية وفقاً لمفهوم مزدوج: من جهة، يسمو الفرد فوق الطبيعة كحيوان عاقل، ومن جهة أخرى، يشغل مكانة داخل المجتمع تنبع من تميّز ونُبل أفعاله في خدمة الصالح العام. وقد كان كانط في عام 1700 من أوائل من أشاروا بشكل أكثر دقة إلى المفهوم الحديث للكرامة الإنسانية: «يوجد الإنسان وبوجه عام كل كائن عاقل، بوصفه غاية في ذاته، وليس مجرد وسيلة يمكن أن تستخدمها هذه الإرادة أو تلك وفق هواها. ففي جميع هذه الأفعال، كما في تلك التي تخصّ ذاته والتي تخصّ الكائنات العاقلة الأخرى، يجب دائماً اعتباره غاية في ذات الوقت» (أساس ميتافيزيقا الأخلاق، إيمانويل كانط، لاتيرزا، روما-باري 2010، ص 89).
المفهوم المعاصر للكرامة الإنسانية هو بلا شك نتاج لتطوير مفهوم «الشخص» في الفلسفة والفكر الغربي المتأثرة بالفكر المسيحي، وبالإيمان بأن الإنسان قد خُلق على صورة الله تعالى وتكمن كرامته في هذه الهِبة الإلهية التي تميزه عن بقية المخلوقات وتصاحب وجوده منذ لحظة وجوده. على هذا الأساس تُعتبر الكرامة الإنسانية قيمة جوهرية غير قابلة للتصرف، يمتلكها كل إنسان لمجرد كونه إنساناً، بغض النظر عن عمره أو جنسه أو أصله أو أي سمات أخرى مثل الجنس، أو اللون، أو الأصل، أو الدين، أو الوضع الاجتماعي. وتقتضي هذه القيمة الاحترام الكامل لحقوقه الأساسية والأخلاقي والأدبية والتعامل معه بمسؤولية، ورفض التمييز بين الناس، والإيمان بأنّ جميع الناس متساوون في استحقاق الاحترام.
الكرامة الإنسانية هي أيضاً مبدأ قانوني عالمي لا يتجزأ، لا يمكن اكتسابه أو فقدانه، أو التصرف فيه، أو التنازل عنه، يحمي الفرد من أن يُعامل كمجرد وسيلة لتحقيق غاية ما. يعرّف معجم المعاني الجامع الكرامةَ الإنسانيةَ على أنها «مبدأ أخلاقيّ يُقرِّر أنّ الإنسان ينبغي أن يُعامل على أنّه غاية في ذاته لا وسيلة، وكرامته من حيث هو إنسان فوق كلِّ اعتبار»، وبالتالي لا يجوز لأي سُلطة دنيوية أن تنتقص من الكرامة الإنسانية، بل يُعدّ احترامها جزءاً لا يتجزأ من الواجبات المدنية والدينية والأخلاقية للفرد والمجتمع.
إنها الأساس الذي تُبنى عليه جميع الحقوق والحريات الأخرى ولا سيما المرتبطة بحقوق الإنسان. وقد أثّر مفهوم الكرامة الإنسانية على كافة المعاهدات والقوانين والمواثيق الدولية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وعلى عدد من دساتير العديد من الدول، على سبيل المقال: ميثاق الأمم المتحدة (26 يونيو 1945)، دستور اليونسكو (الذي صيغ في لندن في 16 نوفمبر 1945)، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (10 ديسمبر 1948)، ميثاق الحقوق الأساسية للاتحاد الأوروبي (7 ديسمبر 2000)، ومعاهدة لشبونة (13 ديسمبر 2007).
يؤكد هذا أنّ الكرامة الإنسانية هي الأساس القانوني الذي تستمد منه الحقوق الأخرى قوتها ومقاصدها، فتتفق جميع القوانين الدولية على أن احترام الكرامة الإنسانية ليس مجرد خيار أخلاقي، بل واجب مطلق وضرورة مُلحِّة، لدرجة أن مقياس التحضّر والتقدم لأي مجتمع أو دولة يقاس بمدى احترام تلك المجتمعات أو الدول أو الجماعات لمفهوم الكرامة الإنسانية، ولا سيما للضعفاء والمختلفين معنا في اللون والجنس والدين والثقافة واللغة. إنّ التمدّن يقاس بميزان احترام حقوق الضعفاء وذوي الهمم والمهمَّشين. فالدُول الأكثر تقدماً هي تلك التي تحترم حقوق المرأة والأقليات والمرضى والمهاجرين وتوفر لمواطنيها حياة كريمة ورعاية صحية وعدالة أمام القانون وحرية التعبير والاعتقاد والتفكير.
الكرامة الإنسانية من حيث التطبيق
برغم أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) ينصّ في ديباجته على أن «الإقرار بما لجميع أعضاء الأسرة البشرية من كرامة متأصِّلة فيهم، ومن حقوق متساوية وغير قابلة للتصرف، هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم». وتنصّ المادة الأولى منه: «يُولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق»، إلا أنّ العالم يرى ويشهد ويعيش العديد من الأوضاع التي تُنتهك فيها كرامة الإنسان، سواء في أماكن الحروب والصراعات، أو في الدول التي لا تحترم حقوق الأقليات ولا تُساوي بين الرجل والمرأة، والتي تنتهك حقوق الأطفال في التعليم والرعاية والأمن والأسرة، وحقوق المسنين وذوي الهمم في الرعاية الصحية والاجتماعية والإنسانية.
إنّ اختبار احترامنا للكرامة الإنسانية يظهر ويتجلّى عندما نراقب أنفسنا وكيفية تعاملنا مع الضعفاء، ومع الحيوانات الأليفة، ومع المرضى، ومع الأقل منّا حظا ومالاً وعلماً، ومع المختلفين معنا في اللغة والدين والثقافة والمستوى الاجتماعي.
في أرض الواقع اليومي تُنتهك الكرامة الإنسانية في كل مرة يُفرض على الناس أيديولوجية بعينها. تُنتهك في كل مرة تَسحق الأغلبية حقوق الأقليات والمهمَّشين. تُنتهك في كل مرة يُمارس التمييز على أساس الدين أو الجنس أو اللغة أو الانتماء العرقي. تُنتهك في كل مرة نُحِلُّ لأنفسنا ما نرفضه ونمنعه عن الآخرين. تُنتهك في كل مرة نتعامل مع المختلفين عنا بمنطق التعالي أو التحقير… تُنتهك في كل مرة نعتقد أننا أفضل من الآخرين وأنّ لدينا حقوقاً أكثر منهم، معتقدين بأنّ الله تعالى قد ميّزنا عنهم، ونسمح لأنفسنا باستغلالهم أو الصمت أمام ظلمهم ومظاليمهم أو استخدامهم كأشياء لا كأشخاص. تُنتهك في كل مرة نُدافع عن الكرامة ببسالة وقوة فقط عندما يتعلّق الأمر بنا أو ببلدنا أو بأهلنا وعشيرتنا ونصمت عندما يتعلق الأمر بالآخرين وحقوقهم وأوطانهم وحريتهم. تُنتهك في كل مرة نرى ونقيّم الأوضاع بمقياس رؤيتنا الدينية والمجتمعية والمعرفية الضيقة، ولا نطبق القاعدة الذهبية: «افعلوا بالآخرين ما تُريدون أن يفعلوا بكم».
فهل سنرى يوماً في مجتمعاتنا الشرق أوسطية احتراماً لمبدأ الكرامة الإنسانية التي تسمح بانتخاب أشخاص بناء على إمكانياتهم وملكاتهم، وليس على انتمائهم الديني؟
