مَنْ هُوَ الله عند آباء الكنيسة الأوائل

لن نجيب عن السؤال بمنهجيّة "علم الأديان" وتاريخه، أو عند بقيّة العلوم الإنسانيّة، لنترك ذلك لذوي الاختصاص. ولكننا نحاول الإجابة عنه في المسيحيّة الناشئة عند آباء الكنيسة في القرن الثاني الميلادي تحديداً، حيث نشأ ما يُسمّى اليوم "علم اللاهوت". مستعرضين أولاً بعض المقدّمات، التي لا بدّ منها، للتعريف عن هذه النوعيّة من "الفكر".
أولاً: مقدّمات لا بدّ منها
1. علم اللاهوت: تفعيل العقل في الإيمان
إن لفظة "علم اللاهوت"، في الإنكليزيّة ((Theologyكمافي الفرنسيّة ومعظم اللغات (..,Theologia,Théologie)، مُركّبة من لفظتين يونانيّتين: "ثيوس" (Theos) وتعني الله، و"لوغيّا" (Logoia) وتعني كلام أو تفكير أو علم. أي أن "علم اللاهوت"، "علم الله"، مبحثٌ يسعى للإجابة عن سؤال أساسيّ في حياة الإنسان، والمؤمن بنوعٍ خاص، هو: "مَنْ هُوَ الله". إنّه، بتحديد المعنى، التفكير في ماهيّة الله.. مَن يكون، كيف يكشف عن ذاته، ما دوره في الكون والتاريخ والإنسان، ما علاقة الإنسان في هذا الكشف… علم اللاهوت هو محاولة فهم الإلهي، والتعبير عنه على ضوء العقل، أو بمساهمة العقل، وفق المعطيات الدينيّة وما توصّلت إليه العلوم الإنسانيّة وعلوم الآداب عموماً فالإيمان "يتطلّب الفهم" على حدّ تعبير القديس انسلم.. وربما يقابل هذا العلم بالعربية "علم الكلام"؛ وهو العلم الذي "يدافع عن العقائد الإيمانيّة بالأدلة العقليّة"
[1]..
قد يبدو للوهلة الأولى أننا نستبيح للعقل إدراك حقيقة الإيمان كاملةً، فيتعرّف على "مَنْ هو الله" بشكل واضح وكامل، كما هو مألوف في توصيف العلوم التجريبيّة (؟؟..)، ولكن سرعان ما نستنتج: أننا نستطيع عقليّاً، أن نبحث وندرس الإجابة عن سؤال الـ"مَنْ هو.."، ولكن في حدود منهجيّة خاصة، ككل علم، وما لها من أُسس وقواعد. المنهجية هنا هي مفهوم "السرّ".
2. منهجيّة السرّ
إن معنى لفظة "سرّ"، في الأصول اللغويّة اليونانيّة للكلمة (Mystirion)، وبحسب نشأة "علم اللاهوت"، هو "الأمر المخفيّ أو المحجوب". الأمر الذي لا يستطيع العقل إدراك حقيقته كاملاً. إذ أن الحقيقة ليست فقط فيما يظهر ويُعقل. وهذا لا يعني أنه ضد العقل، بل يفوق العقل. الحقيقة العميقة صعبة التعبير، كاختبارات الحب والجمال والصبر والإبداع… فغالباً ما يكون الأعمق فيها هو ما قد حُجب. الأمر الذي يدعو إلى الرمز والعلامة، إلى التساؤل والتأمل، إلى الحيرة والدهش.. وكثيراً ما يدعو إلى الصمت والترقب
[2]. أي أنه، في بحثنا عن "مَنْ هو الله" (علم اللاهوت)، علينا القبول سلفاً أن هناك ما يتجاوز العقل وإن لم يكن ضده، إذ لا يمكن أن يكون في مسألة الإيمان ما يناقض العقل وإلا ما أصبح إيماناً بل فرضاً. وككل العلوم، علينا في هذه الدراسة ("مَنْ هو الله..")، أن نغوص مستغرقين في أفعال البحث والتأمل والاختبار، دون أن نلغي حدود العقل.
يُحكى أن موسى في العهد القديم، الذي كان يصعد إلى جبل تجليات الله، قد طلب إلى الله أن يشاهد وجهه لكي يخبر الشعب بمصداقية مشاهداته، فيتمنّع الله مفسِّراً: "أما وجهي فلا تستطيع أن تراه، لأنه لا يراني الإنسان ويحيا". ويريه في نهاية الحوار "ظهره". ويسأله أيضاً عن اسمه، فيجيب "أنا هو الذي هو.." (الكائن هُوَ هُوَ.. كما نقول في ليتورجيّة القدّاس).. عندما ينزل موسى من الجبل يضطر أن يضع على وجهه "حجاباً"، لأن الناس لم يستطيعوا أن ينظروا إليه لشدة النور الصادر منه، لأنه رأى ظهر الله!! (خروج 33/18-23 و29-35).
الله سرّ.. الإنسان سرّ.. الكائنات في مداها الواسع، سرُّ أيضاً!.. هناك علوم للكائنات كلُّ حسب اختصاصه، ولكل علم منهجيّاته وأدواته.. هناك "العلوم الإنسانيّة"، ولها تالياً هي الأخرى أدواتها ومنهجيّاتها.. ولله أيضاً "علم"!.. هو الآخر له أدواته ومنهجيّاته، التي لا تنفكّ مستفيدة ومستعيرة ما يلزمها وما ينسجم معها من بقيّة العلوم، ولكن ضمن المنهجيّة الأساسيّة وهي القبول بمبدأ "السرّ"!..
لذلك علينا أن نَعْبُر، كما يدعونا القديس غريغوريوس النيصي (القرن الرابع) من الرغبة في القبض على معرفة الله بشكل كامل ونهائي إلى "الفرح بحبّه"، في علاقة نموّ وتدرّج، تتجاوز أحياناً حاجاتنا المعرفيّة وتسمو عليها
[3].
3. السؤال عن "سرّ" الله لن ينتهي
يقال أن القديس أُغسطينوس (القرن الرابع أيضاً)، بينما يفكّر بحقيقة سرّ الله، وقد أراد القبض عليها كاملةً، رأى طفلاً ينقل في كفّه الصغير مياه البحر إلى حفرة صغيرة، فاستهجن ذلك. والطفل بدوره، استهجن رغبة أُغسطينوس القبض، بدفعة واحدة، على حقيقة الله كاملة!.. ما يفيد في هذه المقاربة هو أنَّ الحفرة تستوعب مياه البحر بقدر الجهد المبذول لاتساعها، لن تستوعب البحر كاملاً! ولكن كلَّما اتسعت استوعبت مياهه أكثر. كذلك محاولة الإجابة عن سؤال "مَنْ هُوَ الله" تتسع يوماً بعد يوم، دون أن تصل إلى نهاية!.. الحقيقة لا تحدّ.. وكما تقول "معلّمة الكنيسة" القديسة تيريزيا الأفيليّة (القرن السادس عشر)، "إنَّ الله لا يحدّ".
"علم اللاهوت" إذاً، لا يلغي من العقل التأمل والتساؤل، بل يمنح الإنسان، كما يقول اللاهوتي المعاصر بلتسار، أن "ينتقل من نطاق حياته الضيق المستكين إلى رحاب إمكانية دخول حياة الله، أشبه بمن تنفتح أمامه مساحات شاسعة لا يحدها النظر، بل تقطع على المرء أنفاسه… وهكذا تتكدس، بشركة القديسين في الله، وإلى أبعد ما يمكن إحصاؤه، مغامرات الحب الخلاّق المبدع، فتصبح الحياة أعجوبة مطلقة، ولن يُعطى أيُّ شيء يقضي على إمكانية القبول، وعملية العطاء تنتشر لا تحدّها حدود"
[4].
4. الإجابة عن "مَنْ هو الله" تآزريّة بين الله والإنسان
إن محاولة الإجابة عن السؤال عن "مَنْ هو الله"، بحسب الآباء الشرقيين، هو حركةٌ تآزريّة (Synergy) بين الله والإنسان، تهدف إلى إشراك الإنسان في حياة الله. إنه معرفةٌ وفن، علمٌ وإبداع، مبادرة واستقبال. فلم ينسج آباؤنا اللاهوت في المقالات وحسب؛ بل، في الأناشيد والأشعار، في الأيقونات والرموز، في الحركات والتعابير.. في الصلاة!.. إذ أن حقيقة الله، وحقيقة لقاء الله والإنسان هما، رغم بساطتهما، صعبتا التعبير!.. مَنْ يستطيع التكلّم عن الله؟ أو حتى عن الإنسان؟ فكم بالأحرى عن العلاقة بينهما؟ فالحقيقة العميقة تحتاج مع الفكر إلى الرمز، ومع المعرفة إلى الفن. يقول افاغريوس البنطي أحد آباء الكنيسة في القرن الرابع: "أنت تُصلّي فأنت لاهوتيّ"
[5].. فإذا كنتَ "لاهوتيّاً"، أي تحاول الإجابة عن هذا السؤال فلا بدّ لك ألا تكتفي بدلالات العقل بل عليك أن تقرنها بالصلاة. وتقول القديسة تيريزيا الطفل يسوع (القرن التاسع عشر، التي أُعلنت مؤخراً هي الأخرى "معلّمة الكنيسة"): نتكلّم كثيراً عن الله، ولكن علينا، بدل أن نتكلّم عنه، نتكلّم معه.
5. إنثقاف الإجابة
إن محاولات الإجابة عن سؤال "مَنْ هو الله"، وإن كان يحمل معانٍ واحدة، قد انثقف في حضارات متعدّدة حسب الزمان والمكان وهذا ما يسمّى "تاريخ علم اللاهوت".
الانثقاف (Inculturation) هو نقل الفكر من ثقافة إلى أخرى، أو تجسيد المعاني في ثقافةٍ غير الثقافة التي نشأ فيها. لا تكفي الترجمة الحرفيّة، بل يجب نقل المعنى المختبئ في حدود الكلام إلى الثقافة الجديدة. ويجب، من جهة أخرى، أن يعني هذا المعنى لمن يتلقاه فلا يصل إليه بارداً جامداً.
يحمل انثقاف الجواب عن سؤال "مَنْ هُوَ الله" إشكاليّةً طُرحت على الفكر المسيحي منذ نشأته: هل معنى الإيمان الذي اُختُبر في الثقافة الساميّة كحدثٍ مؤسِس له قد تغيّر في الحضارة الهلينيّة، خصوصاً في القرون الثلاثة الأولى للمسيحيّة أو ما يسمّى عصر الآباء (الرسوليين والمدافعين)، وفي مختلف الحضارات تالياً؟ أم أن المعنى قد بقيَ أميناً للحقيقة رغم تغيُّر المبنى؟ وهل لكي نُحافظ على المعنى، هل يجب أن نترك المبنى كما وُجِدَ في أُصوله، وبالتالي علينا العودة، في كلِّ زمان ومكان، إلى عصر الأصول، لكي نختبره (كما تدعو الأصوليّة الدينيّة)..؟ أظنّ أنَّ الإجابة على هذه الأسئلة تَسهلُ في حالة فهم حقيقة التجسّد في المسيحية، وتعميمها بحدث انهمار الروح القدس يوم العنصرة. فالروح القدس، الذي حقّق التجسّد الإلهي في حضارة الزمان والمكان، لم يفارقِ الكنيسة منذ حلوله "في اليوم الخمسين" يوم العنصرة (رسل2/..)، وكما ألّهَمَ الجماعة المؤَسِّسَة إعلان الإيمان في ثقافات ذلك الزمان، وهذا ما يرمز إليه تعدّد الألسنة، لا يزال يُلهم الكنيسة، في كل زمان ومكان. المشكلة هي العكس، حين تتجمّد تعابير الإيمان في قوالب الثقافات الغابرة (وهذا ما يظهر في مختلف الأصوليّات الدينيّة عموماً)!..
لقد عبّر "الآباء" عن إيمانهم بلغة وثقافة عصرهم، فلم يتأخروا في نحت كلامٍ مقتبسٍ من واقعهم الحضاري للتعبير عن جواب سؤالنا "مَنْ هُوَ الله" وعن معاني الإيمان بشكل عام، وبفعل الروح القدس تعلن الكنيسة استقامة تعاليمهم. الآباء خضَّعوا الفلسفة لإعلان إيمان الكنيسة، يوم كانت الفلسفة لغة العصر، فاستعملوا تعابير اقتُبست من الفلسفة اليونانية لم تكن موجودة لا في الكتاب المقدّس ولا في ثقافة يسوع وتلاميذه، كـ: "الثالوث"، "الأقنوم"، "الطبيعة"، "الجوهر"، "المساوي في الجوهر"، "الخطيئة الأصلية"… ولا تزال الكنيسة إلى اليوم وحتى الأبد، وبهبوب الروح القدس، تسعى أن يكون إعلان إيمانها مُنثقفاً مع واقع كل عصر لأن الإيمان الغير المفهوم لا يمس القلب، وبالتالي يصبح اتّباعه عبودية.
بعد هذه المقدّمات الطويلة، نستعرض بعض محاولات الإجابة عن سؤالنا "مَنْ هو الله"، عند لاهوتيّي (آباء) القرن الثاني، مجتهدين ألا نحيّد الإطار الثقافي لتلك المحاولات.
ثانياً: "الله" في لاهوت القرن الثاني
تميّزت الكنيسة الناشئة في القرن الثاني بتيّارين لاهوتيين أساسيين: الأول سمّي "الآباء الرسوليون"، أي أولئك الذين تتلمذوا مباشرة على أيدي الرسل وتلاميذهم فكتبوا مؤلفات رعويّة تدعو إلى الالتزام بالمسيحيّة الناشئة وإلى ممارسة طقوسها وترقب مجيء المسيح العتيد. أما الثاني فدُعي "الآباء المدافعون" وهم الذين دافعوا عن المسيحيّة أمام التحديات الدمويّة، المتمثلة باضطهاد الإمبراطورية الرومانيّة؛ والفكريّة، القائمة في شتى أنواع الفلسفات والأديان والهرطقات.
1. وحدانيّة الله عند القديس اغناطيوس الأنطاكي
أ‌لمحة عن حياة القديس
يُعتبر القدّيس اغناطيوس الأنطاكي، وهو الأسقف الثاني على أنطاكية بعد القديس بطرس الرسول، من أوائل "الآباء الرسوليين". عاش في نهاية القرن الأول وبداية القرن الثاني. ويُظَن أنه الطفل الذي حمله السيد المسيح ودعا إلى التشبُّه بالأطفال (مت18/2-3) مسمياً نفسه بـ "حامل المسيح". كتب سبع رسائل تعتبر من بواكير التفكير اللاهوتيّ، وأولى المصنّفات المسيحيّة بعد كتب العهد الجديد. استشهد، على الأرجح، بين أنياب الوحوش سنة 117م وهو يقول: "قربت الساعة التي سأولد فيها. اغفروا لي يا إخوتي، دعوني أحيا. اتركوني أموت، إنّي أريد أن أكون لله … اتركوني أقتدي بألم ربي. إذا كان الله في قلب واحد منكم فليفهم ما أريده"
[6]..
ب‌- وحدانيّة الله أمام "الثنائيّة الغنوصيّة
يشدّد اغناطيوس في الإجابة عن سؤالنا "مَنْ هو الله"، على وحدانيته، خصوصاً في رسالته إلى كنيسة مغنيزية. فيتحاشى بذلك "الثنائية" (dualism) الغنوصية
[7]، التي كانت تؤمن بوجود إلهين، "إله النور" و"إله الظلمة"، فيقول: "لا تخدعنّكم التعاليم الغريبة ولا تلك الأساطير القديمة التي لا فائدة منها. إذا كنّا نحيا حتى الآن حسب الناموس اليهودي، فإننا نعترف ونقرّ بأننا لم نأخذ النعمة بعد. عاش الأنبياء الإلهيون حسب يسوع المسيح، لذلك اضطهدوا. وقد أوحى إليهم بنعمته ليطلعوا الكفرة أنّ الله واحد"[8].
 ت‌- معرفة وحدانيّة الله تحقّقت بيسوع المسيح
يعلن أسقف أنطاكية أنّ معرفة الله الواحد قد حصلت بيسوع المسيح: "لماذا لا نحظى بمعرفة الله، أي بيسوع المسيح، فنصبح كلّنا حكماء؟". "إنّ إله المسيحيين غير مرئي ويستحيل إدراكه، بيد أنّه أضحى الآن مرئياً ومدركاً بيسوع المسيح"
[9].
 ث‌- وحدانيّة بين الله والمسيح
إنّ وحدة الله والمسيح تظهر جلياً في رسائل القدّيس أغناطيوس ولا مجال للشكّ في ذلك. فقد ظهر متأنّساً "ليحقّق النظام الجديد أي الحياة الخالدة"
[10]. ويقول أيضاً: "تسارعوا إلى هيكل الله الواحد، إلى المذبح الأوحد، إلى يسوع المسيح الذي خرج من الآب الواحد وبقي متّحداً به والذي إليه يعود"[11]. فالله الآب والمسيح هما إذاً متّحدان اتّحاداً "كاملاً"، يعملان معاً من خلال تدبيرهما الخلاصي الواحد من أجل بناء الملكوت. وفي ختام الرسالة إلى كنيسة أفسس يضيف القدّيس: "تشدّدوا بالله الآب وبيسوع المسيح رجائنا المشترك"[12].
 ج‌- المسيح دعوة للإنسان إلى الوحدة مع الله
إنّ الحياة المسيحية هي جهاد متواصل للبلوغ إلى هدف واحد، الاتحاد بالله وبيسوع المسيح، وقد سرّ القدّيس إبّان تجواله في كنيسة مغنيزية بنموّها الروحي فعبرّ عن ذلك قائلاً: "لقد خصّني الله بشرف اسم عظيم. أني أطوف في الكنائس مقيّداً بالحديد. ويسرّني أن أراها في وحدة مع جسد وروح المسيح يسوع، حياتنا الأزلية، يسرني أن أراها في وحدة مع يسوع والآب وهي الوحدة الأهم"
[13].
2. "تسامي الله" عند القديس يوستينوس الفيلسوف
  أ‌- لمحة عن حياة القديس
ولد يوستينوس في مدينة نابلس بفلسطين في أوائل القرن الثاني من أبوين وثنيّين ربّياه على مبادئ الديانة الوثنية السائدة آنذاك. وكان فيلسوفاً بامتياز، فقد تشرّب، قبل اهتدائه إلى المسيحيّة سنة 130م، من شتى أنواع الفلسفات الهلّينيّة السائدة في عصره كـ"الرواقية" و"المشائيّة" و"الفيثاغوريّة" و"الأفلاطونية"، فبان تأثيرها في كتاباته جليّاً، على الرغم من اجتهاده في مَسْحَنَة بعض تعابيرها.
ينتسب يوستينوس إلى تيّار "الآباء المدافعين" الذي أخذ على عاتقه "الدفاع" عن المسيحيّة أمام التحديات الدمويّة والفكريّة بشجاعة: "لا أبالي بشيء إلا بقول الحقيقة، أقولها ولا أهاب أحداً، ولو كنتم ستقطعونني في الحال إرباً أرباً"
[14].
كتب قبل استشهاده سنة 166م عدّة مؤلفات دفاعيّة، عبّر من خلالها، بالاستناد إلى الفلسفة عن صحّة المسيحيّة وعمقها، كـ" الحوار مع تريفون"، "الدفاع الأول"، "الدفاع الثاني"، "رسالة إلى الإمبراطور".
  ب‌- لا يحدُّ الله بما نقول
تأثّر يوستينوس بـ "اللاهوت التنزيهي"، أو "اللاهوت السلبي" (Théologie Apophatique)، على غرار الغنوصيين وآباء القرن الثاني، فبيّن تسامي الله وتعاليه، أي أننا لا نستطيع أن نقول "من هو الله" لكي لا نحّده بما نقول، وبالتالي نقول ما ليس الله، فننفي عنه ما ليس هو. يقول: "إنّ أبا الجميع الذي لم يُولد لم يُعطَ اسماً، لأنّه مهما كان الاسم الذي يدعى به، يظل المُسمّى أكبر من التسمية. فالألفاظ أب وإله وخالق وسيّد ليست أسماء، وإنّما هي ألقاب مأخوذة من أعماله الخيّرة ومهمّاته. واللقب "الله" ليس اسماً بل رأي غرس في طبيعة البشر عن الشيء الذي لا يفسّر"
[15].
  ت‌- هل تسامي الله يعني أنه بعيد؟
إنّ مسألة سموّ الله تطرح سؤالاً خطيراً وتضع المؤمن في موقف مُربك للغاية، إذ ماذا ينفعنا نحن البشر أن يكون الله متسامياً وبعيداً عن العالم الذي خلقه؟
  ث‌- كلمة الله "اللوغُس" علامة قُرب الله
لقد تنبّهت التيّارات الفلسفية لخطر هذه المسألة الشائكة، فأقامت بين الإله الأحد والكون وسيطاً يشرف على سيره، هو "اللوغس"، إلاّ أنّ هذا الوسيط بقي غامضاً ومجرّداً حتى بزوغ المسيحية.
  ج‌- اللوغُس هو المسيح
يرد ذكر "اللوغس" في العهد الجديد، ستّ مرّات فقط، أربعاً في إنجيل يوحنا (راجع مقدّمة الإنجيل)، وواحدة في سفر الرؤيا (19/13)، وأخرى في رسالة القدّيس يوحنا الأولى (1/1).
ويعلّم القدّيس يوحنا في مقدّمة إنجيله أنّ الكلمة – المسيح هو في الوقت نفسه إله ووسيط: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان لدى الله، وكان الكلمة الله … والكلمة صار جسداً وسكن في ما بيننا". بهذا التصريح الفريد أضحى غير المنظور منظوراً.
سار يوستينوس، على خطى القدّيس يوحنا الإنجيلي، وراح يعلّم في كتاباته أنّ الإله المتعالي لم يبقَ قابعاً في عزلته، بل أرسل أبنه الوحيد، كلمته الأزلي، إلى العالم ليكون وسيطاً بينهما. إلاّ أنّ مفهومه للوغس يحمل طابعاً فلسفياً، ولا غرو، فإنّه كان فيلسوفاً قبل أن يكون لاهوتياً.
  ح‌- اللوغُس خارج المسيحيّة
الشيء الجديد الذي يتفرّد به يوستينوس فهو استعارته من الفلسفة الرواقية عبارة "اللوغس المخصب" أو "اللوغس بالبذار" Logos spermatikos))، وتطبيقها على الديانة المسيحية. فـ"اللوغس" في رأي الرواقيين موجود في العالم على شكل بذور صغيرة متناثرة تغذّي كلّ كائن حيّ، وليس له كيان خاص به، لأنّه حالّ في الكون. ولا يغب عن بالنا أنّ الرواقية هي "فلسفة حلولية" (Pantheism)، لا تؤمن بالوجود المستقل للكلمة (Logos)..
 يقول يوستينوس في هذه الاستعارة (كتاب "الدفاع الثاني"): "إنّ المسيح كلمة الله ينير العقول البشرية منذ البدء، فأخصبت بذوراً" (sperma) منه واهتدت إلى بعض الحقائق.. فكلّ ما قاله الفلاسفة والمشترعون وما اكتشفوه من جميل إنّما بلغوا إليه بفضل تأثير جزئي من الكلمة. ولمّا كانوا لم يعرفوا الكلمة بأكمله (لأنّه موجود بالبذار فقط) فقد أخطأوا أحياناً وناقض بعضهم بعضاً. فكل ما قيل من حقّ في كلّ زمن وفي الإنسانية جمعاء فهو ملكنا نحن المسيحيين"
[16].
  خ‌- اللوغُس بالبذار واللوغُس المتجسّد
لقد ميّز يوستينوس بين اللوغس الكامل الذي هو كلمة الله والمتغاير كليّاً عن العالم "وهو اللوغس المتجسّد في ملء الزمان"، وبين اللوغس بالبذار أو المخصب الموجود في العالم مستمدّاً قوّته من اللوغس الكامل. ولمّا كانت معرفة العالم بواسطة اللوغس بالبذار ناقصة، تجسّد اللوغس الكامل ليزيل الهوّة بين الله والإنسان. هذا ما علّمه القدّيس يوحنا في إنجيله، وما عبّر عنه القدّيس بولس بجلاء في رسالته الأولى إلى تيموثاوس بقوله: "إنّ الله واحد والوسيط بين الله والناس واحد، الإنسان يسوع المسيح الذي بذل نفسه فداء عن الجميع" (1تيم2: 5 – 6).
3. "يدا الله" عند القديس ايرناوس أسقف ليون
  أ‌- لمحة عن حياة القديس
ولد إيريناوس في مدينة إزمير حوالي سنة 140، وكان منذ صغره يرتاد كنيسة المدينة ليستمع إلى إرشادات القدّيس بوليكاربوس تلميذ القديس يوحنا الرسول. سيم كاهناً في عهد الإمبراطور مارك أوريل، ثمّ يمَّم شطر بلاد غالية (فرنسا) لأسباب نجهلها، واستقرّ في مدينة ليون.
غرف إيريناوس من بحر الكتاب المقدّس مضطلعاً بثقافة عصره، فانثال الفكر على ريشته غزيراً فيّاضاً، ولا عجب، فإزمير، لؤلؤة بحر إيجه، كانت محطّ أنظار الجميع، تستقطب إليها المثقّفين من كل صوب ليعبّوا من مَعينها الفكري المفعم بروح الفلسفة الهلّينية والمسيحية.
صبَّ إيرناوس في مدينة ليون، وفي المرحلة الأولى من حياته فيها، كلّ قواه على محاربة الفلسفة الغنوصية التي كانت قد سحرت المسيحيين وخلبت عقولهم، واجتاحت فرنسا وإيطاليا والشرق. فنشر مصنّفاً لاهوتياً عرض فيه النواحي الإيجابية والسلبية من الغنوصية. ثمّ، وحرصاً منه على وحدة العقيدة، وضع مجلّداً آخر عنوانه "ضدّ الهراطقة"، فظهر، بحق، من أهمّ شخصيّات مرحلة "الآباء المدافعين".
عكف إيرناوس في المرحلة الثانية على نشر الديانة المسيحية في المقاطعات المجاورة لمدينة ليون، وبفضل الأسقف أضحت المدينة مركزاً للمسيحية في بلاد غالية كلّها؛ إلى أن رقد بالرب بين سنة 202 و 203 أيَّام الإمبراطور سبتيموس ساويرس، ولا يستبعد أن يكون من عداد الشهداء الذين قتلوا في مدينة ليون آنذاك.
  ب‌- مصدريّة الله الواحدة
يركّز إيرناوس، على غرار اغناطيوس الأنطاكي، على وحدانيّة الله، ردّاً على الثنائية الغنوصية، بأنّ خالق الكون واحد، فليس من "وسطاء" أو آلهة أخرى بينه وبين الخلق. ويرى أن مصدريّة الألوهية تكمن في الآب (Monarchieوما الابن والروح القدس سوى "يدي الله" على حد تعبيره، يقول في معرض حديثه عن الخلق: "لا ينبغي أن نبحث عن يدٍ لله غير التي من البداية حتى النهاية تصنعنا وتسويّنا من أجل الحياة، وهي حاضرة لما تصنعه، وتكمله على صورة الله ومثاله"
[17]، "إن آدم قد صنعته يد الله، أعني كلمة الله"[18]، "لم يكن الله بحاجة ليصنع ما قرّر مسبقاً في ذاته أن يصنعه. كأن ليس له يدان! فقد كان له على الدوام الكلمة والحكمة، الابن والروح القدس. فبهما وفيهما صنع كل شيء، بحريّة وباستقلال تام، وإليهما يتوجّه الآب عندما يقول: "لنصنع الإنسان على صورتنا ومثالنا" (تكوين1:26)"[19]. وفي معرض الحديث عن علاقة الآب بالابن يشدّد إيريناوس على الوحدة التي تجمع الشخصين معاً. يقول: "إذا سألنا أحد: إذن كيف انبثق الابن من الآب؟ نجيبه بأنّ هذه الولادة يعجز وصفها، لا يقدر أن يصفها أو يعرفها أحد… الآب وحده الذي ولد الابن يعرف ذلك. وبما أنّ هذه الولادة لا توصف، فالذين سوّلت لهم أنفسهم تفسيرها لا يمتلكون فكرهم، لأنّهم يتعاطون أموراً لا توصف[20]. ويعلّم أيريناوس في كتابه "ضدّ الهراطقة" ما سمّاه بـ"الوجود المتبادل بين الأقانيم" (Peri-chorsis): "إنّ الله الآب عرف بالابن الذي هو في الآب والآب فيه"[21].
  ت‌- نعرف الله في "حبّه" وليس في ذاته
يرى إيرناوس، على غرار يوستينوس في لاهوته "التنزيهي" (Théologie Apophatique)، أننا "لا نستطيع أن نعرف الله في عظمته.. بل في محبته"
[22]، مؤكداً أن هذه المحبة ظهرت في شخص يسوع المسيح "كلمته"، فقد "صار إنساناً بين الناس، ليربط النهاية بالبداية، أي الإنسان بالله… لا شك أن الله، في عظمته ومجده الذي لا يوصف، "لا يراه إنسان ويبقى حيّاً" (خروج33/20) لأن الآب لا يمكن إدراكه.. فالإنسان من تلقاء ذاته، لا يمكنه أن يرى الله؛ ولكنّ الله، إذا شاء، يمكنه أن يُري نفسه للناس، لمن يريدهم، متى شاء، وكيفما شاء. فالله يستطيع كلّ شيء: لقد رآه الأنبياء قديما بوساطة الروح القدس، ثمّ تمّت رؤيته بوساطة الابن بحسب التبنّي، وسوف يُرى أيضاً في ملكوت السماوات بحسب الأبوّة"[23].
  ث‌- معرفة الله تقودنا إلى معرفة الإنسان
لقد سعى إيرناوس أن يعطي قراءات لاهوتيّة للعديد من المفاهيم ترتبط ببحثه عن جواب لسؤال "مَنْ هُوَ الله"، فيربطه بمحاولة الإجابة عن سؤال آخر: "مَنْ هُوَ الإنسان؟".. وكأن الجواب عن "ماهيّة الله" يكشف تالياً عن "ماهيّة الإنسان"؛ وهكذا يربط "علم اللاهوت" (Théologie) بـ"علم الإنسان" (Anthropologie). أن إيرناوس قد ابتكر "لاهوت الزمن" و"لاهوت التربية" ولاهوت التدبير"، وفتح الأفق واسعاً لاستعمال تعبير "تاريخ الخلاص". يقول "إن الله كان يرسم كمهندس مخطط الخلاص.. وهكذا بطرق متنوّعة كان يُهيّئ الجنس البشري لسيمفونيّة الخلاص"
[24]. إن هذا التدبير يجعل الله يعيّر أهميّة "للزمن"، فالمحبوب يعيش في واقع يختلف عن المحب، فالله لا ينفكّ إلا ويراعي "بتربويّة" واقع "الزمن" عند الإنسان[25]، "فكان عليه أن يُصنع أولاً، وبعد أن يُصنع ينمو، وبعد أن ينمو يصير بالغاً، وبعد أن يصير بالغاً يتكاثر، وبعد أن يتكاثر يقوى، وبعد أن يقوى يُمجَّد، وبعد أن يُمجَّد يعاين الله أخيراً"[26].
  ج‌- المسيح يكشف في آن عن من هو الله ومن هو الإنسان
يربط إيرناوس هذه الأنثربولوجية بالمفهوم عن المسيح، أي أننا لا نستطيع فهم ماهيّة الإنسان إلا بالنظر إلى يسوع "آدم الجديد"، لأنّ الإنسان كُوّن "حتى في جسده على صورة الابن "العتيدة ولادته"[27]. وما الغاية من التجسد سوى إعادة "المجد" للإنسان، "فالمسيح صار إنساناً، مرئياً وملموساً ليجعل الإنسان يشترك في حياة الله"[28]. وهكذا "صار الإله إنساناً ليصير الإنسان إلهاً"[29]. أي أنه في إنسانيّته المتشبهة بالمسيح، آدم الحقيقي، يختبر البنوّة لله. وهذا لا ينفيحريّة الإنسان بل على العكس يجعلها أكثر توّهجاً ولمعاناً ويجعلها "تنضج"
[30].
نختم هذه الفكرة عن الأنثربولوجية الإيرناوسيّة بقوله: "إن كنت عمل الله فانتظر بصبر الذي يصنع كل شيء في الوقت المناسب، وأعني في الوقت الذي يناسبك أنت الذي صُنِع. فقدِّم له قلباً ليناً وطيّعاً. واحفظ الصورة التي يُعطيك إياها الصانع، وليكن فيك الماء (الذي يرمز إلى الروح القدس) الذي يأتي منه، وبدونه تقسو، وبصمات أصابعه تزول عنك. بمحافظتك على الصورة، ترتقي إلى الكمال، فبالفن الهي، يُحجب الخزف الذي فيك. إن يده قد خلقت جوهرك، وهي التي ستكسوك بالذهب الخالص والفضة في الداخل والخارج (خروج 25/11)، وتزيّنك بحيث يصبو الملك نفسه إلى حسنك (مز44/12)"
[31].
4. الله "ثالوث"، عند ترتليانوس القرطاجي، كالشمس: مصدر، ومبادرة، وفعاليّة
  أ‌- لمحة عن حياة المفكِّر
ولد ترتليانوس بين سنتي 155 و160 في قرطاج شمال أفريقية عاصمة العلم والمعرفة ذات الثقافة اللاتينيّة آنذاك. تعلّم منذ صغره اللاتينيّة واليونانيّة، والفلسفة والطب والقانون، والحقوق بشكلٍ خاص. ثمّ يمّم شطر روما وهو بعد في زهو العمر، فأمضى فيها بضع سنين يعبّ من معاهدها وينهل من معينها النابض بالعلم والثقافة والمعرفة. فزاول فيها مهنة المحاماة التي ورثها عن أبيه مدّة من الزمن. وعاش فيها حياة المجون والعبث. إلى أن قفل راجعاً إلى قرطاج سنة 195، فاعتنق الدين المسيحي بعد بحثٍ وتفتيشٍ طويلين. وقد أعجب بشجاعة المسيحيين وتعلّقهم الراسخ بديانتهم، على الرغم من حدّة الاضطهادات التي كانت تُثار عليهم، فيقول: "كلّ واحدٍ إزاء ثبات (الشهداء) يشعر بنوع من القلق. ويرغب رغبةً شديدة في البحث عن السبب، وما إن يعرف الحقيقة حتى يعتنقها هو بنفسه"
[32] ، وهو صاحب القول الشهير: "الشهداء زرع الكنيسة"[33].
كان ترتليانوس غزير الإنتاج الفكري فدبّج الكثير من المقالات والكتب الدفاعيّة، وإليه يعود الفضل في أصول المصطلحات اللاهوتيّة. ولكنّه ما عتّم أن انحاز إلى المونتانيّة، وهي بدعة متشدّدة تؤمن بالمجيء القريب للمسيح فتدعو إلى تعاليم أخلاقية قاسية لاستقبال هذا المجيء بقلب نقي؛ فأخذ يبتعد عن الكنيسة شيئاً فشيئاً، إلى أن انفصل عنها كلّيّاً سنة 213 وسرعان ما أسّس مذهبه الفكري الذي دُعي باسمه؛ إلى أن توفي في قرطاجة سنة 220 على الأرجح، وهو على خلاف مع الكنيسة…
  ب‌- مؤسّس المصطلحات اللاهوتيّة
وضع ترتليانوس عصارة تفكيره وتأمّلاته في الإجابة عن سؤالنا "مَنْ هُوَ الله" في كتابه "ضد براكسيان"، فجاءت تعابيره متجانسة ومشابهة إلى حدّ كبير قرارات مجمع "قانون الإيمان" النيقاوي المسكونيّ الأول سنة 325م وكأنها استقت منه. فهو أوّل من استخدم لفظة "ثالوث" للدلالة بكلمة واحدة على الله الآب والابن والروح القدس، فيقول: "نؤمن بثالوث واحد إلهي، آب وابن وروح قدس"
[34]. واستعار من الفلسفة، لفظتي "جوهر" و"أقنوم"، وطبقّها على الثالوث الأقدس، فقال: "أعترف دوماً بجوهر واحد في الأقانيم الثلاثة متّحدة"[35]. ويعود الفضل أيضاً إليه في استخدام لفظة "شخص" (Persona في اللاتينيّة) لكل من الأقانيم الثلاثة، فالكلمة (الابن) مغاير للآب في "الشخصيّة" لا في "الجوهر"، أمّا الروح القدس فهو "الشخص الثالث" من الثالوث الأقدس. يقول: "أودّ أن أسألك هل بمقدور كائن واحد فرد أن يعبّر بصيغة الجمع؟ يقول [الله]: لنصنعنّ الإنسان على صورتنا ومثالنا؟ ألم يكن من الأجدر أن يقال: لأصنع الإنسان على صورتي ومثالي؟ والجدير بالذكر أنّنا نقرأ في النص الذي يلي: هوذا الإنسان قد أضحى كواحد منّا. فهل يرمي الله بذلك إلى خداعنا أو السخرية بنا، وهو يعبّر في صيغة الجمع؟ أم أنّه كان يخاطب الملائكة على حدّ تفسير اليهود لهذا النص، إذ لا يقرّون بالابن؟ أم أنّه تعمّد استعمال الجمع لأنّه في آن واحد الآب والابن والروح القدس؟ لا ريب أنّ الباعث على ذلك إنّما وجود الابن كلمته بقربه، مكوّناً الشخص الثاني، والروح القدس في الكلمة، الشخص الثالث من الثالوث الأقدس. من هذا المنطلق إذاً، تبنّى صيغة الجمع قائلاً: "لنصنعنّ على صورتنا" و"أضحى كواحد منا"[36].
  ت‌- لا بدَّ من التشابيه
كان ترتليانوس أول من استعار في تقليد الكنيسة، للتعبير عن الانسجام بين وحدانيّة الله وتعدديّته في آن، مثال الشمس للتشبيه بينها وبين سرّ الثالوث: كيان وأشعة وفعالية. فالله ككيان هو الآب، وكمبادرة هو الابن، وكفعاليّة هو الروح القدس.
خاتمة
لقد حاولت المسيحيّة الإجابة عن سؤال "مَنْ هُوَ الله" مستعيرة ثقافات العصور التي تعاقبت عليها، فتركت لنا أرثاً عقائديّاً لا يُستهان بغزارته وعمقه
[37]. فإن كنّا قد درسنا بعضه في القرن الثاني، ورأينا صدى عقائد اليوم فيه؛ لا شكَّ أن الأصداء تتوالى في كلّ حقباته؛ فهل تفتح هذه الأصداءُ أمداءَ محاولات جديدة ومعاصرة للإجابة عن هذا السؤال مستعيرة ثقافات اليوم والغد، مشدودة بين الإرث والواقع والمستقبل في أمانة مطلقة للإنجيل؟.. نترك السؤال واسعاً بين تلك الأصداء وهذه الأمداء!..
محاضرة قدّمها الأب بسّام آشجي لمربي ومربيات التعليم المسيحي بدمشق في 1/12/2005

 

[1]) موسوعة "المورد" العربية (على CD)
[2]) أنظر: EVDOKIMOV (P), L’ORTHODOXIE, Théophanie, Paris, 1979, p47-56
[3]) Saint Grégoire de Nysse, P.G. 44, 96C
[4]) بَلْتَسار (هانس أورس فون)، نؤمن، دار المشرق، ص88-89
[5]) Traité de l\’oraison, 60, Coll. " Sources Chrétiennes",Evagrius Pontikus,
[6]) البطريرك الياس معوض، الآباء الرسوليون، بيروت، منشورات النور،1970، ص 110.
[7]) كلمة "غنوصية" متحدرة من أصل يوناني (غنوسيس Gnosis) وتعني المعرفة وتسمّى أحياناً "العرفانيّة".. وهي حركة فكرية ترجع جذورها إلى عهد الإسكندر. ورثت عن الديانات الشرقية مبدأ الثنائية القائل بوجود إلهين، إله الخير وإله الشرّ، وتهدف إلى إضفاء صبغة عقلية وفلسفية على العقائد والتعاليم المسيحية. فالمعرفة ينبغي أن تحلّ مكان الإيمان، وأن تفسرّ كل شيء حتماً على ضوء العقل. ولقد انتشرت كثيراً في القرون المسيحيّ الأولى.
IGNACE d\’ ANTIOCHE, Lettre l, Paris, Cerf, 1958, p. 21.([8]
[9]) البطريرك الياس معوض، الآباء الرسوليون، بيروت، منشورات النور،1970، ص 117.
[10]) المرجع نفسه: ص 113.
[11])IGNACE D \’ ANTIOCHE, Lettres, pp. 173 – 175.
[12]) الياس معوّض: المرجع المذكور: ص 114.
[13]) المرجع نفسه: ص 117.
[14]) حوار رقم 128 CAYRE (A.A.), Précis de Patrologie, Paris, 1927, p. 111.
[15]) أسد رستم: آباء الكنيسة الرسوليون والمناضلون، الجزء الأول، منشورات النور، 1962، ص 68.
[16]) أسد رستم: المرجع المذكور، ص 71.
[17]) كتاب "إيضاح التعليم الرسوليّ" 5، 16، 1 Coll. " Sources Chrétiennes",
[18]) المرجع السابق، 3، 21، 10
[19]) المرجع السابق، 4، 2-1
[20])QUASTEN (J.), Initiation aux Péres de I\’ Église, T, I, Cerf, Paris, 1955, p. 338.
[21]) أسد رستم، آباء الكنيسة الرسوليون والمناضلون، منشورات النور، ص 99.
[22]) الرد على الهراطقة 4،20،1 Coll. " Sources Chrétiennes",
[23]) المرجع السابق، 20، 4، 1
[24]) إيضاح…، 4، 33، 15
[25]) Houssiau (Albert), La Christologie de Saint Irénée, Louvain, 1955,p98
[26]) إيضاح…، 4، 38، 3
[27]) المرجع نفسه.
[28]) إيضاح.. 4، 14، 2
[29]) ALTANER (BERTHOLD), Précis de Patrologie, Paris, 1961, p. 216.
[30]) إيضاح 5، 29، 1
[31]) المرجع نفسه 39، 4، 2
[32]) "رسالة إلى سكابولا"، 5Coll. " Sources Chrétiennes",
[33] ) Apologeti*****, 50, 13
[34])QUASTEN, p. 381.
[35])ALTANER, p. 245.
[36])المرجع السابق، ص 245.
[37]) للتعرّف الموَسَّع على "آباء الكنيسة"، راجع: * أدَلْبيْرت-ج. همَّان، دليل إلى قراءة آباء الكنيسة، دار المشرق 2002.
* المطرانان كيرلس بسترس وجوزف عبسي والأب حنا الفاخوري، تاريخ الفكر المسيحي عند آباء الكنيسة، المكتبة البولسيّة 2001