بعض الأمراض الشائعة والمخفية
بقلم المونسينيور د. يوأنس لحظي جيد
تعريف المرض
يطلق على هذا الداء مرض التظاهر، أو الاضطراب المفتعل، هو حالة نفسية معقدة يدفع فيها الشخص نفسه عمدًا إلى ادعاء الإصابة بمرض أو عجز أو إصابة والمبالغة في وصف الأعراض وكأنها موجودة بالفعل، وذلك بهدف الحصول على الرعاية الطبية أو الاهتمام.
مرض التظاهر هو حيلة طفولية نمارسها جميعا في المراحل الأولى من حياتنا لجذب انتباه الوالدين، وخاصة الأم، وبعضنا لا يتخلص منها ويستمر في ممارستها على الرغم من كبر سنه وأحيانا على الرغم من معرفته بأنه يتظاهر ولكن لأنها حيلة نفسية فمن يقوم بها يحاول حتى إقناع نفسه بأن ما يقوله حقيقي. فهو يتظاهر ويعرف أنه يتظاهر ويعرف أن من حوله يعرف أنه يتظاهر ولكنه يتظاهر بإتقان وصدق.
ما هي أعراض مرض التظاهر؟
أعراض مرض التظاهر يمكن أن تكون متنوعة وتشمل:
• أولًا التظاهر بأعراض جسدية:
مثل ادعاء الألم، الحمى، الطفح الجلدي، أو حتى الإصابة بجروح ذاتية، والسعال والتعرق والتأتأة لدرجة أن من يقابل “المُتظاهر” قد ينخدع ويسارع في مساعدته والاتصال بالأطباء وطلب النصيحة.
• ثانيًا التلاعب بنتائج الفحوص الطبية:
يقوم الشخص “المُتظاهر” بتزوير نتائج الفحوص أو إدخال مواد غريبة إلى الجسم لتغيير نتائج التحاليل. فهو يتناول الأدوية والأطعمة التي تؤثر في نتائج التحاليل لدعم موقفه. إنه يمارس كافة الحيل لدعم ادعائه وتأكيد كذبه وإثبات صدق ألاعيبه.
• ثالثًا رفض العلاج:
المُتظاهر يشتكي عدم حصوله على الرعاية اللازمة والعلاج الضروري، ولكنه وعلى الرغم من إلحاحه على العلاج غالبًا ما يرفض اتباع النصائح الطبية أو الخضوع للإجراءات العلاجية. وهو في الغالب يسمع النصائح الطبيب المختصة ويتظاهر بعدم تذكرها أو يتذكر منها ما يخدم أهدافه وقد يصل إلى تمثيل اتباع الأدوية لكي يثبت لمن حوله أنه حالته خطيرة لدرجة أن الأدوية لا تستطيع شفائه.
• رابعًا الانتقال من طبيب لآخر:
المُتظاهر” ينتقل من طبيب لآخر ويزور العديد من الأطباء والمستشفيات بحثًا عن تشخيص يؤكد مرضه المزعوم، وكأن المشكلة في الأطباء الذين لا يستطيعون تشخيص مرضه وليس في مرضه غير الموجود.
• خامسًا المعرفة الواسعة بالمعلومات الطبية:
غالبًا ما يكون الأشخاص المصابون بمرض التظاهر على دراية واسعة بالأمراض وأعراضها والعلاجات المتاحة لدرجة تفحم من يحاول مناقشتهم. إنهم يتلاعبون بالمعلومات لخدمة أهدافهم.
أمثلة على سلوكيات مرضى التظاهر
o التظاهر بالإصابة بمرض خطير:
المُتظاهر” يصل في ممارسته لمرض التظاهر إلى ادعاء إصابته بمرض خطير مثل السرطان أو مرض القلب، حتى لو لم يكن هناك أي دليل طبي على ذلك، وهو يقوم بهذا لانا خطورة المرض المزعوم تخدم حاجته الشديدة إلى الحصول على انتباه من حوله، وكل هذا لأن الأمراض البسيطة لا تجذب انتباه أحد.
o إحداث جروح ذاتية:
قد يقوم الشخص بجرح نفسه وتجريح جسمه لإنشاء دليل مادي على وجود مرض. فالمُتظاهر يصل في بعض الأحيان لإحداث تمزقات وأورام وجراح لكي يثبت للآخرين صدق ادعاءاته، وقد يصل به الأمر لإجراء محاولات انتحار مصطنعة ليظهر ظلم الآخرين له وعدم اهتمامهم به.
o تزوير أو تلويث العينات الطبية:
يسعى “المُتظاهر” لإضافة مواد ملوثة إلى عينات الدم أو البول لتغيير نتائج التحاليل، أو تقديم عينات لأشخاص مصابين بدلا من عيناته لخداع من حوله.
o الرفض المستمر للتشخيص وللعلاج:
حتى بعد إجراء العديد من الفحوصات الطبية والتأكيد من عدم وجود المرض الذي يدعي إصابته به، فالمُتظاهر يستمر في الإصرار على وجود مشكلة صحية، يعجز العلم والطب عن اكتشافها.
أمثلة يومية على الإسقاط النفسي:
1– الشخص المُتظاهر بالمرض:
لا يمكن أن تخاطبه دون أن تسمع منه شكوى من حالته ومن وضعه الصحي. بمجرد أن تقول له كيف حالك حتى يخبرك بأنه مريض جدًا وأنه طريح الفراش، وأنه ذهب إلى الطبيب المختص وكتب له روشتة من الأدوية ومن المضادات الحيوية، وأنه يشعر بالألم في كل جزء من جسده. إنه يخبرك بمرضه لكي يتجنب أن تخبره بحالك أو تطلب منه شيئًا. إنه يحاول أن يغرقك بالعبارات التي تؤثر فيك وتثير فيك مشاعر الرأفة والتحنن لكي يحصل منك على ما يريد أو على الأقل لا يمنحك شيئًا مما قد تريد لأنك إذا طلبت منه شيئًا وهو في هذه الحالة ستشعر بأنك بلا قلب وبلا إحساس وبلا إنسانية.
2– الشخص المُتظاهر بالتدين:
هو شخص يحاول أن يخدع الآخرين بالتظاهر بالتواضع والتقوى والتدين وكل هذا لكي يخدعهم ويمارس عليهم سحر التدين وكأن من يخالفه يخالف الله نفسه. نجد الشخص المصاب بهذا المرض يهتم بالمظهر جدًا يؤدّي دور الولي التقي وصاحب الشفاعات لدرجة أن الكثيرين ينخدعون فيه ويصبحون ضحايا له، يتصرف فيهم وبهم كيفا يشاء ويدفعهم للقيام بأي شيء يرغب هو فيه، ويسلبهم في بعض الأحيان القدرة على التفكير والتحليل والنقد. إن “المُتظاهر” بالتدين يمارس اشد أنواع التأثير وغالبًا من يصل به الأمر لممارسة الشعوذة والسحر أو أي ممارسة دينية تدعم ادعائه وتثبت صدق كذبه وافترائه. وما أكثر رجال الدين الذين يمارسون التدين للحصول على مكاسب شخصية وللتأثير على الناس وخداعهم.
3– الشخص المُتظاهر بالعصبية:
غالبًا ما يمارس “المُتظاهر” العصبية لإسكات من حوله بالصوت العالي، لدرجة أن علو الصوت في كثير من الأحيان يظهر ضعف موقف صاحبه. فالعصبي هو شخص يحاول إنهاء المعركة لصالح نفسه بإطلاق الرصاصات الصوتية، والصراخ والعويل لكي ينسحب الجميع ويخضع لرغبته وإرادته. إنه جبان يمارس الإرهاب الصوتي لكسب المعركة. إنه مفتقد إلى الحجة ويسعى لإثبات موقفه بالصراخ لأنه لا يستطيع فرض رأيه بالحوار والمناقشة المتمدنة.
4– الشخص المُتظاهر بالعلم والثقافة:
من الحيل التي يستخدمها المُتظاهر هي حيلة العالِم بكل العلوم والعارف بكل المعارف لخداع الناس وإعطاء انطباع يبهر الآخرين ويشعرهم أنهم أمام إنسان يستحق الانتباه والإنصات وهو ما يسعى إليه “المُتظاهر”. تراه يلبس ثوب المثقف ويتكلم كما لو كان يعرف الأمور بعمق وهو يرتدي غالبًا النظارة ويتصرف كممثل بارع ويسعى إلى الحصول على القاب علمية أو يستخدم ألقاب مثل دكتور وأستاذ وبروفسور حتى إذا أضطر إلى تزوير شهادات لدرجات علمية لم يحصل في الحقيقة عليها. يحتاج المُتظاهر إلى الألقاب ويغضب غضبًا شديدة إذا خاطبه الناس دون ألقاب.
5– الشخص المُتظاهر بالاجتماعية:
يسعى الشخص “المُتظاهر” للتواجد في المناسبات الاجتماعية ويشارك حتى دون دعوة وغالبًا ما يزعج الآخرين ويوزع على المشاركين كروته الشخصية ويتواصل معهم ويرسل لهم رسائل قد يقنعهم أنه مهم ومعروف. إنه يحي فقط للحصول على إرضاء الآخرين ولا يهمه سوى رأي الآخرين فيه. وبما أن هدفه الأول والأخير هو الحصول على انتباه الآخرين فهو أسير لآراء الآخرين فيه.
6– الشخص المُتظاهر بالفكاهة:
أي “التظاهر” بالمرح والفكاهة لجذب الناس سواء بإلقاء النكات أو قص القصص والتكلم بطريقة أحيانًا مشوقة ولكنها في الحقيقة مزيفة ومصطنعة ومكررة وتفتقر إلى الموهبة. إنه يمثل دور ويضحك بصوتٍ عالٍ وكأنه اسعد إنسان على وجه الأرض ليخفي إحساسه العميق بالفشل والاغتمام. إنه يرتدي قناع لكي يُخفي حقيقة وجهه الحزين والمسكين.
7– الشخص المُتظاهر بالأهمية:
إنه لا يرد على المكالمات ويدعي أن لا وقت لديه وأن مشاغلها ومسؤولياته لا يتحملها الجبال ويمضي وقته وحيدًا ومتهربًا من الناس كي لا يكتشفوا أنه مجرد ظاهرة صوتية.
8– الشخص المُتظاهر بالخدمة:
إنه يمضي كل وقته في الخدمة ويقدم أكثر مما يطلب منه ويتظاهر بالسخاء والكرم ويرفض حتى الشكر، لا سيما في البداية، وهو يخفي خلف كل هذا رغبته الحقيقية في الحصول على مزيد من المسؤوليات ومن الاستفادة الشخصية. إنه يخدم لكي يستفاد من الخدمة. إنه يحول الخدمة إلى استثمار يسعى من خلالها للحصول على أكبر منفعة شخصية. إنه بائع أوهام ومستخدم ومدنس للمقداسات. يظهر براعة في التظاهر بالخادم الأمين ولكنه قد يسرق الأرامل وينهب المساكين ويعتدي على الضعفاء ويتحكم في المخدومين دون أن يشعر حتى بتأنيب الضمير. إنه ممثل بارع يبدأ بتنفيذ الأشياء البسيطة لكي يحصل شيئا فشيئا على مساحات أكبر ويرفض بعد ذلك التنازل عن أي شيء للآخرين. إنه كالسرطان يبدأ صغيرًا لكي يلتهم وبسرعة كل شيء حوله.
ما هي أسباب مرض التظاهر؟
ليس من السهل تحديد الأسباب الدقيقة لمرض التظاهر، ولكن يعتقد أن التظاهر تتعلق بمجموعة من العوامل النفسية والاجتماعية، مثل:
أولًا الحاجة إلى جذب الاهتمام والتعاطف:
يلجأ الشخص إلى التظاهر بالمرض للحصول على الرعاية والدعم من الآخرين، كما يفعل الأطفال حين يبكون لجذب انتباه أمهاتهم والحصول على الرضاعة والاهتمام. ويهو يمثل الدور الذي يهدف هدفه ويجعله ينال ما يريد.
ثانيا صعوبة التعامل مع الضغوط:
يُعتقد أن التظاهر بالمرض هو وسيلة للهروب من الضغوط والمسؤوليات. فالأطفال يهربون من مسؤولياتهم بدعاء أنهم غير قادرين على القيام بها و”المُتظاهر” يفعل الشيء نفسه. فالمُتظاهر يخترع أي شيء ويدعي أي شيء لكي يتهرب من مسؤوليته. والمثل الشعبي يقول: لا حرج على المريض، ولا حرج على المعاق، ولذا يسعى “المُتظاهر” لادعاء المرض والإعاقة لكي يتجنب مسؤوليات الأصحاء وغير المعوقين.
ثالثًا تمثيل دور الضحية:
يستمتع “المُتظاهر” بلعب دور المريض والمحتاج إلى تعاطف، وهو يلعب بشكل مستمر دور الضحية المسكينة والمظلومة التي لا يفهمها أحد. والخطير في الأمر أن من يلعب دور الضحية ليخدع الآخرين يمكنه أن يلعب دور الجلاد والقاسي بنفس الجودة والقسوة. إن المُتظاهر هو غالبًا شخص بلا قلب يمكنه ارتكاب أفظع الجرائم دون حتى أن يشعر بتأنيب الضمير. إنه في الحقيقة بلا ضمير.
كيف نتجاوز مرض التظاهر؟
أولا الوعي بالمرض:
الخطوة الأولى هي الاعتراف باستخدام حيلة التظاهر كآلية دفاعية لخداع الآخرين. الوعي هو نصف الطريق والسعي في طريق العلاج هو الدرب الوحيد للخروج من هذا النفق المظلم.
ثانيًا الاعتراف بالمرض:
لا يكفي الوعي ولكن يجب الاعتراف باستخدام التظاهر والكف عنه. يجب الوصول لقرار التوقف عن عيش الحياة كمسرحية نمثل فيها أدوار ونعتقد أن الآخرين لن يكتشفوا حقيقتنا.
ثالثًا نزع القناع:
التحرر من حمل العيش في كذبة لا تنتهي. التظاهر هو ادعاء شيء كاذب ومن الطبيعي أن الناس ستكتشف عاجلًا أو لاحقًا حقيقة الأمور وأنها انخدعت وبالتالي ستنفر من هذا “المُتظاهر” المزيف. والشفاء لا يتم إلا بقرار خلع القناع وقبول أنفسنا كما نحن.
رابعًا التواصل الصريح:
العلاج يحتاج لممارسة فحص الضمير اليومي ومراجعة الذات ومواجهة الذات بالحقيقة ومعرفة أن لا حرية بلا حقيقة “الحق يحرركم” كهذا يعلمنا المسيح.
خامسًا الامتنان:
يقال إن الامتنان يساعد على إفراز هرمون الدوبامين في الدماغ والذي يعزز الشعور بالسعادة ويساعد على التفاؤل، ولذلك التركيز على النعم وسيلة رائعة للتخلص من المزاج السلبي وتحويل التركيز بعيدًا عن الإحباطات والإخفاقات.
سادسًا تجنب التذمر الجماعي والأشخاص السلبيين:
الأشخاص السلبيين يؤثرون على من حولهم ولذا يجب تجنبهم والسعي لقضاء الكثير من الوقت في التفكير في آلام ومعاناة الآخرين فمن يرى آلام الناس تهون عليه آلامه.
سابعًا طلب المساعدة:
في بعض الأحيان وعندما يكون المرض مزمنًا يجب التوجه إلى معالج نفسي أو متخصص وطلب المساعدة وتقبل العلاج.
ختامًا
التظاهر هو حيلة نفسية يمارسها كل البشر وهي جزء من السلوك البشري الاجتماعي ولكنه يتحول إلى مرض نفسي عندما يتحول من حيلة اجتماعية إلى ممارسة تدفع الشخص إلى عيش حياة مزيفة وإلى سلوك ثابت وإلى موقف غير قابل للنقاش وإلى وسيلة وحيدة لمجابهة الأمور والصعاب والحقائق. إنه مرض عندما يحول حياتنا إلى مسرحية عبثية نمثل فيها على أنفسنا وعلى الآخرين مما يحجب عنا نور الحقيقة ويمنعنا من النمو والتقدم والنضج. إنه مرض عندما يجعلنا ننغلق في كذبة أننا دائمًا ضحية. إنه مرض عندما يتحول كلامنا إلى شكوى دائمة، ويتحول حديثًا إلى تظلم وتذمر اتبعا للمثل الشائع: ” الشكوة رقوة” أي أننا نحمي أنفسنا من حسد الآخرين بالشكوى الدائمة. لذا يجب تعلم التفكير الإيجابي لأننا أبناء أفكارنا، فإن فكرنا بطريقة سلبية عشنا بطريقة سلبية وإن فكرنا بطريقة إيجابية عشنا بطريقة إيجابية. علينا دائمًا هزيمة السلبية بالإيجابية، والشكوى بالشكر، والتذمر بالامتنان.
برجاء العودة لموضوع
سنتناول في الأسابيع القادمة بعض الأمراض الأخرى (للحديث بقية).