أمّ المحبّة الإلهية نحو البشر
تأمل في السبت 30 أغسطس الموافق اليوم الثاني من توت 1731
الأب / بولس جرس
نص التأمل
مريم العذراء المتوقدة القلب بالحب الإلهي
هي نفسها الأم التي لا تتخلى أبداُ عن الذين يدعونها ويلتمسون شفاعتها وأمومتها.
فمريم أم المحبة الإلهية، بحكم كونها كذلك لا يمكن أن تتركنا أبداً أو تتخلى عنّا،
بل نستطيع ان نلمس حضورها وشفاعتها القوية كل يوم في حياتنا الخاصة والجماعية
وحيث لا يستطيع قلبٌ من قلوب البشر كلها ان يقارب قدر اشتعال هذه النار المقدسة في قلب والدة الله
حيث كان هذا القلب البتولي بجملته، متفرغاً من الانعطاف نحو الأشياء الأرضية،
حتى أضحى معداً ومهيأ لأن يلتهب كله بنار الحب نحو الله والبشر
ووجد ملتهباً دائماً بعواطف الحب وصار مشتعلاً بجملته كاللهيب ( القديس إيرونيموس )
إن المحبة معتزمةٌ كالموت وسرجها سرج نارٍ ولهيبٍ مياه كثيرة لم تستطع أن تطفئ المحبة والأنهار لا تغرقها (نشيد 8:7)
يفسر القديس أنسلموس ذلك بقوله: أن ناراً كانت تتقد في قلبها باطناً
بينما كانت هي من خارج تضيء كالسرج بضياء الفضائل كلها…
فحينما كانت والدة الإله على الأرض حاملةً على ذراعيها طفلها الإلهي
كان يمكن حسناً أن تسمى “ناراً حاملةً ناراً” نظير ما تحمي النار الحديد
بمعنى أن الروح القدس قد ألهب بحرارة الحب الإلهي مريم البتول بكليتها
وهكذا كان يظهر فيها لهيب نار هذا الروح البارقليط حتى أنها لم تعد تشعر هي في ذاتها
بشيء آخر الا بشهاب نار الحب الإلهي متقدةً في نفسها وقلبها.
وقال القديس توما الفيلانوفي: أن العليقة التي رآها موسى ملتهبةً بالنار كلها من دون أن تحترق،
كانت رسماً لقلب البتول والدة الإله: ولذلك شوهدت هذه السيدة بالصواب “ملتحفةً بالشمس” (رؤيا 12:1)
لأنها كانت هي متحدةً بالله بشدة الحب كما لا تستطيع خليقةً أن تتحد به.
فمريم تبدو مغمورة في ذاك النور غير المقترب منه، بمقدار ما يمكن لخليقة أن تكون موضوعاً قابلاً لذلك.
لقد كانت مريم ي مدة حياتها على الأرض لا فكرٌ آخر ولا شوقٌ ما، ولا لذةٌ أخرى، سوى الله
ذلك أن نفسها كانت دائماً ف مرتفعةً الى العلاء في نحو الله كالنسر عيناه محدقةً على الدوام في الشمس.
كانت تحبه بفعل حبٍ واحدٍ حاليٍ (مستمر) فعالٍ (دائم) متصلٍ (لا يعرف توقفا أو نهاية)
لقد امتلأت مريم بالحب الشديد لله بهذا المقدار،
حتى أنه لم يعد ممكناً أن توجد خليقةٌ في الأرض قادرة
لأن تستوعب حباً أكثر من ذلك: ولهذا قال القديس توما الفيلانوفي:
أن البتول المغبوطة بواسطة فضيلة محبتها لله المتقدة في الغاية.
قد صيرت ذاتها بهذا المقدار جميلةً في عينيه تعالى. ومحبوبةً منه كثيراً،
حتى أنه عز وجل أنجذب من حبها لأن ينحدر من السماء الى مستودعها متأنساً.
ولذلك يهتف القديس برنردينوس قائلاً:
هوذا أن فتاةً بتولاً قد جرحت قلب الله حباً بفضيلتها، وعطفته الى حبها الشديد
فاذاً من حيث أن العذراء المجيدة تحب إلهها حباً هذا حده وصفته،
فأمرٌ أكيدٌ هو أنها لا تطلب راغبةً من المتعبدين لها شيئاً آخر
بمقدار ما تريد منهم أن يحبوه تعالى بكل ما يمكنهم.
فهكذا قالت هذه السيدة للطوباوية أنجلا التي من مدينة فولينو :
في يومٍ ما حينما تناولت أنجلا القربان الأقدس، مخاطبةً إياها بهذه الكلمات وهي:
” كوني مباركةً من أبني يا أنجلا، وأجتهدي في أن تحبينه بكل أستطاعتكِ”.
وقالت للقديسة بريجيتا:
” أن كنتِ يا أبنتي تريدين أن تتحدي بي برباط الوحدة، فأحببي أبني”.
وبالاجمال أنها لا تشتهي شيئاً آخر سوى أن يكون أبنها الذي هو الله بالذات محبوباً من الجميع.
ولأنها مشتعلةٌ بجملتها بنار حب الله، فهكذا تشرك الذين يحبونها ويقتربون إليها بحرارتها وتجعلهم متشبهين بها.
ومن هذا القبيل كانت القديسة كاترينا السيانية تسمي هذه البتول: جالبة نار الحب الإلهي
فأن كنا نحن أيضاً نريد أن نلتهب بهذه النار المغبوطة، فلنجتهد دائماً في أن نقرب
من أمنا مريم المجيدة بالصلوات والتوسلات وبعواطف الحب نحوها.
وحيث أن المحبة لله والمحبة للقريب قد رسمت علينا من قبل الله بوصيةٍ واحدةٍ هي نفسها
لأن هذه الوصية لنا منه، أن من يحب الله، يحب أخاه أيضاً (1يوحنا 4: 21):
فكيف نستطيع ان نقول اننا نحب الله الذي لا نراه ونحن نكره أخانا الذي نرى
فالقديسة كاترينا دي جانوا كانت يوماً ما تخاطب الله قائلةً: أيها الرب أنتَ تريد مني أن أحب قريبي،
وأنا لا أقدر أن أحب آخر غيركَ. فأجابها الرب: إن من يحبني يحب كل الأشياء المحبوبة مني.
فاذاً من حيث أنه ما وجد قط، ولن يوجد أصلاً من أحب الله أو يحبه أكثر من والدته المجيدة،
فهكذا لم يوجد مطلقاً ولن يكون أبداً من أحب القريب أو يحبه أكثر من حبها إياه.
ولذلك قد كانت هذه الأم الإلهية في مدة حياتها على الأرض ممتلئةً من المحبة والرأفة بهذا المقدار،
حتى أنها كانت تسعف المحتاجين من دون أن يلتمسوا منها ذلك.
وكما فعلت غثر البشارة عندما قامت مسرعة لتخدم اليصابات
وكما فعلت في عرس قانا الجليل، بطلبها من أبنها أن يصنع تلك الأعجوبة،
فكم ستكون سريعةً نشيطةً حارةً في اسعاف القريب،
ثم أنها لم تستطع أن تظهر نحو البشر أشد حباً من أنها تقدم لله الآب من أجل خلاصهم
أبنها الوحيد ضحيةً على جبل الجلجلة. كما يقول القديس بوناونتورا:
أن مريم هكذا أحبت العالم، حتى أنها بذلت عنه أبنها الوحيد
ويقول القديس بوناونتورا عينه: أن رأفة مريم ومحبتها إيانا لم تنقص فيها أصلاً بعد ارتقائها الى السماء
حيث هي الآن جالسة، بل أن ذلك قد أزداد فيها هناك نمواً وأشتد حرارةً
لأنها الآن تشاهد أحوال وشدائد البشر بالتالي فان مراحم مريم نحو المحتاجين والمساكين عظيمةً
وهي الان أعظم في وجودها مالكةً في السماء ولذلك قال ملاك الرب للقديسة بريجيتا:
” أن ما من أحدٍ يتوسل الى والدة الإله، ولا ينال من قبل حبها النعمة التي يطلبها”
بل أن مخلصنا نفسه أوحى لهذه القديسة بقوله لها: يا لتعاسة أولئك الذين لا تتوسل من أجلهم أمي البتول
فكذلك مريم أم المحبة الإلهية والبشرية مملؤةٌ أشفاقاً وترأفاً ومحبةً نحو الجميع،
لذا نستطيع في كل حين ان نكون واثقين أن شفاعة مريم لأجلنا ولأجل جنسنا عظيمة
ليس عن استحقاقاتنا ولكن لأنها نابعة من طبيعة الحب الإلهي الذي يتوقد به قلبها