المونسنيور د. بيوس قاشا
في البدء
من المؤكَّد وهو ليس بسرٍّ إذا قلنا أن البشرية ببكرة أبيها، ببلدانها المتقدمة والفقيرة، تعيش لحظات محنة، والجميع يشعر بالحاجة الملحّة والماسّة إلى التضامن والاعتماد بعضهم على بعض انطلاقاً من محدودية المواجهة وهشاشة الوجود البشري أمام الفيروس كورونا هذا الذي ولّد آلاماً كبيرة، وزعزع كافة مسارات ومسافات الخليقة في وقت قياسي، وبإمكاننا أن نعتبر ذلك جرس إنذار للخليقة برمّتها. والبشرية تسعى جاهدة إلى احتواء المرض والحدّ من انتشاره ما يجعلنا أن ندرك إلى أي حد مدى ضعف حقيقتنا الجسدية، ومسيرتنا الثقافية، وامورنا السياسية، ولقاءاتنا الاجتماعية، فهل نحن في حرب عالمية ثالثة!.
الله وتواضعه
كما أن الإيمان الحقيقي في المسيحية، والمسؤولية الأمينة في مسيرة الحياة، تمنحان الإنسان قوة داخلية لازمة ليشهدَ الإنسانُ لحقيقة كلماته وفي معنى فحواها وليس في أجواء صداها وقولها بسلاسة الكلمة والنحو. ولا يمكن ان يكونَ اعتذارُنا عبر أبواق الإعلام ودعايات المقالات وإعلانات المصالح كي لا تكون أكذوبةً للزمان وفشلاً للحقيقة بل عبر الخليقة الجديدة كي يتجلّى الله، وما يقوم به يجري في الله. فاتحاد الله مع هذا الكائن لا يموت بموته بل يواصل وجودَه في الآخرين لأنه الحقيقة بالذات، ويجسد اللهَ وتواضعهَ في مسيرة حياته البشرية، عبر كلمات الاعتذار، ما أجملها وما أعمق معناها وحقيقتها، إنها تقود الإنسان إلى تواضع حقيقي لأنها نابعة من حقيقة المسيح وبالتالي من الحقيقة الإيمانية التي ورثناها من جرن عماذنا ، والتي عبرها ينحني كبير القوم أمام صغير الدار احتراماً ومحبةً وليس احتقاراً وكرهاً، والسبب يعود إلى تعليم الله لنا في تواضع المسيح يسوع في التجسد والخدمة فقد قال بولس الرسول والرسول يوحنا “أخلى نفسه آخذاً صورة عبد… وضع نفسه وأطاع حتى الموت… لكي تجثو كل ركبة باسم يسوع” (فيلبي5:2-10). “خلع ثيابه… وصبّ ماءً… وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ” فعمل المسيح هذا ما هو إلا عمل الخادم والعبد (يو1:13-6)، وهنا تظهر لنا صفتان ملازمتان “نزوله إلى الإنسان الخاطئ” و”بذل نفسه عن أحبائه”، وبذلك أغنى بكامل إرادته حقيقةَ بشريتنا، إذ أصبح الاله خادماً حيث ترك سماءه ليُظهر سرّ تواضعه وخدمته بكامل محبته… إنه سرُ السماء وسرُ الحقيقة.
المسيحية وحقيقتها
لذا فحقيقة الاعتذار لايجوز أبداً أن تكون عبر شفاهنا فقط، أو عبر عبارات هوائية نقولها غير مبالين،كي نبعد عنا حقيقة خطئنا لنُظهِر براءَتنا بسبب غضبنا كي لا نُشوّه سمعتَنا والحق يقال أنه لا سبيل إلى الشعور بمسؤوليتنا إلا عندما نُدرك جيداً ونفهم ونحيا ما قاله الرب يسوع “أترك قربانكَ على المذبح واذهب وصالحْ أخاكَ ثم عد وقرّب قربانك” (متى24:5)،إنها حقيقة الاعتذار بملء معناها، فالإنجيل ليس كلمات إنشاءٍ نصوغها ثم نعلنهالأحاديثنا البشرية وغاياتنا الكبريائية المصلحية بل حقيقةٌ إيمانية نحياها بكل تواضع لعيش حقيقة المسؤولية التي نفتخر بمنصبها، فليس في المسيحية شيء مستحيل إذا أردنا أن نكتشف المسيح النائم في سواد قلوبنا، وليس في ” سفينة التلاميذ ” ( متى 25:8)، ليقوم ويقيمنا معه في حقيقة وجودنا .
إنساننا ومسؤولياته
من المؤسف أن الزمان يُعولم إيماننا ويجعلنا نقرأ ما نحتاج من الإنجيل لمسيرة وجودنا وليس لحقيقة إنساننا ومسؤولياتنا، فإننا نتباهى أحياناً بأننا في العلم درجةً، وفي البيان درجاتٍ،وفي الجمال درجةً وفي الجاه درجاتٍ وفي المكانة عالية ولا سواها وننسى أن الحقيقةَ أعمق من ذلك، وأمثلة كبار القديسين عديدة تصف لنا أن طريق الملكوت ليس كلاماً ولا عنوانا بل أن المسيح هو الطريق والحق والحياة. والحقيقة والتي يجب ان تقال علانية هي أن يترك الإنسان قرابينه على المذبح والتي تشهد لعلاقته مع إله السماء ثم يذهب يفتش ومن حوله ليضمّدَ جراح مَن سبّب في جراحه كي يكون عاملاً أميناً لهذه الحقيقة لينال بعد ذلك كلمة الثقة في المصالحة التي تقول “كل ما فعلتموه بأحد هؤلاء الصغار فبي فعلتموه” (متى40:25).
الله وسره
في الإعتذار الحقيقي تنفتح عيون الإنسان ليدرك ما ارتكبه تجاه جاره من جرح عميق وإساءة شوَّهت سمعتَه، فلو كان مَن اعتذر يدرك جيداً أن إساءته للآخر ما هي إلا إساءة للسيد الرب بذاته، لمّا قام بهذه الفعلة المشككة فما عليه الا ان يتذكر قولَ الرب على لسان بولس الرسول الذي يقول “إن كنت أتكلم بالسنة الناس والملائكة ولكن ليس لي محبة.” (1كور13). فالجمال وهندسة الحياة واللغة وبيانها والأقوال والكلمات والمناصب والسيادات مهما صرخت ليلاً ونهاراً أمام أعين الرب وبذراعين منفتحين لا نفع فيها اذا خلت من محبة الذهاب ليصلح ما افسده ويداوي ما جَرَحه ، فكل ذلك لن يُجدي نفعاً، إلا عندما تنتهي من داخل عقولنا وأفكارنا حبنا للذات وللأنانية ولعقليةِ الطائفية ولثقافة المحاصصة ولكبرياء المسؤولية فما ذلك إلا وباء ينخر جسم الكنيسة ومسيرة إيماننا وحقيقة مسيحيتنا ولكي يسمو الى هذا المقام يجب ان نقلع شوكة الالم من داخلنا والتي سببها هذا الحدث ، لذلك لا يجوز أن نرتدي أقنعة لمسيرتنا نختبئ من خلفها ونخبئ ما في داخلنا من أفكار وشهوات وغايات فالرب يقول “من الفكر (القلب) تخرج أفكار شريرة” (متى19:15). فالتنازل عن الكبرياء إلى حيث الخدمة يهذب حقيقة وجودنا ويشهد لحقيقة اعتذارنا وصلحنا ويقلل من سلبياتنا وأنانياتنا لنزداد قداسة في درجات حقيقتنا الإيمانية. فسرالاعتذار، لا يمكن إدراكه لأنه سر الله وينبثق من حقيقة الله، إنه سر عظيم حيث يتخذ لنفسه تجسيدَ محبة متواضعة – ولكنه اليوم ومن المؤسف- ما هو إلا مرض الزمان، فحقيقة تواضعنا هي حقيقة إيماننا، لأن الإيمان يمنح الإنسان القوة الداخلية اللازمة ليشهد لحقيقة المسيح الذي قال “لا تكن محبتكم بالكلام ولا باللسان بل بالعمل والحق” (1يو18:3).
حقيقة رحمته
نعم إن الحقيقة المسيحية تجعلنا ان نفتح عيوننا لندرك أخطاءنا قبل أن نقدم إعتذارنا للذين جرحناهم، فكل إساءة للآخر هي إساءة للرب السيد بذاته حتى لو نرفع دعاءنا إلى رب السماء، فنحن بحاجة ماسّة إلى بعضنا البعض من أجل البقاء على قيد الحياة، فالإعتذار ليس مجاملات.فمن المؤسف ان الذي يقدم اعتذاره أحياناً لا يؤمن أنه في الخطأ بل يعتبر نفسه هو الحقيقة مهما كان إذ يظن أنه مسؤول الزمان وكبير القوم ووحيد الايام فلا يمكن أن يخطأ، والفيروس، حقيقة اليوم جعلنا كلَّنا خطأة إذا ما أسأنا طريقة وقايتنا.فهو يدعونا جميعا كباراً وصغاراً ، عبيداً وأسياداً، شعباً ورؤوساءً، الى فعل التوبة الحقيقي كشعب نينوى فنرى حقيقة رحمة الرب. وإذ كنا ننكر مسؤوليتنا في ارتكاب الخطيئة يكفي أن نتأمل ذلك المعلَّق على الصليب والقائل “هذا هو دمي لمغفرة الخطايا” (متى28:26)، إنه “الحَمَل الحامل خطيئة العالم” (يو29:1)، تصرّف وكأنه مسؤول عن خطايانا إذ أنه هو الذي “لم يعرف الخطيئة، جعله الله خطيئة من أجلنا لكي نصير نحن به برّ الله” (2كو21:5).
الختام في الختام ، المسألة في صعوبة الإقرار بأننا خطأة. نقرّ حقاً أن في حياتنا انحرافات أدبية لكننا لا نقرّ بأننا مسؤولون تماماً عما نقترف بل نَنسب ما نُقدِم عليه إلى ضعف الإرادة أو المزاج أو عنف التجربة، أو إذا اعترفنا بأننا قد أخطأنا لا نرى كيف أن الله قد مُسَّ في كرامته ومجده وحقوقه ومحبته. فلكي نعترف بمسؤولية المَسّ بكرامة الآخر البريء، ينبغي علينا أن نعيد النظر في مفهومنا لله، فالله ليس غريباً، الله أب وصديق، وله معنا ما للأب مع ولده وما للصديق مع صديقه “لا أسمّيكم بعد عبيداً بل أحباء” (يو15:15). فَمَن أدرك سرَ المسيحية فهو يدرك سر الله وسر الإنسان. أجل ما أسعد الإنسان يوم يعود إلى ربه، وليعلم ان التوبة والاعتذار ليستا عودة إلى التقيّد بشريعة بقدر ما هما تقيّد بمتطلبات المحبة ومنها الاعتراف بالخطأ والاعتذار عن الخطأ.والبابا فرنسيس يقول جازماً ” بأن ما يحدث حول العالم يهزّنا في عمق أعماقنا ولهذا فقد حان الوقت لإصلاح الظلم الذي يهدد جذور سلامة البشرية بأسرها” .من أجل أن تحيا حقيقة الايمان في هذا الزمان القاسي والمخيف ، نعم إنه يدعونا الى التوبة والاعتراف في سر المصالحة فنترك قرباننا على مذبح الرب ونذهب ونعتذر ونصالح من اسأنا إليه ثم نعود ونرفع الصلاة ، نعم تلك حقيقة الاعتذار . نعم إني أدرك تماماً أن زمن الفايروس كورونا هو زمن الأعتذار عن الاساءة فهو يقول لنا جئتكم علامة فلا تهملوا حقيقة وجودي فاقرأوا رسالتي اليكم ، وعودوا الى ابيكم السماوي فهو ينتظركم ، إنه رحوم .نعم إنه رحوم فهو يغفر لكم لانه يحبكم . نعم وامين .