الفصل الثالث
حقوق الإكليروس وواجباتهم
للأب د. يوأنس لحظي جيد
سبق وإن اوضحنا أنه بالانتماء الإكليريكي يحصل المنتمي على حقوق وواجبات يحددها القانون، وهذا الجزء الخاص بحقوق وواجبات الإكليروس يعد “منهجا روحيا متكاملا” لكل “دعوة حقيقية” تريد أن تحيا بحسب قلب الرب. فالقوانين في هذا الجزء هي لا يمكن اعتبارها “قوانين” بالمعنى الضيق للكلمة، بل هي ارشادات روحية وعملية لمساعدة الإكليريكي، الذي اختار الخدمة المقدسة ليحي رسالته بطريق تليق بالدعوة التي دعيّ إليها.
أولاً: حقوق الإكليروس:
1- نوال وظيفة: يحق للاكليريكي بمجرد الانتماء القانوني “أن ينالـوا من أسقفـهـم الإيبارشي بعد الوفاء بما يقتضيه الشرع وظيفة ما أو خدمة أو مهمّة يمارسونها لخير الكنيسة” (ق. 371 بند 1).
2- معيشة لأئقة: الشرع الكنسي يؤكد أن “للإكليريكيين الحقّ في معيشة لائقة، وعليه، فلهم أن يحصلوا مقابل القيام بالوظيفة أو المهمّة المعهودة إليهم، على مكافأة عادلة، يجب إذا تعلّق الأمر بإكليريكيين متزوّجين أن تضمن معيشة أسرتهم، ما لم يكن قد دُبّر الأمر على وجه وافٍ بطريقة أخرى. كذلك يحقّ لهم، ولأسرتهم إذا كانوا متزوجين، أن يـُوفّر لهم الضمانات الملائمة والتأمين الاجتماعي والتأمين الصحّي. (ق. 390 بند1، 2).
3- الأجازات: يكفل القانون حق كل إكليريكي في أن يكون له “كلّ سنة الحقّ في فترة من الزمن يحدّدها الشـرع الخاصّ بمقتضى الإجازة” (ق. 392).
4- الانضمام لجماعات روحية: ففي استطاعة الإكليريكيّين أن ينضمّوا إلى غيرهم من جماعات أو جمعيات لتحقيق أهداف ملائمة للحالة الإكليريكيّة (ق. 391).
5- الخدمة الإرسالية: يمنح القانون الإكليريكي حق وواجب الحرص على الكنائس كلّها، ومن ثم فليُسارعوا إلى الخدمة حيثما دعت الضرورة الملحّة، لا سيّما بمزاولة خدماتهم في الإرساليّات أو المناطق التي تعاني من نقص في عدد الإكليروس، إذا ما سمح بذلك أو حرّض عليه أسقفهم الإيبارشي أو رئيسهم (ق. 393).
ثانياً: واجبات الإكليروس:
1- التبشير: “واجب الإكليروس الأوّل هو تبشـير الجميع بملكوت الله” (ق. 367)، وهذا الواجب ينبع من دعوة المسيح إلى تلاميذه عندما قال لهم: “اذهبوا إلى العالم كله، واعلنوا البشارة إلى الناس أجمعين” (راجع مر16: 15)، فالدخول إلى الحالة الإكليريكية يعني بذات الفعل الالتزام الجذري بواجب التبشير. وإذا ما تكلمنا عن الكاهن فإن أمر الرب بتبشير جميع الأمم (مت28: 18- 20) يُشكّل بُعداً أساسيا في وجود الكاهن حيال الكنيسة. ذلك لأن “الموهبة الروحية التي تلقاها الكهنة بالرسامة تُعدُّهم لرسالة خلاص في نطاق شامل”[1]، فالكهنه كلهم هم شركاء الجسم الأسقفي، ويخدمون الكنيسة كلها[2] عن طريق خدمتهم لكنيسة محددة، لأن كل كنيسة خاصة إنما هي تجسيد محلي لكنيسة المسيح الواحدة.
2- المحبة وخدمة الأسرار: كما يناط بالإكليروس واجب “إظهار محبّة الله للبشر في خدمة الكلمة والأسرار المقدّسة، بل في حياتهم بأسرها، ليحبّ الجميع بعضهم بعضا والله تعالى فوق كلّ شيء، فيُبنوا ويَنموا في جسد المسيح الذي هو الكنيسة” (ق. 367).
3- الرحمة والقداسة: كما يشير القانون إلى أن “الإكليريـكيـّون مُلزمـون بنـوع خاص بالكمـال الذي دعا المسـيح تلاميذه إليه، لأنّهم بالرسامة المقدسة تكـرّسوا لله تكريسا جديدا، ليصبحوا بين يدي المسيح الكاهن الأبدي، أداة أصلح لخدمة شعب الله، ويكونوا في الوقت نفسه قُدوة للرعيّة” (ق. 368).
4- الصلاة والتأمل: إن الصلاة يجب أن تكون الخبز الحياتي للإكليريكي ، ومن ثمَّ فعلي كل “أن يعكفوا يوميّا على مطالعـة كلمة الله والتأمّل فيها، ليصبحوا بإصغائهم وتنبّههم بأمانة للمسيح خدّاما حقيقيين للكرازة؛ وأن يواظبوا على الصلاة والاحتفالات الطقسيّة، لا سيّما التعبّد لسرّ القربان الأقدس؛ ويفحصوا ضميرهم كلّ يوم ويَقبلوا بكثرة سرّ التوبة؛ ويكرّموا القدّيسة مريم الدائمة البتوليّة أمّ الله، ويلتمسوا منها نعمة التشبّه بابنها ويتمّموا سائر الممارسات التقويّة الخاصّة بكنيستهم المتمتّعة بحكم ذاتي” (ق. 369 بند1). وذلك ايضا عن طريق “الاحتفال بالصلوات الطقسيّة وفقا للشرع الخاص بكنيستهم المتمتّعة بحكم ذاتي” (ق. 377). ولا سيما الاحتفال بكثرة بالذبيحة الإلهية، “لا سيّما في أيّام الآحاد والأعياد الإلزامية؛ بل يجدر ويحسن الاحتفال به كلّ يوم” (ق. 378).
5- الأرشاد الروحي: إن المرشد الروحي هو ضرورة ملحة لكل إكليريكي، لأنه الدليل الأكيد الذي يساعده على النمو الروحي، فعلى “كل إكليريكي أن يُـولوا الإرشاد الـروحي بالـغ التقديـر، ويتـفرّغوا للخلوات الروحيّة في الأوقات المقرّرة وفقا لأحكام الشرع الخاص” (بند 2).
6- الطاعة: إن الطاعة هي سمة أساسية من سمات الإكليروس، وهي “صفة كهنوتية من الظراز الأول”[3]، وهي لا يجب أن تنبع لا من الخارج (خارجية) ولا من خوف من الرؤساء، بل يجب أن تكون مؤسسة على المحبة الإنجيلية، وقائمة على التشبة بالابن الذي كان مطبعا لله الآب طاعة كاملة ومسئولة وحرة. ومن ثمَّ، فعلى “الإكليـروس واجـب خاصّ في إبداء الاحترام والطاعة للحبر الروماني والبطريرك والأسقف الإيبارشي” (ق. 370). والطاعة، بالنسبة للإكليريكي، كما بالنسبة إلى المسيح، تعبّر عن إرادة الآب التي تظهر له من خلال رؤسائه الشرعيين. وهي يجب أن تكون ثمرة حرية شخصية، لأن اختبار المدعو للسلك الإكليريكي يعني بذات الفعل اختيار الطاعه كفضيلة وكنهج حياة[4].
7- الأمانة والمسئولية: “على الإكليريكيين أن يقبلوا ويتـمّموا بأمانة الوظيفة أو الخدمة أو المهمّة التي أسندتها إليهم السلطة المختصّة، كلّما دعت إلى ذلك بحكم هذه السلطة احتياجات الكنيسة” (ق. 371 بند 2).
8- التفرغ الكامل للخدمة: فالاكليريكي لا يجب أن ينشغل بأي اعمال أخرى غير خدمته. والقانون يؤكد أنه لا يستطيع وليس بوسعه ممارسة مهنة مدنيّة، يلزمهم ترخيص رئيسهم الكنسي (371 بند 3).
9- التكوين المستمر: إن اتمام سنوات الإكليريكية لا يعني بحال من الأحوال الانقطاع أو إهمال التكوين المستمر والدائم فعلى الإكليريكي ألا ينقطعْ عن العكوف على العلوم الدينية، لا بل عليه أن يسع إلى المزيد من التعمّق والتحديث في معلوماتهم واستخدامها، عن طريق دراسات تكوينيّة يعتمدها رئيسهم الكنسي. كما عليه الاشتراك في الن دوات التي يـراها رئيـسه الكنسي ملائمة لتنمية العلوم الدينية والشؤون الرعوية (ق. 372 بند 1، 2). لأن الكهنة، كما يقول قداسة البابا يوحنا بولس الثاني: “هم المسؤولون الأولون عن البشارة في الألف الثالث. ولكنهم، لكي يتمكنوا من الأضطلاع برسالتهم، يحتاجون إلى أن يغذّوا في ذواتهم سيرة تنعكس فيها هويتهم انعكاساً خالصاً، وأن يعيشوا في اتحاد حب بيسوع المسيح، الكاهن الأعظم والأبدي، رأس كنيسته ومعلمها وعروسها وراعيها، ويرفدوا روحيّتهم بتنشئة دائمة وكاملة”[5].
10- الزواج والتبتل: إن التشريع الكنسي اتباعاً للتقليد الكنسي الشرقي العريق يسمح بالاختيار الحر بين الزواج أو التبتل فيقول المشرع: “إن التبتّل الـذي يـعتـنقه الإكليروس من أجل ملكوت السماوات ويلائم الكهنوت حقّا، يجب أن يلقى أبلغ التقدير في كل مكان، على ما ورد في تقليد الكنيسة بأسرها؛ وكذلك يجب أن تـُحاط بالإكرام حالة الإكليريكيين المرتبطين بالزواج، وقد ايّدتها ممارسة الكنيسة الأولى والكنائس الشرقيّة على مرّ العصور” (ق. 373). إلا أن الإكليريكي سواء أكان متبتلا أو متزوجاً على الالتزام بفضيلة العفة: “على الإكليريكيين المتبتـّلين منـهـم والمتزوجين أن يتألّقوا ببهاء العفّة؛ وعلى الشرع الخاص أن يقرّر الوسائل المناسبة التي يجب اتخاذها لبلوغ هذا الهدف” (ق. 374).
11- المحبة الأخوية: إن التشريع الكنسي استناداً على وصية المسيح لتلاميذه بأن يحبوا بعضهم بعضا ليعرف العالم أنهم تلاميذه (راجع يو 13: 34) يؤكد أنه على “الإكليريكيين أن يكونـوا متّحدين برباط المحبّة مع إخوتهم من أيّة كنيسة متمتّعة بحكم ذاتي، ليتبارَوا جميعا في سبيل غاية واحدة، ألا وهي بناء جسد المسيح، ولذلك، فأيًّا كان وضعهم، ومهما اختلفت الوظائف التي يؤدّونها، عليهم أن يتعاونوا ويساعد بعضهم بعضا” (ق.379).
كما يحثوا الإكليريكيين المتبتلين بأن يعززوا حياتهم الروحية عن طريق الحياة المشتركة، وذلك بقوله: أن “الحياة المشتركة بين الإكليريكيين المتبتّلين الجديرة بالثناء، يجب تعزيزها قدر المستطاع، ليساعد بعضهم بعضا في تنمية حياتهم الروحية والثقافية ويتمكّنوا من التعاون في الخدمة على وجه أصلح” (376).
فالمحبة الأخوية والصداقة الكهنوتيّة تسهل لكل إكليريكي القيام بشكل أفضل بمسئولياته ومهامه. فلا شك في أن “إقامة ورعاية صداقات كهنوتية ناضجة وعميقة هو مصدر اطمئنان وفرح في ممارسة الخدمة الكهنوتيّة، ودعمٌ حاسم في أوقات الضيق، وسند نفيس في تنمية المحبة الراعويّة التي لابد للكاهن من ممارستها، لا سيما تجاه الذين هم في ضيقٍ من بين زملائهم المحتاجين إلى تفهم ومساعدة ومساندة”[6].
إذا “نشـب اختلاف ما فيما بينهم، يجب إحالته إلى المحكمة الكنسية، ويُعمَل بالمثل، إذا أمكن في ما يتعلّق بالاختلافات بين الإكليريكيين وغيرهم من المؤمنين” (ق. 389).
12- تشجيع الدعوات: إن الدعوات الإكليريكية لا يمكن له أن تزتهر وتنمو ما لم تجد تشجيعا ملؤه الغيرة الرسولية من قبل الإكليريكيين، هذا التشجيع الذي يعطى بالتشجيع المستمر، وبالارشاد الروحي وقبل كل شيء بالقُدوة للجميع في أعمال الخير والضيافة، “لا بالوعظ والتعليم المسيحي والوسائل الأخرى الملائمة فحسب، بل قبل كل شيء بشهادة الحياة والخدمة” (ق. 380). فعلى كل إكليريكي يقع واجب رعاية الدعوات الكهنوتية رعاية خاصة، عن طريق التشجيع على الصلاة لأجلها وتعزيز المبادرات المؤاتية، والبحث عنها وتشجيعها[7].
13- الاستعداد الدائم: أن سر الرسامة المقدسة يجعل من مَنْ يناله أبا وخادماً للجميع، وهو كأبٍ يجب عليه أن يعمل وبلا كلل على رعاية ومساعدالجميع “لا سيّما تجاه المرضى والمظلومين والمضطهدين والمنفيّين واللاجئين” (ق. 381 بند1)، كخادم يجب عليه أن يـقدّم “للمؤمنين المساعدة من خيرات الكنيسة الروحية، لا سيّما بكلمة الله والأسرار المقدّسة، كلّما طلبوا ذلك على وجه ملائم وبالاستعداد الواجب وليس هناك ما يمنعهم شرعا من قبول الأسرار” (بند 2).
14- الإكليريكيين والعلمانيين: إن العلاقة بين الاكليروس والعلمانيين هي كالعلاقة بين أجزاء الجسد الواحد فكل عضو يحيا ويحقق كيانه بارتباطه بالعضو الأخر لخدمة كل الجسد، ومن ثمَّ فالمُشرع بناءً على تعالبم السيد المسيح وتعاليم المجمع الفاتيكاني الثاني، يحث كلاهما على احترام دور الأخر. وهنا (بما أن الكلام موجها للإكليروس) يدعوا التشريع الكنسي الإكليريكيين إلى أن يعترفوا بكرامة العلمانيين وما لهـم من دور خاصّ في رسالة الكنيسة ويدعموهم إلى تقدير مواهب العلمانيين المتنوّعة، مع توجيه اختصاصاتهم وخبراتهم لخير الكنيسة، لاسيّما بالطرق الواردة في الشرع (بند3). ذلك لأن بوسع الكهنة أن يؤدوا شهادة خالصة للرب القائم من بين الأموات الذي اعطاهم “كا سلطان في السماء والأرض” (مت28: 18) إذا مارسوا سلطتهم الخاصةعلى أنها خدمة متواضعة وشرعية في سبيل القطيع، مع مراعاة الوظائف التي يكلها المسيح والكنيسة الى المؤمنين العلمانيين[8].
15- الأموال وروح الفقر: يحث التشريع الكنسي الإكليريكيين على التحلي بروح الفقر الإنجيلي وأن يحيوا ممتلئين بروح فقر المسيح، فيكونوا “ببساطة سيرتهم شهود الخيرات السماوية أمام العالم، ويرصدوا أموالهم بنظرة روحيّة لأغراض سليمة؛ أمّا الأموال التي يحصلون عليها لدى ممارسة الوظيفة أو الخدمة أو المهمّة الكنسية، فبعد أن يوفّروا منها ما يلزم لمعيشتهم اللائقة والقيام بواجبات حالتهم، فليوزّعوها ويشاركوا بها في الأعمال الرسوليّة والخيريّة” (ق. 385). وذلك لأن فقر المسيح له غاية خلاصيّة، كان المسيح غنياً فافتقر لنغتني بفقره (2 كو8: 9) وهو برغم كونه “ابن الله”، “لم يعدّ مساواته لله غنيمة، بل تجرد من ذاته متخذاً صورة العبد” (فيل2: 6- 7). والمسيح ذاته يكشف سر الفقر، فهو بتخليه وفقره التام “قد تلقى كل شيء من الآ من الأزل”، وعلى مثال المسيح يجب أن يسعى الكاهن الى التشبه به في حريته الباطينية تجاه كل ثروات العالم، “فماذا ينفع الإنسان إن ربح العالم كله وخسر نفسه؟” (مر8: 36). فسر غنى الكاهن لا يعود إلى ما يملك من ممتلكات بل يكمن في اتخاذ الرب حصة ميراثه (عد 18: 20)[9].
16- محظورات: على الإكليريكيين أن يمتنعوا امتناعا تامّا عن كلّ ما لا يليق بحالتهم الإكليريكيّة، فعلى سبيل المثال:
– يًحظر عليهم تقلّد الوظائف العامّة التي تنطوي على المشاركة في ممارسة السلطة المدنيّة، برغم كونهم يتمتعون بالحقـوق المدنية والسياسية على قدم المساواة مع سائر المواطنين (ق. 382- 383).
– لمّا كانت الخدمة العسكرية غير ملائمة للحالة الإكليريكيّة، فلا يتجنّدوا متطوّعين إلاّ بترخيص من رئيسهم الكنسي.
– ألا يكون لهـم دور فـعّال في الأحزاب السياسيّة ولا في إدارة الاتحادات النقابيّة، ما لم تستوجب ذلك حماية حقوق الكنيسة أوالنهوض بالخير العام، وذلك بحكم الأسقف الإيبارشي، أو بموجب الشرع الخاص، بحكم البطريرك أو أيّة سلطة أخرى (ق. 384).
– يُمنع الإكليريكيّون من ممارسـة البيع والشـراء أو التجارة بأنفسهم أو بواسطة غيرهم، سواء لمنفعتهم أو لمنفعة الآخرين، إلاّ بترخيص من السلطة التي يحدّدها الشرع الخاص بكنيستهم المتمتّعة بحكم ذاتي (ق. 385 بند2).
– يُمنع الإكليريكي من أن يكفل أحدا ولو بأمواله الخاصّة، إلاّ بعد استشارة أسقفه الإيبارشي أو رئيسه الكبير إذا اقتضى الأمر (بند 3).
– يمنع عليهم بدون “منصب يسـتوجب الإقامة، مغادة إيبارشيتهم لمدّة طويلة، بدون ترخيص ولو مفترض، من رئيسهم الكنسي المحلّي (ق. 386).
ومما سبق يتضح لنا أن التشريع الخاص بحقوق وواجبات الكاهن ليس إلا تلخيصا لكل تعاليم الكنيسة عن خدمة ورسالة الإكليريكيين. فالقوانين تتسم بطابع روحي عميق يهدف إلى مساعدة الإكليروس إلى الوصول إلى القداسة الشخصية وإلى تقديس الأخرين. ولهذا فالمشرع يلح بطريقة قوية على ضرورة الصلاة ولا سيما إقامة الذبيحة الإلهية[10]، التي يجب أن تكون “قلب” وأساس كل دعوة إكليريكيّة، ذلك لأن في سر الإفخارستيا يتجمع كل كنـز الكنيسة الروحي، فهو مصدر قوة الكنيسة ومن ثمَّ يجب أن يكون “القوت اليومي والمحيي” لكل دعوة، فالكاهن يقيم الذبيحة والذبيحة هي التي تقيم الكاهن.
ورغبة من التشريع الكنسي في مساعدة الإكليريكيين على الاحتفاظ بالتوهج الدائم لشعلة دعوتهم، يدعوهم إلى جانب الاحتفال اليومي بالذبيحة المقدسة، إلى تلاوة صلوات الساعات (الأجبية) يومياً، وذلك تشبها بالسيد المسيح الذي كانت تحتل الصلاة في حياته مكانة فريدة. مع التأكيد على أن واجب الصلاة ينبع من طبيعة الدعوة ذاتها، فالإكليريكي هو “الكُبري”، ونقطة الوصل، بين الله والبشر، وهو، كما يصفه آباء الكنيسة، “فم الجماعة المسيحي” فهو يرفع الذبيحة ويصلي باسم الجميع، فكيف له أن يرفع إلى الله صوت الجماعة، أو أن يوصل للجماعة صوت الله، إلا من خلال الصلاة اليوميّة. فصلاة يسوع في جسيماني ترسم لنا نموذجا في “كيف يجب أن يكون كهنوتنا مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالصلاة، ومتأصلاً فيها”[11].
فمن الضروري أن ينظم الإكليريكي برنامج صلاته بحسيث يتضمن: “الاحتفال يومياً بالإفخارستيا مع ما ينبغي من الاستعداد لها والشكر، الإعتراف المتواتر، مع الارشاد الروحي… والاحتفال بليتورجيا الساعات احتفالاً كاملا وحاراً وهو من واجباته اليوميّة، ممارسة فحص الضمير اليوميّة، والتأمل الذهني في صيغته الأصيلة، والقراءة المقدسة، فترات مديدة من الصمت والنجوى الإلهية ولاسيما في الرياضات الروحيّة والخلوات الموسميّة، التعابير الثريّة في إكرام العذراء مريم ومنها تلاوة المسبحة، اقامة درب الصليب وسائر التمارين التقوية[12]… فاهتمام الكاهن بحياته الروحية يجب أن يحسبه هو بنفسه واجباً مُفرحاً، بل حقاً عليه من حقوق المؤمنين الذين يتوسمون فيه، بطريقة واعية أو ضمنية، رجل الله، ووسيط السلام، والصديق الحكيم، والدليل الأمين الذي يَركنُ الناس إليه في الظروف الحرجة، فيُصيبون عنده ما يحتاجون من دعم وأمان”[13]، والقاعدة تؤكد: “أن فاقد الشيء لا يعطيه”.
فالكنيسة، وإن كانت تتكون من اعضاء لك منها كرامته الذاتية، لا يمكن أن يسعها إلا أن تذكر الكاهن بدوره الأساسي لا في الحفاظ على ذاته وخلاصه فحسب، بل في دوره ومسئوليته في الحفاظ ومساعدة وخلاص الآخرين. هذا الدور الذي يحيا على أكمل وجه أثناء الصلاة، ولا سيما أثناء اقامة الذبيحة، حيث يتحد الكاهن اتحادا كلياً بالكاهن الأعظم، المسيح، هذا الاتحاد الذي يجعل منه لا فقط مقدم للذبيحة بل متحدا مع الذبيحة ذاتها، أي المسيح.
وأخيراً، يدعوا التشريع الكنسي الإكليريكيين إلى أن يحثوا هم ايضا بدورهم كل المؤمنيين على الاشتراك في الصلاة والذبيحة. مع الاحترام الشديد والجذري للطقوس الخاصة بكل كنيسة متمتعة بالحكم الذاتي، فيمنع منعا باتا أن يتم اضافة أو حذف أو اختصار أو تغيير اي جزء في الطقوس بدون الرجوع إلى السلطة المختصة.
[1] المجمع الفاتيكاني الثاني، قرار مجمعي في حياة الكهنة، 10؛ يوحنا بولس الثاني، اعطيكم رعاة، 32
[2] مجمع العقيدة والايمان، رسالة الكنيسةCommunionis notio (28 mai 1992) 10: AAS 85 (1993), 844,
[3] دليل في خدمة الكهنة وحياتهم، 61، ص87
[4] قرار مجمعي في حياة الكهنة وخدمتهم الرعوية، 15، يوحنا بولس الثاني، اعطيكم رعاة، 27، وتألق الحقيقة، 31، 32، 106
[5] كرسنزيو سيبه، دليل في خدمة الكهنة وحياتهم، 1994، ص. 4.
[6] المجمع الفاتيكاني الثاني، قرار مجمعي في حياة الكهنة وخدمتهم الرعوية، 12- 14.
[7] يوحنا بولس الثاني، اعطيكم رعاة، 96.
[8] الحق القانوني الغربي (CIC) ق.257§2, 529§1, 574§1
[9] راجع: دليل في خدمة الكهنة وحياتهم، 67، ص95- 97.
[10] لأن سر الإفخارستيا يذكر “بسر المسيح، سر موته وقيامته، ويمثل ذبيحة الفداء الوحيدة، تمثيلاً حقيقياً وفعالاً، وهي لكل حياة مسيحيّة وكل بشارة مصدرها وقمتها، ولكل خدمة كهنوتية مبدأها ووسيلتها وغايتها، وذلك لأن كل الخدم الكنسية والمهام الرسولية لها علاقة وثيقة بالإفخارستيا وإليها تتوجه” دليل في خدمة الكهنة وحياتهم، 48، ص66- 67، وايضا: قرار مجمعي في حياة الكهنة وخدمتهم الرعوية، 5.
[11] يوحنا بولس الثاني، رسالة في يوم خميس الأسرار(AAS 79, 10, 1987)، 13/ 4/ 1987.
[12] قرار مجمعي في حياة الكهنة وخدمتهم الرعوية، 5 و 18 ، يوحنا بولس الثاني، اعطيكم رعاة، 23 و26 و38 و46 و48.
[13] دليل في خدمة الكهنة وحياتهم، 39، ص52- 54.