الفاتيكان، الأربعاء 9 مايو 2012 (Zenit.org).
ننشر في ما يلي النص الكامل للخطوط العريضة لسينودس الأساقفة حول “التبشير الجديد”، وقد عنيت بنقلها إلى العربية المشاريع الرسولية البابوية في سوريا.
* * *
سينودس الأساقفة
الاجتماع العادي العام الثالث عشر
التبشير الجديد
لنقل الإيمان المسيحي
الخطوط العريضة
حاضرة الفاتيكان
2011
المحتويات
تمهيد
مقدمة
1- الضرورة الملحة للتبشير الجديد
2- واجب “التبشير”
3- التبشير والتمييز
4- إعلان البشارة في عالم اليوم، انطلاقا من تحديات الواقع.
الأسئلة
الفصل الأول
زمن ” التبشير الجديد ”
5-“التبشير الجديد” : معناه وتحديده
6- سيناريوهات التبشير الجديد
7- المسيحيون في مواجهة هذه السيناريوهات الجديدة
8-“التبشير الجديد” والحاجة إلى الروحانية
9- الملامح الجديدة لكينونة الكنيسة
10- البشارة الأولى، الاهتمام الرعوي والتبشير الجديد
الأسئلة
الفصل الثاني
إعلان إنجيل يسوع المسيح
11- اللقاء بالمسيح والشركة معه : هدف الإيمان
12- عندما تنقل الكنيسة الإيمان، إنما تعمل على تحقيق ذاتها
13- كلمة الله ونقل الإيمان.
14- منهجية نشأة الإيمان
15- الكنائس المحلية مسؤولة عن نقل الإيمان
16- ايضاح الحق : طريقة إعلان الإيمان
17- ثمار نقل الإيمان
الأسئلة
الفصل الثالث
المدخل إلى الخبرة المسيحية
18- التنشئة المسيحية : منهجية تبشير
19- الإعلان الأول من متطلبات الأشكال الجديدة للحديث عن الله
20- تنشئة الإيمان، التدريب على بلوغ الحقيقة
21-الغرض من احترام الكيان الحقيقي للشخص البشري
22-مبشرون ومربون لكونهم شهودا
الأسئلة
الخلاصة
23- العنصرة هي انطلاقة “التبشير الجديد”
24- “التبشير الجديد” رؤية لكنيسة اليوم وكنيسة الغد
25- فرح البشارة
تمهيد
“اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس وعلّموهم أن يعملوا بكل ما أوصيتكم به” (متى 28/19-20)
فقبل أن يصعد يسوع إلى السماء ويجلس عن يمين الأب (راجع أفسس 1، 20 ) أرسل تلاميذه لإعلان البشارة إلى العالم أجمع. وكانوا عبارة عن جماعة صغيرة من الشهود لحياة يسوع الناصري على الأرض ولتعاليمه وموته وقيامته على وجه الخصوص (راجع أعمال 1، 22 ). لقد كانت مهمة كبيرة تفوق طاقاتهم. وبقصد تشجيعهم، فقد وعدهم بمجيء المعزي الذي سيرسله الآب باسمه (راجع يوحنا 14 و26 ) والذي سيعلّمهم الحق كله (راجع يوحنا 16 و13 ) وعلاوة على ذلك فقد أكد لهم حضوره الدائم :”وها أنا معكم طوال الأيام إلى منتهى الدهر” (متى 28/20).
وبعد العنصرة التي حلّت فيها نار محبة الله على الرسل (راجع أعمال 2/3) المجتمعين للصلاة مع “بعض النسوة ومريم أم يسوع” (أعمال 1/14)، بدأ تكليف الرب يتحقق.ففي أصل الكنيسة التي – هي مرسلة بطبيعتها – كان هناك الروح القدس الذي وهبه لهم يسوع بوفرة (راجع يوحنا 3/24). وبالفعل، فمنذ تلقيه مسحة الروح القدس، “وقف بطرس الرسول ورفع صوته” (أعمال 2/14) معلناً الخلاص باسم يسوع الذي “جعله الله ربا ومسيحا” (أعمال 2/36). وانتشر التلاميذ الذين تحولوا بفعل موهبة الروح القدس في العالم المعروف آنذاك وأعلنوا”بشارة يسوع المسيح ابن الله” (مرقس1/1). وشملت بشارتهم مناطق حوض المتوسط وأوروبا وأفريقية وآسيا، وكذلك تابع خلفائهم، بتوجيه الروح القدس الذي وهبه الآب والابن، رسالتهم التي ستستمر إلى نهاية الزمان. فعلى الكنيسة، طالما هي موجودة، أن تعلن مجيء ملكوت الله الذي يشكل خلاصة تعليم معلمهم وربهم يسوع المسيح.
وكانت كلمة “بشارة” قد سبق واستخدمت في عصر الكنيسة الوليدة. فقد أستخدمها كثيرا القديس بولس للإشارة إلى التبشير بالإنجيل الذي ائتمنه عليه الله (راجع 1 تسا2/4) وقد استخدمت كلمة أنجيل –البشارة الحسنة- أيضا من قبل متى الإنجيلي تحت عنوان “بشارة الملكوت” (متى9/35 و24/14). وكذلك استخدم القديس بولس أيضا كلمة البشارة في (2 كور 10/16 وفي أعمال 8/12،25-35) وقد شاع استخدامها كثيرا في تاريخ الكنيسة.
أما في أيامنا فقد صارت كلمة التبشير تشمل كل أنواع النشاط الكنسي. ويدرج الإرشاد الرسولي Evangelii nuntiandi المنشور في 8/12/1975 في هذه القائمة الوعظ والتعليم والطقوس والحياة الاسرارية والتقوى الشعبية وشهادة الحياة المسيحية (راجع الرسالة البابوية 48،21،17 وما يتبع ). وفي هذا الإرشاد الرسولي جمع خادم الله بولس السادس نتائج المجمع العام الاعتيادي الثالث لسينودس الأساقفة الذي التأم من 27 أيلول ولغاية 26 تشرين الأول حول موضوع التبشير في العالم الحديث : وقد أعطت هذه الوثيقة زخماً قوياً للعمل التبشيري للكنيسة في العقود اللاحقة، عمل يتّسم بسمو إنساني أصيل (راجع الرسالة البابوية 70،38،29).
وفي السياق الواسع لهذا التبشير فقد أولي اهتمام خاص لإعلان البشرى الحسنة للأفراد والشعوب التي لم تعرف بعد إنجيل يسوع المسيح، ولهم تتوجه بالحديث الرسالة إلى الأمم التي وصفت النشاط المستمر للكنيسة حتى بالرغم من كونه قد عرف أوقات ممتازة في بعض الفترات التاريخية. ويكفي أن نشير في هذا الصدد إلى الملحمة التبشيرية في القارة الأمريكية وفي أفريقيا وآسيا واستراليا. وقد أشار المجمع الفاتيكاني الثاني في قراره المسمى (إلى الأمم) إلى الطبيعة الإرسالية للكنيسة كلها ؛ إذ أنه على المسيحيين، تبعاً للتكليف المعطى من يسوع المسيح ألا يكتفوا بدعم المرسلين بالمساعدة المادية والصلاة، بل هم مدعوون بدورهم إلى المساعدة على نشر ملكوت الله في العالم كلُ بحسب طريقته وبحسب دعوته الخاصة.
وقد أصبح هذا الواجب ملحاً بشكل خاص خلال المرحلة الحالية للعولمة، حيث نرى ولأسباب عديدة، الكثيرين ممن لا يعرفون يسوع المسيح يهاجرون إلى الدول العريقة بالمسيحية حيث يجدون أنفسهم على تماس مع المسيحيين الذين يشهدون ليسوع القائم في كنائسهم وخاصة في ملكوته وفي الأسرار.
وخلال السنوات الخمس والأربعين، عالج سينودس الأساقفة موضوع الرسالة إلى الأمم في عدة مجامع. فهو من جهة أكد على الطبيعة الإرسالية لكل الكنيسة، ومن جهة أخرى أكد على توجيهات المجمع الفاتيكاني الثاني التي تحدث مرة جديدة في القرار المجمعي ” إلى الأمم”عن الهم الإرسالي على انه هدف لنشاط سينودس الأساقفة: ولما كانت مهمة التبشير بالإنجيل في العالم كله قضية مركزية للجسم الأسقفي،فإنه يتعين على سينودس الأساقفة أو المجلس الدائم للأساقفة أن تعير الكنيسة الجامعة، إلى جانب الكثير من الأمور ذات الأهمية العامة، اهتماما خاصا بالنشاط الإرسالي كواجب شديد الأهمية للكنيسة(AG29).
وخلال العقود الأخيرة تم الحديث أيضا عن الضرورة الملحة للتبشير الجديد معتبرا إياه كأفق عادي لنشاط الكنيسة، تماما كما هو التبشير بالإنجيل إلى الأمم الذي يتطلب تدريب الجماعات المحلية والكنائس الخاصة في بلدان التبشير الأول- فإن التبشير الجديد يتوجه بالأحرى إلى البعيدين عن الكنيسة في الدول العريقة بالمسيحية.
وللأسف، فإن هذه الظاهرة موجودة أيضاً بدرجات مختلفة في البلدان المبشرة حديثاً ولكن هذا التبشير ليس من القوة والعمق لدرجة تحويل الحياة الشخصية والعائلية والاجتماعية للمسيحيين. وقد أشارت إلى ذلك المجامع الخاصة لسينودس الأساقفة على المستوى القاري والمعقودة احتفالاً بالسنة المقدسة 2000، وقد شكل ذلك تحدياً هاما للكنيسة الجامعة. ولذلك وبعد أن استشار أخوته في الأسقفية، قرر قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر دعوة المجلس العام الاعتيادي الثالث عشر لسينودس الأساقفة الذي سيجتمع من السادس وحتى الثامن والعشرين من تشرين الأول 2012، بمناقشة موضوع التبشير الجديد. وانطلاقا من التفكير الذي وصلوا إليه حتى الآن حول الموضوع، فإن المجمع الأسقفي سيقوم بدراسة الوضع الحالي في الكنائس الخاصة، لتتمكن بالتالي، وبالتعاون مع قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر أسقف روما والراعي العام للكنيسة، من رسم طرق وتعابير غير مسبوقة عن البشارة الجديدة التي يجب نقلها إلى إنسان اليوم بحماس جديد كحماس القديسين الشهود للرب يسوع الذي كان والكائن والذي يأتي (راجع رؤيا 4/8) وهنا يتعلق الأمر بالتحدي لاستخراج أشياء جديدة وقديمة انطلاقاً من كنز التقليد الثمين، على غرار الكاتب الذي صار تلميذا في ملكوت السموات (راجع متى 13/52).
وتشكل الخطوط العريضة التي نقدّمها هنا والتي أعدها المجلس العادي للسكرتارية العامة لسينودس الأساقفة والمجالس الأسقفية مرحلة هامة في التحضير لمجمع الأساقفة. وستكون هناك في نهاية كل فصل أسئلة لتسهيل النقاش على مستوى الكنيسة الجامعة. ولقد تم إرسال هذه الخطوط العريضة إلى سينودس أساقفة الكنائس الشرقية الكاثوليكية والى الإدارة الباباوية واتحاد الرؤساء العامين للرهبانيات، وهي هيئات يربط بينها وبين السكرتارية العامة لسينودس الأساقفة علاقات رسمية. وتهدف هذه الخطوط العريضة إلى المساعدة في دراسة الوثائق على مستوى مختلف هيئاتها القائمة : أبرشيات، مقاطعات رعوية، رعايا، رهبانيات، جمعيات، حركات… ويجب على مسؤولي المؤتمرات الأسقفية وسينودس الأساقفة والمنظمات الأخرى المذكورة أن يلخصوا هذه الردود ويرسلوها إلى السكرتارية العامة لسينودس الأساقفة قبل الأول من تشرين الثاني 2011 في عيد جميع القديسين. وبمساعدة المجلس العادي سيتم تحليل هذه الإجابات بدقة قبل إدراجها في l’Instrumentum laboris ورقة عمل المجلس الأسقفي العام.
ومع الشكر المسبق على المساعدة الطيبة التي تشكل مشاركة قيمة في المواهب والمصالح والهموم الرعوية، فإننا نضع عمل المجلس العام الإداري الثالث عشر لسينودس الأساقفة تحت رعاية العذراء الطوباوية مريم نجمة التبشير الجديد، لتكون للكنيسة بشفاعتها نعمة التجدد بالروح القدس لكي ما تستطيع أن تضع موضع التطبيق، وباندفاع جديد وصية الرب القائم : “إذهبوا إلى العالم كله وأعلنوا البشارة إلى الخلق أجمعين(متى 16/15)”.
صدر عن الفاتيكان في 20/2/2011 عيد تقدمة الطفل إلى الهيكل
رئيس الأساقفة والسكرتير العام
نيكولا إتيروفيتش
مقدمة
“وجدت من الذين لم يطلبوني، وصرت ظاهراً للذين لم يسألوا عني” (رومية 10/20)
1- الضرورة الملحة للتبشير الجديد.
عند انتهاء أعمال المجمع الخاص بسينودس الأساقفة من أجل الشرق الأوسط، أعطى قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر الأولوية للتبشير الجديد في برنامج الكنيسة. “لطالما أثير موضوع الحاجة الملحة للتبشير الجديد حتى بالنسبة إلى الشرق الأوسط. إنه موضوع واسع الانتشار وخاصة في البلدان التي تلقت البشارة منذ القدم. لقد كان تأسيس المجلس البابوي لدفع التبشير الجديد استجابة لحاجة قوية. ولذلك، وبعد استشارة أساقفة العالم أجمع، وبعد سماع رأي المجلس العادي للسكرتارية العامة لسينودس الأساقفة، قررت أن أكرس المجمع العادي العام القادم في 2012 لموضوع التبشير الجديد بهدف نقل الإيمان المسيحي “.
وكما هو واضح من السياق فإن تكريس هذا المجمع لموضوع التبشير الجديد يجب أن يقرأ في إطار هدف مركزي تجلّت مراحله الحديثة في إنشاء ادارة خاصة ونشر الإرشاد الرسولي لما بعد السينودس كلام الرب (Verbum domini )؛ مخطط يقوم على الالتزام بعمل تبشيري متجدد أضفى نشاطا وحيوية على التعليم والخدمة الرسولية للباباوات بولس السادس ويوحنا بولس الثاني. ومنذ المجمع الفاتيكاني الثاني وحتى اليوم، فقد تم اعتماد التبشير الجديد بوضوح كأداة لمجابهة تحديات عالم متغير بسرعة، وكطريقة لعيش هبة التجمع بالروح القدس لنختبر الله أبينا ونكون شهوداً نبشر الجميع بإنجيل يسوع المسيح.
2- واجب التبشير.
إن الكنيسة بتبشيرها ونقلها للإيمان تقلد الله بتواصله مع البشرية من خلال إعطائها ابنه الوحيد وعيش الشراكة الثالوثية ونشر الروح. ولكي ما يعكس التبشير هذه العلاقة الإلهية، يجب على الكنيسة أن تترك نفسها تتحول بفعل الروح القدس وتتمثل بالمسيح المصلوب الذي يكشف للعالم كله وجه حب الله وشركته. وهكذا تجد دعوتها ككنيسة أم تلد أولاداًَ للرب من خلال نقل الإيمان وتعليم الحب الذي يعطي الحياة للأولاد ويغذيهم.
وفي وسط هذا الإعلان هناك يسوع مصدر الثقة والشهادة. إن نقل الإيمان يعني بشكل أساسي نقل الكتاب المقدس – وخاصة الإنجيل- الذي يساعد على معرفة الرب يسوع.
وقد ذكّر البابا بولس السادس كل المؤمنين، بإعطائه الأولوية للتبشير: “لا بأس أن يتأمل كل مسيحي وكل مبشّر بالإنجيل خلال الصلاة بهذه الفكرة: “يمكن للبشر أن يخلصوا أيضا بطرق أخرى بفضل رحمة الله حتى لو لم نبشرهم بالإنجيل؛ ولكن هل لنا نحن أن نخلص إذا لم نبشّر بيسوع، سواء من باب الإهمال أو الخوف أو الخجل أو بعض الأفكار الخاطئة ؟ إن هذا السؤال الذي تختم به الرسالة البابوية ” إعلان الانجيل ” يكرر في آذاننا صدى كلمات القديس بولس التي انطلقنا منها، ويساعدنا على وضع أنفسنا في لب الموضوع الذي نريد أن نناقشه في هذا النص : المحورية المطلقة لواجب التبشير الملقى على عاتق كنيسة اليوم. ومن المفيد على المستوى العملي أن نراجع تجربتنا وكفاءتنا في التبشير بقصد تحسين اساليبنا واستراتيجياتنا فيه. وإذا أردنا التعمق أكثر، قلنا أن هذا السؤال هو السبيل لنتساءل اليوم عن نوعية إيماننا وعن كيفية معرفتنا لذواتنا وكيف نكون مسيحيين وتلاميذ ليسوع المسيح، مرسلين لنبشر به العالم ولنكون شهوداً ممتلئين بالروح القدس، وبالتالي أن نقيم له تلاميذ من كل الأمم (راجع متى 28/19 وما يلي ).
إن في عبارة تلميذي عماوس ( راجع لوقا 24/17-35 ) مؤشـر لإمكانية فشل التبشير بالمسيح لأنه عاجز عن نقل الحياة ؛ فالتلميذان يبشران برجل ميت (راجع لوقا 24/21-24) ويتحدثان عن حرمانهم ورجائهم الضائع. أنهما يتحدثان عن احتمال أن تبشر الكنيسة تبشيراً لا يعطي الحياة بل يبقي يسوع أسير الموت. إن قضية نقل الإيمان الذي هو غير فردي ولا منفرد، لا بل حدث كنسي وجماعي، يجب ألا يوجه الإجابات باتجاه البحث عن استراتيجيات ناجعة للنقل ولا أن يركّز بشكل تحليلي على المرسل إليهم –كالشباب مثلا، بل يجب أن يكتفي بكونه سؤالاً يتعلق بالمكلف بهذه العملية الروحية. ويجب أن يصبح سؤالاً تطرحه الكنيسة على ذاتها مما يساعد على طرح المشكلة بشكل صحيح نظراً لكونه يضع الكنيسة وجوهرها وحياتها موضع تساؤل. وبهذه الطريقة يمكن أن نفهم حقيقة أن عدم خصوبة التبشير والتعليم الديني المعاصر، هما مشكلة كنسية تتعلق بقدرة أو عدم قدرة الكنيسة على الظهور كجماعة حقيقية وأخوة أصيلة وكجسد متماسك، لا كآلة أو مشروع.
“إن الكنيسة وبحسب طبيعتها وخلال رحلتها الأرضية هي مرسلة”. إن هذا التأكيد للمجمع الفاٍتيكاني الثاني يلخص التقليد الكنسي : فالكنيسة مرسلة نظراً لكونها تستمد أصولها من رسالة يسوع والروح القدس بحسب قصد الله الآب. كذلك هي مرسلة لأنها تضطلع بأعباء هذه الرسالة بشكل شخصي جاعلة من نفسها المبشر والشاهد لوحيي الله، وتنقذ شعب الله من الشتات حتى تتم نبوءة أشيعيا التي فهمها آباء الكنيسة على أنها موجهة إليها : “أوسعي مكان خيمتك ولتبسط شقق مساكنك، لا تمسكي. أطيلي أطنابك وشددي أوتارك. لأنك تمتدين إلى اليمين واليسار ويرث نسلك أمما ويعمر مدناً مخربة” (أشيعيا 54/2-3).
وهكذا ينطبق ما قاله القديس بولس :”لأني إن كنت أبشر، فإن الضرورة موضوعة علي، فويل لي إن لم أبشر” (1كور 9/16)، على الكنيسة بأجمعها، كما يذكرنا البابا بولس السادس :”إن تبشير كل الأمم بالرسالة الجوهرية للكنيسة […..] هو في الواقع دعوة الكنيسة ونعمتها وهويتها. فهي ما وجدت إلا من أجل التبشير”.
في إطار هذه الدينامية الإرسالية والتبشيرية المزدوجة، لا تقوم الكنيسة فقط بدور المبادر والفاعل في قضية الإعلان، بل بدور المصغي والتلميذ. فكمبشرة بالإنجيل، تبدأ الكنيسة بتبشير نفسها وهي تدرك أنها الثمرة المنظورة لعمل التبشير الذي لا يتوقف والذي يقوده الروح عبر التاريخ، حتى يشهد المخلصون للذاكرة الحية لإله يسوع المسيح. ويمكننا التأكيد اليوم على هذه الحقيقة بقناعة أكبر، نظراً لكوننا أبناء تاريخ يحفل بصفحات مجيدة من الشجاعة والإخلاص والإقدام والحدس والعقل، صفحات خلفت لنا أصداء وآثارا مخلدة في نصوص وصلوات ونماذج وأساليب تربوية ودروب روحية، تقودنا إلى الإيمان وإلى القيام بمشاريع ومؤسسات تربوية.
3- التبشير والتمييز :
علاوة على السبب الذي أشرنا اليه – الشكر والتأمل في عجائب الله – ، هناك سبب ثان يجعل من المهم للكنيسة أن تعترف ببعدي الإصغاء والتلمذة الكامنين في عمل التبشير. فالكنيسة ترى نفسها من جهة أولى الدافع ومن جهة أخرى الثمرة لهذا التبشير؛ لأنها مقتنعة أنها ليست هي من يدير هذه العملية بل هو الله الذي يقودها عبر التاريخ بفضل روحه القدوس. وكما أوضح القديس بولس في النص الذي مهد لهذه المقدمة، فإن الكنيسة تدرك أن تنظيم العملية التبشيرية هو من عمل الروح القدس، وهي تتكل عليه لكي تميز الوسائل والزمان والمكان لهذا التبشير التي هي مدعوة لكي تحياه. وقد أدرك القديس بولس ذلك في فترة التحول الجذري الذي حدث في صدر الكنيسة، وهو يقّر بأولوية الله لا نظرياً بل عملياً في تنظيم عملية التبشير، وقد نجح في تأكيد أسباب هذه الأولوية بالاعتماد على الكتب المقدسة وخاصة منها كتب الأنبياء.
ويعترف القديس بولس بأولوية العمل في إطار فترة مهمة جدا في حياة الكنيسة الوليدة. فالمؤمنون اليوم يشعرون أن الطرق التي عليهم السير فيها مختلفة كثيرا عن تلك التي كانت سائدة في صدر الكنيسة حيث بدا المسيحيون الأوائل مترددين حيال بعض المسائل الجوهرية التي عليهم القيام بها. وهكذا كان من اللازم أن تتحول عملية التبشير إلى عملي تمييز، لأن إعلان الإنجيل يفترض وجود مرحلة إصغاء وفهم وتفسير.
وبالنسبة لهذا الموضوع، يبدو عصرنا شبيهاً بذاك الذي عاشه القديس بولس؛ فنحن كمسيحيين نجد أنفسنا غارقين أيضاً في مرحلة حاسمة من التغيرات التاريخية والثقافية كما سنرى ذلك بوضوح أكبر فيما بعد. كذلك فإن العمل التبشيري يتطلب منا نحن أيضاً وبنفس الوقت، القيام بتمييز مماثل ومتواز ومعاصر, فمنذ أربعين عاماًَ خلت والفاتيكاني الثاني يؤكد :”إن الجنس البشري يعيش اليوم عصرا جديدا من تاريخه يتميز بتغيرات قوية وسريعة تتسع لتشمل العالم كله “. وقد تعددت التغيرات التي يتحدث عنها المجمع في الفترة التي تلت انعقاده، وخلافا لتلك السنوات، فإن تلك التغيرات لا تشجع فقط على الرجاء ولا تغذي التوق الطوباوي، بل ينجم عنها أيضا المخاوف والشكوك. والعقد الأول لهذا القرن كان مسرحاً لتحولات طبعت التاريخ البشري بشكل لا يمكن إنكاره ومأساوي في العديد من الحالات.
نعيش اليوم فترة تاريخية غنية بالمتغيرات والضغوط وفقدان التوازن والمرجعيات. وتدفعنا هذه الحقبة لنغرق أكثر وأكثر في الحاضر والمؤقت، مما يصعّب عملية الإصغاء ونقل الذاكرة التاريخية ومشاركة القيم التي عليها يبنى مستقبل الأجيال القادمة. في مثل هذا الإطار، فإن حضور المسيحيين وعمل مؤسساتهم صار ينظر إليها ببديهية أقّل وبكثير من الريبة؛ فقد رأينا خلال العقود الأخيرة كثرة الأسئلة الانتقادية تجاه الكنيسة وتجاه المسيحيين وتجاه الصورة التي نعطيها عن الله، بحيث أن واجب التبشير راح يواجه تحديات جديدة تضع الممارسات الثابتة موضع جدال وتبطيء المسير المعتاد والموحد. باختصار، فإن هذه التحديات ترغم الكنيسة إلى طرح أسئلة جديدة على نفسها حول معنى أعمالها من جهة التبشير ونقل الايمان. ونقلها للإيمان. على كل حال، فإن الكنيسة لن تكون عزلاء أمام هذا التحدي الذي سبق وتمت دراسته خلال الاجتماعات التي كرسها سينودس الأساقفة خصيصاً لموضوعي التبشير ونقل الإيمان كما نقرا في الإرشادات الرسولية الختامية: إعلان الانجيل ونقل التعليم المسيحي Evangelii nuntiandi et Catechesi tradendae. ويشكل هذان الحدثان لحظة هامة لمراجعة وتنشيط تكليف الكنيسة بالبشارة.
4- إعلان البشارة في عالم اليوم، انطلاقا من تحديات الواقع.
يساعدنا نص القديس بولس الذي يقودنا في هذه المقدمة على فهم معاني وأسباب الاجتماع العام العادي لسينودس الأساقفة الذي نستعد له. إذ أنه من المفيد للكنيسة في هذه الحقبة الطويلة التي تعج بالمتغيرات أن تخلق فرصاً للإصغاء والحوار لكي ما تحافظ على مستوى مرموق من نوعية التدريب على التمييز الذي يتطلبه عمل التبشير الذي نحن مدعوون ككنيسة إلى عيشه. ويهفو المجمع العام العادي القادم لكي يكون فرصة ممتازة ومرحلة مهمة في مسار التمييز هذا. وانطلاقاً من المجامع حول التبشير والتعليم المسيحي، فإن المضمون الثقافي والاجتماعي وجد نفسه على المحك أمام بعض التغيرات الهامة وغير المتوقعة التي مازالت آثارها ظاهرة للعيان ومؤثرة للعين في واقعنا المحلي، كما كان الحال في الأزمة الاقتصادية والمالية والتي لم تنجو منها الكنيسة نفسها، مما اضطرها إلى مجابهة بعض الأسئلة وتحليل بعض الظواهر وتصحيح بعض الممارسات لنقل الرجاء بطريقة جديدة. ويدفعنا هذا السياق بشكل طبيعي نحو المجمع السينودسي القادم. ومن خلال الإصغاء والحوار، سنغتني وسنكون جاهزين لتحديد الدروب التي سيرسمها الله من خلال الروح القدس لكي يتجلى ويظهر نفسه للبشر كما ورد في أشعيا (راجع أشعيا 10/62 , 14/57 ,3/40 ).
ويقتضي التمييز بحد ذاته أن نحدد الأشياء والمواضيع التي سنركز عليها نظرنا والتي من خلالها سنعطي فرصة للإصغاء والحوار، بهدف دعم وتقوية العمل التبشيري والتغيرات المتعلقة به. وكذلك فإن ممارسة التمييز تتطلب منا تركيز الإصغاء على المواضيع الجوهرية لهذا النشاط الكنسي: إطلاق التبشير الجديد وتثبيته التدريجي في وسط كنائسنا وكيفية تبني الكنيسة لواجب نقل الإيمان وعيشها له اليوم والصورة الملموسة لما تطلع به الوسائل التي تمتلكها لنشر الإيمان(الوعظ والتعليم) والتحدّيات التي على هذه الوسائل مجابهتها. تمثل هذه المواضيع الخطوط العريضة لهذا النص الذي يهدف إلى التشجيع على الإصغاء والمجابهة لتوسيع حدود التمييز الذي يعمل الآن في الكنيسة ويؤمن لها صدى أكثر شمولية.
أسئلة :
إن التمييز الذي نتحدث عنه هو بطبيعته تاريخي ومحدد. فهو ينطلق من حدث ملموس ويبني نفسه كردة فعل لحدث ما. وطالما أن كنائسنا المحلية تتشارك بشكل عام بنفس المجال الثقافي في مسار التمييز هذا، فإنها قد عاشت خلال العقود الماضية مراحل وحوادث فريدة ومميزة بمضمونها وتاريخها.
1- فما هي الأحداث التي يجدر اطلاع سائر الكنائس المحلية عليها؟
2- من بين ممارسات التمييز التاريخي هذه، ما هي تلك التي من المناسب أن نتبادلها في كنف كاثوليكية الكنيسة لكي ما يتسنى للكنيسة الجامعة، من خلال الإصغاء المتبادل لهذه الأحداث، أن تعرف الدروب التي يحددها لها الروح القدس لتحقيق عملها التبشيري ؟
3- لقد عرف موضوع “التبشير الجديد” انتشارا في كنائسنا المحلية. فكيف تم تطبيقه وما هي التأويلات التي نجمت عنه ؟
4- ما هي الأعمال الرعوية التي استفادت أكثر من تطبيق موضوع “التبشير الجديد”، وما هي تلك التي عرفت تغيراً واندفاعاً هاماً جديداً ؟ وبالعكس ما هي تلك الأعمال الرعوية التي طورت نوعاً من المقاومة والتراجع حيال هذا الموضوع ؟
الفصل الأول
زمن “التبشير الجديد”
“…………..فكيف يدعون بمن لم يؤمنوا به ؟
وكيف يؤمنون بمن لم يسمعوا به؟
وكيف يسمعون بلا كارز ؟” (رومية 10/14)
5- ” التبشير الجديد”
بالرغم من كون عبارة”التبشير الجديد”شائعة ومعاشة إلى حد كبير، فهي تبقى تعبيراً حديث الظهور في عالم التفكير الكنسي والرعوي، لدرجة أن معناه لم يكن دائماً واضحاً بما يكفي. ولقد كان البابا الراحل يوحنا بولس الثاني هو الذي أطلق تعبير “التبشير الجديد” لأول مرة إبان رحلته إلى بولونيا. كان ذلك بكل بساطة دون تصور مسبق للدور الذي سيلعبه فيما بعد. ثم عاد وأطلقه من جديد في تعليمه الرسولي الموجه إلى كنائس أمريكا اللاتينية. وإذا كان قد أعاد استخدام هذا التعبير، فلكي يجعل منه منصة إطلاق وأداة لشحذ الروح التبشيرية والإرسالية، توجه بالكلمات التالية إلى أساقفة أمريكا اللاتينية: “إن الاحتفال بالألفية الجديدة للتبشير ستأخذ كامل معناها إذا ما عنت التزامكم كأساقفة مع كهنتكم ومؤمنيكم. إنه ليس التزاماً بإعادة التبشير، بل بتبشير جديد. جديد بحماسته، بوسائله وبتعابيره”. فالأمر لا يعني إعادة صنع شيء، سبق وصنع بشكل سيء، أو أنه لا يعمل جيداً، وذلك حتى لا يكون التبشير الجديد حكماً ضمنياً بالإخفاق على التبشير القديم. إن التبشير الجديد ليس صيغة جديدة عن التبشير الأول أو مجرد تكرار له، بل هو الجرأة في سلوك طرق جديدة لمجابهة الظروف الجديدة التي على الكنائس أن تعيش فيها اليوم. كان على قارة أمريكا الجنوبية في تلك الحقبة أن تتصدى لتحديات جديدة (انتشار الفكر الماركسي وظهور الشيع كل يوم). إن التبشير الجديد هو عمل يتبع عملية التمييز الذي بحسبه يجب على كنيسة أمريكا اللاتينية أن تقرأ الوضع الذي هي فيه وتقدّره.
بهذا المعنى أعيد إطلاق هذا التعبير في تعليم البابا يوحنا بولس الثاني على كنائس العالم: “على الكنيسة اليوم أن تجابه تحديات أخرى وهي في طريقها إلى حدود جديدة سواء في توجهها إلى الأمم لأول مرة أو كتبشير جديد للشعوب التي سبق لها أن تلقت البشارة بالمسيح. فالمطلوب اليوم من كل المسيحيين في الكنائس الخاصة أو في الكنيسة الجامعة، التحلّي بالشجاعة التي كانت تغمر صدور المرسلين الأوائل، وبالاستعداد للإصغاء لصوت الروح”. إن التبشير الجديد هو عمل روحي. وقبل كل شيء هو القدرة على تمثل شجاعة وقوة المسيحيين الأوائل والمرسلين الأوائل. وبالتالي فهو عمل يتطلب وللوهلة الأولى عملية تمييز فيما يتعلق بصحة المسيحية وبالمسير المتبع وبالصعوبات التي تصادفها. ويؤكد البابا يوحنا بولس الثاني:”على الكنيسة أن تقوم اليوم بخطوة كبيرة إلى الأمام في حقل التبشير. عليها أن تدخل مرحلة تاريخية جديدة من ديناميتها الإرسالية. وعلى الجماعات الكنسية في عالم تقلصت فيه المسافات وتحوّل إلى قرية صغيرة، أن تتحد فيما بينها وتتبادل الطاقات والوسائل وتلتزم معاً في الرسالة الوحيدة والمشتركة؛ وهي التبشير وعيش الإنجيل. وتحتاج الكنائس الفتية، كما يسمّيها آباء السينودس، إلى قوة الكنائس القديمة، في الوقت الذي تحتاج هذه الأخيرة إلى شهادة وزخم الكنائس الفتية بحيث تغتني كل واحدة من الأخرى.
لقد صرنا الآن قادرين على فهم نشاط وديناميكية “التبشير الجديد”. وقد عدنا إليه بقصد ٍ الإشارة إلى التجدد المدعوة إليه الكنيسة حتى ترتقي إلى مستوى التحديات التي يطرحها السياق الاجتماعي والثقافي المعاصر على الإيمان المسيحي وعلى التبشير به والشهادة له، على اثر التغيّرات القائمة. وترد الكنيسة على هذه التحديات، لا بالخضوع لها أو بالانطواء على الذات، بل بإطلاق عملية تنشيط وإحياء لهيئاتها، واضعة في وسطها صورة يسوع ولقاءها معه. هذا اللقاء الذي يهبها الروح والطاقة للتبشير وإعلان الإنجيل متبعة طرقاً جديدة تمكّنها من مخاطبة ثقافات اليوم.
وبعد أن تمت صياغة التبشير الجديد بهذا الشكل، تم تبنيه وإطلاقه في المجالس السينودسية القارّية المنعقدة استعداداً للعام ألفين. وهكذا أضحى هذا التعبير مرادفاً للانطلاق الروحي لحياة الإيمان في الكنائس المحلية، ونقطة انطلاق في مسيرة تمييز التحوّلات التي مسّت الحياة المسيحية في مختلف الأوساط الثقافية والاجتماعية، وقراءة جديدة لذاكرة الإيمان، وتحملاً لمسؤوليات جديدة ولطاقات جديدة بهدف إعلان إنجيل يسوع المسيح. إن الكلمات التي وجهها البابا يوحنا بولس الثاني إلى الكنيسة في أوروبا كانت كلمات مثالية :”وقد ثبت بوضوح ضرورة التبشير الجديد، ليس على أوروبا اليوم أن تتكئ على إرثها المسيحي السابق، بل عليها أن تستعيد القدرة على تقرير مستقبلها في اللقاء مع شخص يسوع المسيح ورسالته”.
لكن وبالرغم من انتشار هذا التعبير وذيوع صيته، إلاّ أنه لم يصل بعد إلى جعل نفسه مقبولاً بقوة لا في المداولات ولا في الكنيسة ولا في الثقافة؛ إذ ما زالت هناك الكثير من التحفظات بشأنه كما لو انه يهدف إلى إصدار حكم أو شطب عدة صفحات من الماضي الحديث لحياة الكنائس المحلية. ويظن البعض أن “التبشير الجديد” يخفي نية الكنيسة القيام بأعمال تبشيرية جديدة ضد كنائس مسيحية أخرى. وهناك ميل إلى الظن انه سيحقق تغييراً في موقف الكنيسة تجاه الذين لا يؤمنون، وأنها ترى فيهم مجرد أفراد يجب إقناعهم وليسوا محاورين أنداداً في إطار حوار يجمعنا في إنسانية واحدة نبحث معاً عن حقيقة كياننا. لقد أراد البابا بنديكتوس إبّان رحلته الرسولية إلى جمهورية التشيك أن يعالج هذا الهم ويقدّم الرد عليه: “ترد إلى فكري كلمة استعارها يسوع من أشعيا تؤكد على أن الهيكل يجب أن يكون بيت صلاة لكل الشعوب (راجع أشعيا 56/7 ومتى 11/17)، وبالتالي يجب أن يفرغ الهيكل من النشاطات الخارجية لكي يتسع للوثنيين الذين يريدون الصلاة إلى الله الواحد، حتى لو لم يكن بمقدورهم المشاركة في الأسرار التي كرس لها داخل الهيكل. ونجد في كلمة “مكان للصلاة لكل الشعوب “إشارة إلى الأشخاص الذين لا يعرفون الله إلا من بعيد أو أنهم غير راضين عن آلهتهم وطقوسهم وأساطيرهم وهم يرغبون في عبادة القدوس والكبير،حتى لو بقي الله بالنسبة لهم ذاك الإله المجهول (راجع أعمال 17/23) الذي يمكن أن يعبدوه وأن يكونوا بنفس الوقت على علاقة مع الإله الحقيقي بالرغم من بعض الظلال. ومن هنا أرى أنه على الكنيسة اليوم أيضاً أن تقيم نوعاً من “رواق الوثنيين” حيث يتسنى للبشر أن يتعلقوا بالله حتى لو لم يعرفوه أو يدخلوا إلى سره الذي كرست الكنيسة حياتها الداخلية له”.
وعلينا نحن المسيحيين أن نهتم أيضاً بمن يعتبرون أنفسهم ملحدين ؛ فهم يخافون من الحديث عن التبشير الجديد كما لو كانوا هدفاً له. ومع ذلك فإن مسألة وجود الله تبقى قائمة بالنسبة لهم. وقد كان البحث عن الله وراء نشوء الرهبانيات الغربية والثقافة الغربية. وعلى أولى خطوات التبشير أن تأخذ البحث عن الله بعين الاعتبار. ومن هنا كانت ضرورة الاستمرار في الحوار ليس مع الديانات فقط بل مع الأفراد الذين يعتبرون الديانة شيئاً غريباً.
إن صورة ” رواق الوثنيين ” جاءت كإضافة لاحقة للتفكير في “التبشير الجديد” الذي يشير إلى شجاعة المسيحيين وعدم تقاعسهم في البحث بكل الوسائل لإقامة أشكال من الحوار قادرة على فهم رغبات البشر وتوقعاتهم وعطشهم إلى الله. وسوف تساعد هذه الشجاعة على إعادة الأمور إلى سياقها الصحيح من خلال إشراك الوثنيين بخبرتهم في البحث، ومن خلال الحديث عن إنجيل يسوع كهبة من السماء. إن مثل هذا الموقف يتطلب بالدرجة الأولى إجراء مراجعة للذات وتطهيرها لمعرفة آثار الخوف والتعب والانطواء التي زرعتها فينا الثقافة التي نعيش في وسطها. وفي فترة لاحقة، فإن الانطلاق والاندفاع سيكونان بدعم من الروح القدس نحو اختبار الآب والتبشير به للخليقة كلها، يساعدنا في ذلك اللقاء المعاش مع يسوع. ولا تشكل هذه اللحظات مراحل زمنية متتابعة بل بالأحرى نماذج روحية مستمرة ومتتالية في الحياة المسيحية. ويتحدث القديس بولس عن هذه الأمور عندما يصف خبرة الأيمان كتحرر من “سلطان الظلام” ودخول إلى “ملكوت ابنه الحبيب الذي لنا فيه العزاء وغفران الخطايا” (1 كولوسي 13/14 راجع رومية أيضا 12/1-2). كذلك فإن هذه الجرأة ليست شيئاً جديداً بالمطلق ولا مستحدثاً بالنسبة للمسيحية نظراً لكون أثارها موجودة في كتابات الآباء.
6- سيناريوهات التبشير الجديد :
التبشير الجديد إذن هو موقف، أسلوب جريء. إنه قدرة المسيحية على قراءة السيناريوهات الجديدة التي ظهرت في العقود الأخيرة من تاريخ البشر لتسكن فيهم وتحوّلهم إلى أماكن للشهادة والتبشير بالإنجيل. وقد تم تحديد هوية هذه السيناريوهات ووصفها عدة مرات؛ إنها سيناريوهات اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية ودينية.
أول هذه السيناريوهات وأساسها هو السيناريو الثقافي. فعصرنا عصر علمنة قوية فقدت القدرة على سماع وفهم كلمة الإنجيل كرسالة حيّة ومحيية. وهذه العلمنة متجذرة في العالم الغربي بشكل خاص وهي نتيجة أحداث وحركات اجتماعية وفكرية طبعت تاريخ العالم الغربي وهويته بعمق، وتتجلى اليوم في ثقافتنا من خلال صور إيجابية للتحرر، ومن خلال القدرة على تصور حياة العالم والإنسانية دون الرجوع إلى الله. وخلال السنوات الأخيرة لم تعد العلمنة تظهر بشكل أحاديث مباشرة ضد الله أو الدين أو المسيحية، حتى لو كانت لهجتها في الكثير من الأحيان معادية للمسيحية وللدين ولرجال الدين؛ فقد اتخذت لهجة متواضعة ساعدت في اجتياح الحياة اليومية للناس وللوجود وللضمير الإنساني. وقد ساعدها هذا الأسلوب على التسلل إلى حياة المسيحيين وحياة الجماعات الكنسية، حتى صارت تشكل تهديداً خارجياً للمؤمنين وساحة للمواجهات اليومية. إنها من نتاج الثقافة النسبية. وعلاوة على ذلك فقد تورّطت وبشكل خطير في بعض الأمور الأنتربولوجية الخطيرة؛ بحيث وضعت موضع الشك الخبرة الإنسانية الأساسية نفسها، كالعلاقة بين الرجل والمرأة ومعنى التكاثر والموت.
إن سمات الفهم العلماني للحياة طبعت بطابعها التصرف اليومي للعديد من المسيحيين الذين يظهرون متأثرين – حتى لا نقول أسرى – بثقافة الصورة ، بأشكالها الأكثر تطرفاً وتناقضا. وقد خلقت الذهنية المتعية والاستهلاكية المسيطرة فيهم ميلاً نحو السطحية والأنانية التي من الصعب مقاومتها. “فموت الله” الذي كان عدد من المثقفين يبشرون به في العقود الأخيرة أخلى الساحة لعقيدة عقيمة تدور حول الفرد. وهناك خطر حقيقي يهدد بفقدان العناصر الأساسية للإيمان مما سيؤدي إما إلى السقوط في ضمور روحي وفراغ في القلب أو على العكس إلى السقوط فريسة أشكال تعويضية للانتماء الديني أو روحانية غامضة. وفي إطار هكذا سيناريو يقدم التبشير الجديد نفسه على شكل تشجيع تحتاجه الجماعات الكنسية المتعبة لإعادة اكتشاف الفرح المسيحي واستعادة الدفء السابق (رؤيا 2/4) والحرية في البحث عن الحقيقة.
وفضلاً عن ذلك نشهد في مناطق أخرى من العالم انبعاثاً دينياُ جديداً واعداً. وعديدة هي الأوجه الإيجابية واكتشاف الله والمقدس في مختلف الديانات التي فقدت بريقها بسبب الظواهر الأصولية التي كثيراً ما تستغل الدين لتبرير العنف والإرهاب. وهذا خداع خطير؛ لأنه “لا يمكن استخدام العنف باسم الله”. وكذلك فإن ازدياد عدد الشيع يشكل تحدياً دائماً.
إلى جانب هذا السيناريو الأول الثقافي، هناك إمكانية لإيجاد سيناريو شبيه به يغلب عليه الطابع الاجتماعي. فظاهرة الهجرة التي تدفع دائماً عدداً متزايداً من الناس إلى مغادرة مناطقهم والعيش في مناطق مدنية، تؤدي إلى تغيير الجغرافية الإتنية لمدننا وبلداننا وقاراتنا وإلى التقاء وامتزاج لثقافات لم تعرفها مجمعاتنا منذ قرون. وهكذا صرنا نشهد إنتاجاً لأشكال من عدوى الثقافات وتفتيتاً للمراجع الأساسية للحياة والقيم وللروابط المجتمعية التي عليها يبني الناس هوياتهم. وتكون النتيجة الثقافية لهذه العمليات، خلق مناخ من الميوعة القصوى التي تقلص مساحة التقاليد الغنية بما فيها التقاليد الدينية، ويسيء إلى مهمتها في إعطاء معنى موضوعي للتاريخ والهوية الشخصية للأفراد. إن ظاهرة العولمة مرتبطة بهذا السيناريو الاجتماعي وهي تتطلب من المسيحيين بذل جهد كبير في التمييز. ومن الممكن النظر إلى العولمة كظاهرة سلبية إذا كانت ترجمة حتمية لهذا الواقع الذي يفرض نفسه. ترجمة ترتبط فقط بالبعد الاقتصادي والإنتاجي. كذلك يمكن النظر إليها كفرصة تتعلم فيها البشرية كيف تطور أشكالا جديدة من التضامن وطرق جديدة لمشاركة الجميع في الخيرات. في مثل هذا الإطار، يساعدنا التبشير الجديد غلى أن نفهم بأن الرسالة لم تعد حركة بين الشمال والجنوب أو الغرب والشرق، لأنه يجب التحرر من الحدود الجغرافية. فالرسالة اليوم تعمل في القارات الخمس. وبالتالي علينا نحن أيضاً أن نتعلم كيف نميز الأوساط الاجتماعية الغريبة عن الإيمان لأنها لم يحصل أن التقطته وليس لأنها ابتعدت عنه. إن التحرر من الحدود الجغرافية يعني امتلاك القدرة على طرح موضوع الله في كل عمليات اللقاء والاختلاط وإعادة بناء النسيج الاجتماعي الذي يعمل حالياً في كل مناطقنا المحلية.
يشكل هذا المزيج الكبير من الثقافات الأساس الذي يتوضع فوقه سيناريو ثالث يترك اثرا حاسما أكبر وضوحاً في حياة الأشخاص وفي الوعي الجماعي. إنه تحدي وسائل الاتصال الاجتماعية التي تقدم اليوم إمكانيات كبيرة وتشكل إحدى أكبر التحدّيات التي يتوجب على الكنيسة مجابهتها. إن السيناريو الذي نحن بصدد تقديمه هنا – والذي كان سابقاً من سمات العالم الصناعي- قادر اليوم على التأثير على قطاعات واسعة من دول العالم النامي. ولم يعد يوجد في أيامنا أي مكان في العالم بمنأى عن التأثر بالثقافة الإعلامية والرقمية التي جعلت من نفسها محور الحياة الجماهيرية والخبرة الاجتماعية. لاشك أن انتشار هذه الثقافة يحمل في طياته أشياء إيجابية : قدرة أكبر على الوصول إلى المعلومات، وإمكانيات أكبر للتعارف والتبادل، وأشكال جديدة من التضامن تجعل من القيم ومن الفكر البشري إرثاً للجميع. ومع ذلك فإن كل هذه القدرات لا يمكنها أن تخفي المخاطر التي يخلفها الانتشار الواسع جداً لمثل هذه الثقافة، كالتركيز الكبير على الذات وعلى الحاجات الشخصية حصراً والتأكيد على البعد الانفعالي في بناء العلاقات والروابط الاجتماعية. كذلك نشهد ضياعاً للقيم الموضوعية ولخبرة التأمل والتفكير التي تحولت في كثير من الحالات إلى مجرد ساحة مواجهة لمشاعر كل واحد، وساعدت كذلك على انتشار التهميش التدريجي للبعد الأخلاقي والسياسي للحياة، مما قلص دور الغيرية إلى مجرد مرآة ومشاهد لأفعال الإنسان. والنتيجة التي يمكن لهذه المخاطر أن تؤدي إليها هي ما يمكن تسميته بثقافة الزائل أو المؤقت والآني والظاهري، أي إلى مجتمع غير قادر على امتلاك ذاكرة أو مستقبل. إن التبشير الجديد في مثل هذه الظروف يتطلب من المسيحيين أن يمتلكوا جرأة التردد على “مجامع الحكماء الجديدة” هذه، وأن يكتشفوا ويبتكروا الوسائل والدروب التي تمكنهم من إسماع صوت الإرث التربوي والحكمة التي حفظها التقليد المسيحي في هذه الأماكن المغرقة في الحداثة.
وهناك سيناريو رابع تؤثر تغيّراته في العمل التبشيري للكنيسة، وهو المجال الاقتصادي. إذ كثيرا ما كشف التعليم الكنسي للباباوات عن وجود عدم توازن متنام بين الشمال والجنوب في العالم فيما يتعلق بالثروات وتوزيعها أو بين التخريب وبين الإبداع والخلق. إن الأزمة الاقتصادية التي نعيشها اليوم، تشير إلى مشكلة استخدام القوى المادية التي لم تصل إلى إيجاد نظام لسوق عالمية قادرة على حماية حياة جماعية أكثر عدلاً. وبالرغم من الحيز الصغير الذي تخصصه وسائل الإعلام لقراءة هذه المشاكل انطلاقاً من صوت الفقراء، ما زال العالم ينتظر الكثير من التعاطف ومن الأعمال الملموسة من قبل الكنائس.
السيناريو الخامس، هو سيناريو البحث العلمي والتكنولوجي. فنحن نعيش في عصر لم يصحو بعد من الدهشة التي أثارتها العديد من الأمور التي استطاع البحث العلمي التغلب عليها.ونستطيع كلنا أن نختبر في حياتنا اليومية فوائد هذا التطور، الذي نزداد تعلقا به كل يوم لدرجة أن العلم والتكنولوجية تكاد أن تصبح آلهة جديدة في وقتنا الراهن. ومن السهولة بمكان، في عالم الرقميات والعولمة، أن نجعل من العلم ديننا الجديد ونطرح عليه أسئلة عن حقائق كثيرة وعن معناها،عالمين أن العلم لا يمكنه أن يقدم لنا سوى إجابات جزئية لا تفي بالغرض. وهكذا نجد أنفسنا أمام نشوء أشكال جديدة من الغنوصية، التي تستخدم التكنولوجيا كشكل من أشكال الحكمة للبحث عن تنظيم سحري للحياة، يستطيع أن يعمل كعلم وكمعنى. وهكذا بتنا نشهد تأكيداً على عبادات جديدة تقدم نفسها كديانات قائمة على الازدهار والمكافأة الآنية، تحدّد الغاية من الممارسات الدينية التي بإمكان البشر أن يعيشوها.
وأخيراً بقي لدينا السيناريو السادس وهو سيناريو السياسة. فمنذ المجمع الفاتيكاني الثاني وحتى أيامنا، يمكن وبحق وصف التحوّلات الطارئة بالتاريخية. فالعالم الغربي، ومنذ أزمة الإيديولوجيا الشيوعية، لم يعد منقسماً إلى معسكرين. مما سهل الحرية الدينية وأعطى الكنائس التاريخية إمكانية إعادة تنظيم نفسها. إن دخول لاعبين جدد في الاقتصاد والسياسة والدين إلى الساحة العالمية –كالعالمين الإسلامي والآسيوي- قد ساهم في نشوء وضع مستحدث ومجهول تماماً، غني بالطاقات الكامنة والمخاطر وإغراءات الهيمنة والسلطة. وفي هذه الساحة، يجب أن ينشط الالتزام بتحقيق السلام والتطور وتحرر الشعوب، وتحسين إشكال الحكومات العالمية والقومية، وتأمين فرص الإصغاء والحياة المشتركة والحوار والتعاون بين مختلف الثقافات والأديان واحترام حقوق الإنسان وخاصة حقوق الأقليات، وتشجيع الضعفاء وحماية الإبداع والالتزام بمستقبل كوكبنا: هذه هي المواضيع والقطاعات التي يجب أن يضيئها نور الإنجيل.
7- المسيحيون في مواجهة هذه السيناريوهات الجديدة
أمام تحولات كهذه، من الطبيعي أن تكون أولى ردّات الفعل هي الضياع والخوف. فعندما نجد أنفسنا أمام تحولات تمس هويتنا وإيماننا في العمق، من الطبيعي أن نتخذ هذا الموقف النقدي للتمييز الذي ما فتئ البابا بنديكتوس السادس عشر يذكرنا به عندما يدعونا إلى تطوير قراءة للحاضر انطلاقاً من الرجاء الذي تقدمه المسيحية كهبة.فعندما يتعلم المسيحيون ثانية معنى الرجاء، فسيتعلمون في إطار معارفهم وخبراتهم، من خلال الحوار مع الآخرين ومن خلال تحديد ما بإمكانهم أن يقدموه للعالم وما يشاركوا به وما يستطيعون فعله للتعبير الأفضل عن هذا الرجاء، وسيتعلمون أيضا ما هي العناصر التي يجب عدم التخلي عنها. تتطلب السيناريوهات التي نحن مدعوون إلى مجابهتا أن نطور نقدا لأساليب حياتنا وللبنى الفكرية وللقيم وللغة المستخدمة للتواصل. وبنفس الوقت يجب على هذا النقد أن يعمل بشكل نقد ذاتي للمسيحية الحديثة التي عليها باستمرار أن تفهم نفسها انطلاقا من جذورها.
وهنا تجد أداة التبشير الجديد خصوصيتها وقوتها. يجب النظر الى هذه السيناريوهات وهذه الظواهر، متجاوزين المستوى الشعوري (الانفعالي ) والأحكام الدفاعية والخوف، لكي نفهم بموضوعية علامات الجدّة والتحديات والضعف. إذاً فالتبشير الجديد يعني العمل، في كنائسنا المحلية، على رسم دروب تساعد على قراءة الظواهر المحددة سابقاً قراءة قادرة على ترجمة رجاء الإنجيل بعبارات قابلة للتطبيق، مما يعني أن الكنيسة تبني نفسها من خلال قبولها لهذه التحديات لتصبح أكثر فأكثر سبباً في بناء حضارة الحب.
علاوة على ذلك، فإن التبشير الجديد يعني امتلاك الجرأة لطرح مسألة الله في وسط هذه المشاكل، محققاً خصوصية رسالة الكنيسة، وموضحاً بذلك الطريقة المسيحية في تسليط الضوء على مشاكل التاريخ بأسلوب غير مسبوق. إن التبشير الجديد يتطلب منا مجابهة هذه السيناريوهات بعيداً عن الانغلاق في إطار جماعاتنا ومؤسساتنا، وذلك من خلال قبول تحدي الدخول إلى هذه الظواهر، لكي نتكلم ونقدم شهادتنا من الداخل. هذا هو الشكل الذي تضطلع به الشهادة المسيحية في العالم الحديث، بالموافقة على مجابهة أشكال الإلحاد الجديد أو العلمنة المتطرفة التي تحاول إلغاء الله من حياة الإنسان.
في مثل هذا السياق فإن “التبشير الجديد” يعني أن تدعم الكنيسة وبقناعة، محاولة توحيد كل المسيحيين لكي تظهر للعالم القوة النبوية والمحولة للرسالة الإنجيلية. فالعدالة والسلام والحياة المشتركة للشعوب وحماية الإبداع والابتكار، كلها كلمات وسمت الدرب المسكوني للعقود الأخيرة، وقد قدمها المسيحيون المتحدون كمحاولات يسلط فيها الضوء على مكانة مسألة الله في حياة البشر. وبالفعل، فإن هذه الكلمات تأخذ معناها الأصدق فقط على ضوء الكلمة التي زرعها الله فينا بابنه يسوع المسيح.
8-“التبشير الجديد والحاجة إلى الروحانية ”
إن هذا الجهد لإدراج موضوع الله بين مشاكل انسان اليوم يتقاطع مع عودة الحاجة الدينية والروحية التي تظهر بقوة متجددة انطلاقا من الأجيال الفتية. إن تبدل السيناريوهات التي درسناها حتى الآن لا يمكن إلا أن يؤثر أيضا في الطريقة التي يجسد بها البشر عاطفتهم الدينية. وقد مست هذه الظاهرة التي تقدم الفرص والإمكانات لتبشير جديد لم يكن متوقعا منذ عقود، مست الكنيسة الكاثوليكية نفسها. إن التجمعات العالمية للشباب والحج إلى أماكن تقوية قديمة وحديثة وربيع الحركات والجمعيات الكنسية،هي علامات منظورة للعاطفة الدينية التي لم تنطفئ جذوتها. وفي هذا السياق، يطلب” التبشير الجديد” من الكنيسة أن تعرف كيف تميز عمل الروح الذي “يحقق ملء المسيح” (افسس 4/14) من خلال توجيهها واستخدامها لتعابير تنم عن إيمان ناضج وواع. وعلاوة على المجموعات حديثة التكوين-نتيجة عمل الروح-فإن إحدى المهام الخطيرة في التبشير الجديد تتعلق بالحياة المكرسة في مختلف أشكالها القديمة والحديثة. ويجب التذكير أن كبرى الحركات التبشيرية للألفي سنة التي مضت للمسيحية مرتبطة مع بعضها بنوع من الراديكالية الانجيلية.
ويندرج في هذا السياق اللقاء والحوار الديني مع الكنائس التقليدية وخاصة الشرقية منها، الذي مارسته الكنيسة في العقود الأخيرة، والتي تستمر في التأكيد عليه.ويقدم هذا اللقاء نفسه كفرصة لتعلم طرق ولغة الحاجة الدينية كما تجلت في خبرات دينية أخرى، وهو يساعد الكثلكة على فهم أعمق للطرق التي بها يلبي الإيمان المسيحي الحاجة الدينية لكل إنسان ويصغي إليها.
– ملامح جديدة لكينونة الكنيسة
إن هذه الظروف الجديدة للرسالة، تجعلنا نفهم في نهاية المطاف أن مصطلح “التبشير الجديد” يشير إلى ضرورة إيجاد تعابير جديدة للتبشير، تساعد الكنيسة لتكون كنيسة في المجالات الاجتماعية والثقافية المتغيرة بعمق. إن الوجوه التقليدية التي اتفق على تسميتها ” بلاد المسيحية ” وأرض الرسالات، راحت تكشف عن محدوديتها لأنها تعتمد على مفهوم عفا عليه الزمن لدرجة أنها لا يمكن ان تكون مثالا يحتذى لبناء جماعات مسيحية اليوم.ويجب أن تقود الممارسة الدينية التفكير لبناء نموذج جديد للكنيسة يتجنب الشعوبية والديانة ” المدنية “، ويساعد – في تجاوز الايديولوجيات كما هو اليوم – على الحفاظ على شكل الكنيسة المرسلة. وبعبارة أخرى، وفي إطار تنوع هذه الوجوه، يجب على الكنيسة ألا تفقد وجهها ككنيسة ” بيتية” و “شعبية”. وعلى الكنيسة في هذا الإطار، إطار الأقلية والتمييز، ألا تفقد قدرتها على البقاء قريبة من الحياة اليومية للأفراد، لتعلن انطلاقا منها رسالة الإنجيل المحيية. وكما كان يؤكد البابا يوحنا بولس الثاني، فإن”التبشير الجديد” يعني صياغة النسيج المسيحي للمجتمع البشري، وذلك بإعادة تركيب نسيج الجماعات المسيحية نفسها؛ وهذا يعني مساعدة الكنيسة لتكون حاضرة دائما” وسط بيوت أبنائها وبناتها”، لكي ينشطوا حياتهم ويوجهونها نحو الملكوت الآتي.
وفي إطار عمل التمييز هذا، يمكن للتبشير أن يتلقى دعماً هاماً من الكنائس الكاثوليكية الشرقية ومن كل الجماعات المسيحية،التي عاشت لتوها وما زالت تعيش خبرة النشاط المخفي والتمييز العرقي والإيديولوجي أو الديني.إن شهادة إيمان هذه الكنائس وصمودها وقدرتها على المقاومة وصلابة رجائها وحدسها في تصرفاتها الرعوية، هي مواهب جديرة بالمشاركة مع الجماعات المسيحية التي، بالرغم من ماضيها العريق، فإنها تعيش الآن واقعاً بالغ الصعوبة. فإذا ما تسنّى لها أن تصغي لبعض الخبرات التي تبعث فيها الثقة اللازمة للانطلاق والتي يتطلبها التبشير الجديد، فإن ذلك سيشكل هبة لهذه الكنائس التي لم تعتد أن تعش إيمانها كأقلية.
لقد حان وقت التبشير الجديد للغرب أيضا، حيث يعيش الكثير من المعمدين خارج إطار الحياة المسيحية. وحيث مازال هناك البعض ممن يحافظون على علاقة مع إيمانهم ولكن معرفتهم به وبأسسه سطحية جداً. كثيراً ما شوهت صورة الإيمان المسيحي في الرسوم الكاريكاتورية أو النشرات الثقافية بنوع من اللامبالاة أو العداء المعلن. ولقد حان وقت التبشير الجديد لهذا الغرب حيث “كانت دول وقوميات تعيش الحياة المسيحية في أروع صورها وكانت قادرة على خلق جماعات إيمانية حية وفاعلة، تتعرض اليوم لتجربة قاسية غيرت وجهها المجيد نتيجة الانتشار المستمر لظاهرة اللامبالاة الدينية والعلمنة والإلحاد. إن المقصود بهذا الكلام هي بعض الدول التي يطلق عليها اسم العالم الأول، حيث يطغى الغنى الاقتصادي والسباق إلى الاستهلاك،إلى جانب صور مفزعة للبؤس والفقر، توحي وتغذي نمط من الحياة كما لو أن الله غير موجود”.
على الجماعات المسيحية أن تعرف – وبشكل مسئول وشجاع- كيف تقوم بواجب التحديد الذي يفرضه السياق الثقافي والاجتماعي على الكنيسة. وعليها أن تتبنى عملية التحول الطويلة هذه وتشرف عليها متكلة دائما على وصية التبشير في الإنجيل
10- البشارة الأولى، الاهتمام الرعوي والتبشير الجديد
إن الواجب الإرسالي الذي يختم به الإنجيل (راجع مرقس 16/15 وما يتبع، متى 28/19 وما يتبع، لوقا 24/48 وما يتبع ) لم تحن نهايته بعد، بل دخل في مرحلة جديدة. وقد سبق وذكر البابا يوحنا بولس الثاني “بأن حدود الأعباء الرعوية للمؤمنين والتبشير الجديد والنشاط الإرسالي النوعي لم تتحدد معالمها تماماً” ولا يمكن أن نجعل بينها حواجز وجدران. إن الكنائس ذات التقليد المسيحي القديم مثلاً هي على علاقة مع مهمة التبشير الجديد الثقيلة، وهي تدرك جيداً أنها لا يمكن أن تكون موجهة إلى غير المسيحيين في البلدان الأخرى أو القارات الأخرى، إذا لم تهتم جدياً بغير المسيحيين في بلدانها : إن الروح الإرسالي Ad Intra (نحو الداخل) هي علامة ثقة كبيرة وتشكل المحرك للروح الإرسالي Ad extra (نحو الخارج) وبشكل متبادل. إن الهوية المسيحية للكنيسة هي إما أن تكون مرسلة أو لا تكون. فمن أحب إيمانه اهتم له وحمله للآخرين وسمح لهم أن يشاركوه به. إن انعدام الغيرة الإرسالية هي نقص في الغيرة للإيمان، وعلى العكس فإن الإيمان يصبح أكثر قوة عندما يتم نقله للآخرين. ويبدو أن كلام قداسة البابا يرمي إلى ترجمة هذا المفهوم للتبشير الجديد في سؤال حرج ومباشر جداً :” هل نحن معنيون بنقل الإيمان لنضم اليه كثيراً من غير المسيحيين ؟ وهل نحن مهتمين بالرسالة حقاً ؟”.
أطلقت تسمية التبشير الجديد على استدراك الكنيسة لرسالتها الأساسية وهويتها ومبرر وجودها. وهذا التبشير لا يخص مناطق محددة، بل هو السبيل الذي يساعد على ترجمة الإرث الرسولي إلى واقع معاش في عصرنا ومن أجل عصرنا. وتريد الكنيسة من خلال برنامج التبشير الجديد إدراج موضوعها المفضل والنوعي في عالمنا المعاصر وفي الحوار الدائر: إعلان ملكوت الله الذي بدأ مع يسوع. ولا يمكن لأية كنيسة أن تشعر أنها غير معنية بهذا البرنامج : فالكنائس المسيحية المؤسسة قديماً، مع ما فيها من الهجر العملي للإيمان عند الكثيرين، والكنائس الجديدة التي تجابه الجهل، الذي يضطرها لمراجعة نفسها بشكل دائم لكي تتوصل، ليس إلى إدخال الإنجيل الذي يطهر ويسامي هذه الثقافات فقط بل يجعلها تنفتح على جدة الإنجيل. وبشكل عام، فإن كل الجماعات المسيحية ملتزمة بتطبيق رعوي يزداد صعوبة مع الأيام، ويغامر بالتحول إلى روتين غير قادر على نقل الأسباب التي وجدت من أجلها هذه الجماعات.
فالتبشير الجديد إذا يعني الرسالة ؛ وهو يبحث عن القوة للانطلاق وتجاوز الحدود وتوسيع الأفاق. إنه النقيض لمبدأ الانكفاء والاكتفاء بالذات والتسليم بالأمر الراهن، وهو يرفض المفهوم الراعوي القائم على القناعة بأنه يكفي أن نفعل ما كنا نفعل على الدوام؛ فمقولة “العمل كالعادة” لم تعد تكفي. وكما أكدت بعض الكنائس المحلية، فقد آن الأوان لكي تدعو الكنيسة جماعاتها الكنسية إلى حوار رعائي حول المعنى الإرسالي لعملها ولهيئاتها.
أسئلة
تعيش اليوم جماعاتنا المسيحية مراحل تغيّر هامة لوجهيها الكنسي والاجتماعي.
1- ما هي الميزات الأساسية لهذه التغيرات في كنائسنا المحلية ؟
2- كيف تم عيش ميزات كنيسة مرسلة،كنيسة قادرة على العيش في صميم حياة الأفراد اليومية، كنيسة تعيش بين بيوت أبنائها وبناتها ؟
3- كيف تمكن التبشير الجديد من إعطاء الحياة والدفع إلى التبشير الأول أو إلى الحياة الرعوية القائمة، وكيف ساعد على تجاوز الإرهاق الذي يظهر في الحياة اليومية لكنائسنا المحلية؟
4- كيف تم تمييز وقراءة الوضع الحالي في مختلف الكنائس المحلية على ضوء التبشير الجديد ؟
يعيش عالمنا اليوم تغيرات هامة تتمخض عن سيناريوهات وتحديات جديدة للمسيحية. وقد ذكرنا هنا ستة سيناريوهات : الثقافي (العلمنة)، الاجتماعي (اختلاط الشعوب)، الإعلامي، الاقتصادي العلمي، السياسي.
5- ما هو الوجه الأبرز الذي قدمته هذه السيناريوهات في مختلف الكنائس المحلية ؟
6- ما هي ردة الفعل التي أثارتها هذه السيناريوهات في حياة الكنائس المحلية ؟ وكيف أثرت في حياتها ؟
7- ما هي المشاكل والتحديات التي فرضتها ؟ وما كانت ردود الكنائس المحلية عليها ؟
8- ما هي العقبات الأساسية وأكبر المصاعب التي تمت مواجهتها في عملية إدراج موضوع الله ضمن مواضيع الوقت الراهن ؟
وقد أعير السيناريو الديني اهتماماً خاصاً.
9- ما هي التحولات التي طرأت على طريقة عيش الأشخاص للخبرة الدينية ؟
10- ما هي الحاجات الجديدة للروحانية، وما هي الحاجات الدينية الجديدة الناشئة ؟ وهل هناك تقاليد دينية جديدة تظهر ؟
11- كيف تأثرت الجماعات المسيحية بتطور السيناريو الديني؟ وما هي الصعوبات الأساسية ؟ وما هي الأمور الملحة الجديدة ؟
إن التبشير الجديد هو رؤية الكنيسة للاستمرار في عيش رسالة التبشير في إطار هذه السيناريوهات الجديدة.
12- ما هو الشكل الذي اتخذه التبشير الجديد في الكنائس المحلية ؟
13- ما هو مضمون وشكل الشجاعة التي تميز التبشير الجديد؟ وما هي القوة التي يبثها في الحياة الكنسية والرعوية ؟
14- لتحديد الأعمال والتدابير اللازمة لحياة الكنيسة ؟
15- كيف تبنت الكنائس المحلية طلب البابا يوحنا بولس الثاني؟ الذي كرره في مناسبات عدة لاختيار “تبشير جديد”، جديد في اندفاعه وأساليبه وطرق تعبيره ؟
16- كيف ساعدت المجامع السينودسية القارية والإقليمية الكنائس المحلية على إنشاء برنامج لتبشير جديد ؟
الفصل الثاني
إعلان إنجيل يسوع المسيح
“اذهبوا في العالم كله وأعلنوا البشارة إلى الخلق أجمعين” (متى 16/15)
11- اللقاء بالمسيح والشركة معه : هدف نقل الإيمان
إن التكليف الإرسالي الذي تلقاه الرسل من الرب (راجع مرقس 16/15) يتضمن عودة واضحة إلى إعلان الإنجيل وتعليمه: “وعلموهم أن يحفظوا كل ما أوصيتكم به” (متى 28/20). ويقدم لنا الرسول بولس نفسه “كرسول اختير للتبشير بإنجيل الله” (رومية 1/1). وتقوم مهمة الكنيسة على تحقيق التقليد الإنجيلي، أي على التبشير ونقل الإنجيل الذي هو “قدرة الله لخلاص كل إنسان يؤمن به” (رومية 1/16)، والذي يتماثل في النهاية مع يسوع المسيح (راجع 1 كور1/24). وفي حديثنا عن الإنجيل ليس علينا أن نراه كمجرد كتاب أو عقيدة، فالإنجيل أكبر من هذا بكثير، إنه كلمة حية وناجعة تحقق ما تقول. إنه ليس مجرد قوانين إيمانية أو مبادئ أخلاقية أو برنامج سياسي، بل هو شخص : إنه يسوع المسيح كلمة الله المتجسد. إن الإنجيل هو إنجيل يسوع المسيح، بل إن مضمونه هو يسوع المسيح. وأكثر من ذلك، فإن يسوع هو الدافع للبشارة وموضوعها ونقلها. وبالتالي، فإن هدف نقل الإيمان هو تحقيق هذا اللقاء بيسوع في الروح القدس، لكي نصل إلى معرفة الأب ومعرفة أنفسنا.
إن نقل الإيمان يعني خلق الظروف المؤاتية في كل زمان وفي كل مكان للقاء بين البشر وبين يسوع. ويتخذ الإيمان، الذي هو لقاء مع شخص يسوع المسيح، يتخذ شكل علاقة معه واستذكار له (كما في الأفخارستية) وتمثل فكره في نعمة الروح القدس. وكما أكد البابا بنديكتس السادس عشر: “في أساس كوننا مسيحيين، ليس هناك قرار أخلاقي أو فكرة عظيمة، بل هناك لقاء مع حدث، مع شخص يعطينا أفقا جديداً للحياة ووجهتها الحاسمة…….. وكما سبق وأحبنا الله في الأول، (راجع يوحنا الأولى 4/10) فإن الحب لم يعد مجرد وصية، بل هو رد على محبته ومبادرته للقائنا”. والكنيسة نفسها تستقي وجودها انطلاقا من تحقيق مهمة التبشير في الإنجيل ومن نقل الإيمان المسيحي.
والنتيجة المرجوة من هذا اللقاء هي دمج البشر في علاقة الابن مع الأب لكي نحس بقوة الروح القدس. والهدف من نقل الإيمان والتبشير هو أن “يقودنا بالمسيح إلى الآب في الروح القدس” (راجع أفسس 18). ومن هذا المنطلق، فإن نقل الإيمان بيسوع يعني خلق الظروف المؤاتية لإيمان معاش وإدخال الإنسان إلى حياة الكنيسة. والمقصود هنا هو الإشارة إلى هيكلية النقل المتجذرة عميقا في التقليد الكنسي، الذي يشكل المرجع للتعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية.
12- عندما تنقل الكنيسة الإيمان، إنما تعمل على تحقيق ذاتها
إن نقل الإيمان هو عملية ديناميكية معقدة جداً تقتضي بشكل كامل إيمان المسيحيين وحياة الكنيسة. إذ لا يمكن نقل ما لا نؤمن به وما لا نعيشه. وتشكل العفوية التي ننقل بها الإيمان للآخرين البرهان على تجذر الإيمان ونضجه. “ودعا الذين أرادهم……ليكونوا معه وليرسلهم ليكرزوا” (مرقس 3/13-14). ولا يمكن نقل الإنجيل إذا لم يكن هناك في الأساس وجود وعيش مع يسوع، لاختبار الأب في الروح. وبالمقابل، فإن اختبار هذا الوجود وروعته وجماله سيدفعنا إلى التبشير به وإعلانه ومشاركة الناس به. ولا تقتصر مهمة الإعلان هذه على شخص معين أو بعض القلائل من المختارين، إنه هبة معطاة لكل إنسان استجاب بثقة لدعوة الإيمان. إن نقل الإيمان ليس عملاً اختصاصياً تكلف به بعض الجماعات أو الأشخاص المختارين خاصة لهذا العمل، انه اختبار عاشه كل مسيحي والكنيسة بأجمعها التي تكتشف من خلال هذا العمل هويتها الخاصة كشعب استجاب لنداء الروح الذي يجمعنا من شتات حياتنا اليومية لكي نعيش حضور المسيح بيننا، مكتشفين بهذه الطريقة وجه الله الحقيقي الذي هو أبونا. وهكذا “فإن المؤمنين العلمانيين اليوم، ونظرا لمشاركتهم بعمل المسيح النبوي، هم ملتزمون بقوة في مهمة الكنيسة هذه، وعليهم تقع مهمة الشهادة بأن الإيمان يشكل الرد الوحيد والناجع على الصعوبات والآمال التي تثيرها الحياة في كل إنسان وفي كل مجتمع. وسيكون ذلك ممكنا في ما لو أن المؤمنين العلمانيين عرفوا كيف يتجاوزوا في أنفسهم القطيعة بين الإنجيل وبين الحياة، وخلقوا في الوسط الذي هم فيه (في الأسرة، في العمل، في المجتمع) وحدة حياة،تجد في الإنجيل إلهاماً وقوة للإتحاد”
وكعمل أساسي من أعمال الكنيسة، فإن نقل الإيمان يعطي صورة عن الجماعات المسيحية ونشاطاتها. وبغية إعلان الإنجيل ونشره، على الكنائس أن تشكل جماعات مسيحية قادرة على التنسيق بين الأعمال الأساسية لحياة الإيمان؛ كالمحبة والشهادة والتبشير والإصغاء والمشاركة. يجب أن نفهم التبشير على أنه عمل تقوم من خلاله الكنيسة، مدفوعة بالروح القدس، بإعلان الإنجيل في العالم كله تبعاً لمنطق صاغته وعبرت عنه الكنيسة المعلمة بقولها :”مدفوعة بالمحبة، فإن الكنيسة تؤثر بقوة في النظام العالمي من خلال تبّني الثقافات وتجديدها. وهي تشهد بين الشعوب للطريقة الجديدة للحياة لتي تميز المسيحيين، وتعلن الإنجيل بوضوح داعية الناس إلى التوبة، وتمهد الطرق للإيمان وللحياة المسيحية من خلال التعليم والأسرار أمام المهتدين إلى يسوع المسيح أو الذين عادوا إلى أتباعه، وتدخلهم في الجماعات المسيحية.وهي تعمل باستمرار على تطوير هبة المشاركة عند المؤمنين، من خلال التربية المستدامة للإيمان (كالعظات وغيرها) والأسرار وأعمال المحبة، دون أن تتوقف عن تشجيع الرسالة من خلال إرسال تلاميذ المسيح للتبشير بإنجيله بالقول والفعل في العالم أجمع”
13- كلمة الله ونقل الإيمان
انطلاقا من انعقاد المجمع الفاتيكاني الثاني، اكتشفت الكنيسة الكاثوليكية بأن نقل الإيمان هو لقاء مع المسيح، يتم بواسطة الكتب المقدسة والتقليد الحي للكنيسة بقيادة الروح القدس الذي يجددها باستمرار، ويدعم الأجيال الجديدة في طريقها للقاء المسيح في جسده الذي يجد ملؤه في الاحتفال بالأفخارستيا.
وقد تم تسليط الضوء على السمة الأساسية لعملية نقل الإيمان في المجمعين الأخيرين للسينودس عن الأفخارستيا، وخاصة ذاك المكرس لتأثير كلمة الله في حياة الكنيسة ورسالتها. وقد دعيت الكنيسة في هذين المجمعين إلى التفكير في الدينامية القوية التي تدعم هويتها. فالكنيسة تنقل الإيمان الذي تعيشه هي وتحتفل به وتعلمه وتشهد له.
إن هذا الوعي قد فرض على الكنيسة التزامات ملموسة وتحديات جعلها تعرف قيمة عملية نقل الإيمان المكلفة به. وعلى شعب الله أن ينضج في نفسه وعيا أكبر لدور كلمة الله ولقدرتها على كشف قصد الله نحو البشر ومخططه الخلاصي. ويجب إيلاء لمزيد من الاهتمام لإعلان كلمة الله في الاجتماعات الليتورجية والإخلاص في مهمة الوعظ. كذلك يجب إيلاء اهتمام اكبر وثقة أقوى للدور الذي يمكن لكلمة الله أن تلعبه في رسالة الكنيسة، سواء بإعلان الرسالة أو في الإصغاء والحوار مع الثقافات.
ولقد أولى آباء السينودس اهتماما خاصا لإعلان الكلمة للأجيال الجديدة.”ففيهم (الشباب) كثيرا ما نجد انفتاحا عفوياً للإصغاء لكلمة الله ورغبة صادقة في معرفة يسوع…… إن هذا الاهتمام بعالم الشباب، يتطلب الشجاعة لتبشير واضح. وعلينا مساعدتهم على إقامة علاقة ود ومحبة مع الكتاب المقدس، ليكون لهم بوصلة تحدد لهم الطريق الواجب أتباعه. لذلك فهم بحاجة إلى شهود ومعلمين يسيرون معهم ويعلموهم محبة الإنجيل ونقله إلى أقرانهم، فيصبحون بدورهم مبشرين صادقين”. كذلك طلب إباء السينودس من الجماعات المسيحية أن تشق طرقا للتعليم المسيحي يمكن أن تقوده، من خلال الإصغاء لكلمة الله والاحتفال الإفخارستي والمحبة الأخوية المعاشة في الجماعة، إلى إيمان أكثر نضجا.كذلك يجب الأخذ بعين الاعتبار المتطلبات الجديدة الناجمة عن الانتقال وظاهرة الهجرة التي تفتح أفاقا جديدة للتبشير، لأن المهاجرين ليسوا بحاجة إلى التبشير فقط، بل ليصيروا هم أيضاً مبشرين.
ومن خلال تأكيده على بعض المواضيع، فقد حض مجمع السينودس الجماعات المسيحية لكي تتأكد من حقيقة كون إعلان الكلمة هو في أساس واجب نقل الإيمان. “فمن الضروري إذاً أن نعيد اكتشاف ضرورة وجمال إعلان الكلمة فيما يتعلق بحلول ملكوت الله الذي أعلنه المسيح نفسه…… وكلنا ندرك كم هو ضروري أن يضيء نور المسيح كل الصعد البشرية: كالعائلة والمدرسة والثقافة والعمل ووقت الفراغ وغيرها من قطاعات الحياة الاجتماعية. والأمر لا يتعلق بنشر كلمة تعزية، بل كلمة تقطع مع الماضي وتدعوا إلى التوبة وتجعل اللقاء مع الله ممكنا وبذرة لإنسانية جديدة”.
14- منهجية نشأة الإيمان
إن نقل الإيمان لا يتم بالكلام فقط بل يتطلب علاقة مع الله عبر الصلاة. وفي إطار التربية على الصلاة، يبدو دور الليتورجية حاسماً؛ إذ يكون المربّي هو الله، أما في الصلاة فهو الروح القدس.
إن الاجتماع العام العادي لسينودس الأساقفة المختص بالتعلم رأى في نضج الوسائل التي ابتكرتها الكنيسة لنقل الإيمان – علاوة على ازدياد عدد المعلمين وأمانتهم – هبة من الروح القدس لتساعد لبشر على اللقاء مع المسيح. وهذه المناهج (المتّسمة بالتعددية) تتعلق بخبرة الأفراد، وتفّعل بطرق مختلفة قدراتهم واندماجهم في المجتمع ومواقفهم وحاجاتهم معتمدة مبدأ عدم الإنثقاف كأداة خاصة. ولتجنب مغبة التشتت والتشويش القائمة في وضع تعددي كبير ومتطور باستمرار، فإن البابا يوحنا بولس الثاني قد قبل في هذا السياق إلحاح أباء السينودس معتبراً إياه قاعدة؛ “إن تعدد أساليب التعليم يمكن اعتباره علامة على الحيوية والعبقرية فيما لو أن كلا من هذه الأساليب قد جمع في نفس الموقف الحبي الأمانة المزدوجة لله وللإنسان”.
وبنفس الوقت، فقد أهتم السينودس حول التعليم المسيحي بعدم بعثرة الفوائد والقيم الموروثة من ماض تميز بالاهتمام بتأمين نقل للإيمان منهجي وكامل وعضوي وتراتبي. لذلك فقد أطلق السينودس أداتين أساسيتين لنقل الإيمان وهما..التعليم المسيحي والتلمذة إذ بفضلهما تنقل الكنيسة الإيمان بنشاط وتزرعه في قلوب المتتلمذين والمعلمين ليخصب اختباراتهم العميقة. إن الإيمان الذي زرعته الكنيسة يبدأ بالنمو خلال التعليم، ويغتني بقيم الثقافات المختلفة. وهكذا تتحول التلمذة (الموعوظين) إلى مركز أساسي لنمو الكثلكة وخميراً للتجدد الكنسي.
إن إطلاق هاتين الأداتين – التعليم المسيحي والتلمذة – يجب أن تؤديان إلى تقوية منهجية الإيمان التي تقع على كاهلها مهمة توسيع مفهوم التعليم، ليشمل مفهوم نقل الإيمان أيضاً. وانطلاقاً من السينودس من أجل التعليم المسيحي، فقد اعتبر التعليم وسيلة لنقل الإيمان كما تلقته الجماعة المسيحية وفهمته واحتفلت به وعاشته وشاركته مع الآخرين. “إن التعليم التمهيدي لا يمكن أن يكون حدثاً ظرفياً؛ فكتدريب على الحياة المسيحية، هو أكثر من مجرد تعليم بسيط. أما كضرورة جوهرية، فهو يتناول ما هو “عادي” بالنسبة للمسيحي دون أن يتطرق إلى الأمور الجدلية أو يتحول إلى بحث لاهوتي. وأخيراً فإن التعليم التمهيدي يضم المتعلم إلى حياة جماعة ويجعله يحتفي بالإيمان ويشهد له، وهو كما رأينا يقوم بنفس الوقت بمهام التنشئة والتربية والبناء. ولاشك أن هذا الغنى الملازم لتلمذة البالغين غير المعمدين سيوحي بأشكال أخرى من التعليم.
تبدو لنا التلمذة كأنها النموذج الذي اعتمدته الكنيسة مؤخراً لتعطي شكلاً لعملية نقل الإيمان. وقد أعيد إطلاقها في المجمع الفاتيكاني الثاني، وتمّ اعتمادها في العديد من مشاريع إعادة تنظيم التعليم وإطلاقه كمثال نموذجي لهذه المهمة التبشيرية. وقد قامت الإدارة العامة للتعليم بالتوفيق بين العناصر المكونة للتلمذة كاشفة عن الأسباب التي دعت الكثير من الكنائس المحلية لاعتماد هذا النموذج لإعادة تنظيم ممارساتها التبشيرية والدعوة إلى الإيمان، لا بل أنها استحدثت نموذجا جديداً وهو “التلمذة ما بعد المعمودية”. وتذكر إدارة التعليم كل الكنيسة بأهمية دور التنشئة الإيمانية وبمسؤولية الجماعة المسيحية بكاملها حيالها.وتضع سر فصح المسيح وسط كل عملية تعليم، وتجعل من الانثقاف مبدأ عملها التربوي وتنظر إليه كعملية تكوين حقيقي.
15- الكنائس المحلية مسؤولة عن نقل الإيمان
إن العنصر العامل في نقل الإيمان هو الكنيسة الجامعة التي تتجلّى في الكنائس المحلية. فالتبشير والنقل وخبرة الإنجيل المعاشة تتحقق فيها علاوة على كونها المصدر الفاعل، هي بنفس الوقت ثمرة لعمل التبشير ونقل الإيمان، كما تذكرنا به خبرة الجماعات المسيحية الأولى (راجع أعمال 2 / 41-47). فالروح يجمع المؤمنين حول الجماعات التي تعيش إيمانها بحرارة وتتغذى من سماع كلمة الرسل ومن الإفخارستيا لتبشر بملكوت الله. وقد حدد المجمع الفاتيكاني الثاني هذا الوصف كأساس لهوية كل جماعة مسيحية عندما أكد :”إن كنيسة المسيح هي حاضرة فعلاً في كل جماعات المؤمنين المحلية الشرعية المتحدة مع رعاتها والتي أطلق عليها في العهد الجديد هي أيضا اسم كنائس.وهي تشكل بالفعل كلاً على حدة الشعب الجديد الذي دعاه الله في الروح القدس (راجع تسا 1/5). ففيها يتجمع المؤمنون بفضل التبشير بإنجيل المسيح وفيها يتم الاحتفاء بسر عشاء الرب “لكي ما يتحد الأخوة في جسد واحد بفضل جسد المسيح ودمه”.
لقد كانت كنائسنا موفقة في التطبيق الأمثل لتوصيات المجمع على صعيد نقل الإيمان والتبشير. وكان عدد المسيحيين الذين التزموا في العقود الأخيرة بشكل عفوي ومجاني في التبشير ونقل الإيمان كبيراً فعلا. وظهر ذلك في كنائسنا المحلية كهبة حقيقية من الروح القدس لجماعاتنا المسيحية. وقد أضحت الأعمال الراعوية إلى جانب نقل الإيمان فرصة ساعدت الكنيسة على بناء نفسها في الأوساط الاجتماعية المحلية المختلفة، وأظهرت غنى وتنوع الأدوار والخدمات الكهنوتية التي تتكون منها وأنعشت الحياة اليومية. وقد رأينا حول الأسقف ازدهار الكهنة والأهل والرهبان ومعلمي التعليم المسيحي والجماعات، كل حسب مسؤوليته وقدراته الخاصة.
وإلى جانب المواهب والنواحي الإيجابية، لا بد أن نسجل أيضاً التحديات التي تطرحها الأوضاع الجديدة وتطوراتها أمام الكنائس المحلية : فالعدد المتدني للكهنة يجعل نتائج عمل هذه الكنائس غير حاسم كما هو مرجو.ثم إن التعب الذي تعيشه الكثير من العائلات يضعف دور الوالدين. والمستوى المتدني جدا للمشاركين يلاشي تأثير الجماعة المسيحية.ويكمن الخطر في أن يقع حمل هكذا عمل هام وأساسي فقط على كاهل معلمي التعليم المرهقين من ثقل المهمة الموكلة إليهم ومن الوحدة التي يجدون أنفسهم فيها.
وكما ذكرنا في النقطة الأولى، فإن المناخ الثقافي والإرهاق التي تجد الكثير من الجماعات المسيحية نفسها فيها، تنذر بإضعاف القدرة على التبشير ونقل الإيمان والتربية الإيمانية للكنائس المحلية.والمسألة التي طرحها القديس بولس-“كيف نؤمن بلا كارز ؟”(روما 10/14) – تفرض نفسها بقوة في أيامنا. وفي وضع كهذا، يجب أن نرى هبة الروح القدس في الحيوية والطاقات التي أشاعها وجود الجماعات والحركات الكنسية في مهمة نقل الإيمان. ونحن مدعوون بنفس الوقت إلى العمل على جعل هذه الثمار قادرة على نقل اندفاعها وحيويتها إلى أشكال التعليم ونقل الإيمان التي فقدت حرارتها الأصلية.
16- ايضاح الحق : طريقة إعلان الإيمان
يتطلب الظرف الحالي من الكنائس المحلية اندفاعا جديدا وثقة بالروح الذي يقودها لكي تضطلع، من جديد وبفرح وحماس،بالمهمة الأساسية التي من أجلها أرسل يسوع تلاميذه؛ وهي التبشير بالإنجيل (راجع مرقس 16/15) والتبشير بالملكوت (راجع مرقس 3/15). ويجب أن يشعر كل مسيحي أنه معني بوصية يسوع هذه، وأن يترك الروح يقوده بحسب دعوته الخاصة.وفي الوقت الذي يبدو اختيار الإيمان وإتباع يسوع صعبا وغير مفهوم ومتناقض ومقيد، فإن مهمة الجماعة ومهمة كل مسيحي في أن يكونوا شهودا ومبشرين بالإنجيل كما فعل يسوع، تكبر وتتسع.
وقد أشار الرسول بطرس إلى هذا الأسلوب في التصرف عندما دعانا إلى الدفاع وإلى أن ” نكون مستعدين دائما لمجاوبة كل من يسألنا عن سبب الرجاء الذي فينا”(1 بطرس 3/15). إن موسما جديدا للشهادة لإيماننا، وأشكالا جديدة من الردود على من يطلب منا البرهنة عن سبب إيماننا، هي الطرق التي حددها الروح القدس للجماعات المسيحية، لكي ما نتجدد ونجعل الرجاء والخلاص الذين أعطانا إياهما المسيح حاضرين فينا بشكل حاسم.وعلينا كمسيحيين أن نتعلم أسلوباً جديداً للرد “بوداعة وخوف وبضمير صالح” (1 بطرس 3/16)بكل التسامح الذي يأتينا من الاتحاد بالمسيح في الروح القدس، وبتصميم العارف أن الهدف هو اللقاء مع الله الآب في ملكوته.
ويجب أن يكون هذا الأسلوب جامعاً يضم الفكر والعمل والتصرفات الشخصية والشهادة العلنية وحياة جماعاتنا الداخلية واندفاعها التبشيري واهتمامها التربوي وإخلاصها للفقراء وقدرة كل مسيحي على فهم كلمة الله في الظرف الذي يعيش ويعمل فيه لينقل هبة الرجاء المسيحي. ويجدر بهذا الأسلوب أن يتحلى بالحمية والثقة وحرية الكلمة،التي تجلت في كرازة الرسل (راجع أعمال 4/31) و 9/27-28) التي اختبرها الملك أغريبا بإصغائه للرسول بولس:”بقليل تقنعني أن أصير مسيحيا” (أعمال 26/28).
وفي الوقت الذي يختبر الكثيرون في حياتهم غياب الله وخواء الروح دون أي إدراك لكرامتها ولا لطريق الإنسان، يذكرنا البابا بنديكتوس السادس عشر” بأنه على الكنيسة مجتمعة والرعاة في وسطها، وعلى غرار يسوع، أن تبدأ بقيادة البشر إلى خارج الصحراء، إلى الحياة، إلى الصداقة مع يسوع الذي يهب ملء الحياة”.
هذا هو الأسلوب الذي يحق للعالم أن ينتظره من الكنيسة ومن الجماعات المسيحية بحسب منطق إيماننا. أسلوب جماعي وشخصي. أسلوب يدعو الجماعات المسيحية كلها، لا بل وكل معمد، إلى مراجعة نفسه كما يذكرنا البابا بولس السادس:”إلى جانب إعلان الإنجيل بشكل عام، فإن الشكل الآخر لنقله من شخص إلى شخص يبقى سارياً وهاماً…………..ويجب ألا تنسينا ضرورة التبشير بالإنجيل ذلك الشكل من التبشير الذي يمس الضمير الشخصي للإنسان من خلال كلمة غير عادية تلقاها من آخر”.
17- ثمار نقل الإيمان
إن الغاية من عملية نقل الإيمان هو بناء الكنيسة كجماعة من الشهود للإنجيل. يؤكد البابا بولس السادس:”إن الكنيسة هي جماعة المؤمنين، جماعة رجاء مسكوني معاش، جماعة حب اخوي،وهي بحاجة لأن تصغي باستمرار لما عليها أن تؤمن به،ولأسباب رجائها ولوصية الحب. إنها شعب الله المهاجر في العالم الذي كثيراً ما جربته الأوثان، وهي محتاجة دائما لسماع وتذكر أعمال الله العظيمة التي هدتها إلى الرب، ولأن تكون متحدة، ولأن تدعى وتبشر من جديد.وهذا يعني باختصار أنها محتاجة دائما لأن تبشّر هي بالإنجيل، إذا ما أرادت أن تحتفظ بحيويتها وباندفاعها وقوتها لكي تستطيع أن تبشر الآخرين به”.
إن الثمار التي يؤتيها التبشير المستمر بالإنجيل كعلامة على قوته المحيية في الكنيسة، تتجسد في مواجهة تحديات عصرنا.ومن الضروري إيجاد عائلات تكون علامة حقيقية وواقعية للحب والمشاركة، وقادرة على الرجاء لأنها منفتحة على الحياة.كذلك هناك حاجة لبناء جماعة تتحلى بفكر مسكوني حقيقي وقادرة على الحوار مع الأديان الأخرى. ونلمس أيضا الحاجة الملحة إلى الشجاعة لدعم مبادرات العدالة الاجتماعية والتضامن، بحيث يشغل الفقير محور اهتمام الكنيسة، راغبة أن تكون الدعوة لتكريس الحياة لله مصدر فرح.إن الكنيسة التي تنقل إيمانها، كنيسة” التبشير الجديد”، هي قادرة في كل المجالات على إظهار الروح الذي يقودها والذي يحول التاريخ: تاريخ الكنيسة وتاريخ المسيحيين وتاريخ البشر وثقافاتهم.
إن العرفان بالجميل يحمل في طياته أيضا الشجاعة للإشارة إلى عدم الأمانة والعثرات التي نلمسها في الجماعات المسيحية، كعلامة للتعب والإرهاق في مهمة التبشير.إن شجاعة الاعتراف بالخطأ، والقدرة على الاستمرار في الشهادة ليسوع المسيح، مع الإقرار بحاجتنا الدائمة إلى الخلاص،عالمين – كما يعلمنا القديس بولس- بأننا قادرين على النظر إلى ضعفنا لأننا نقر بقدرة المسيح الذي يخلصنا (راجع 2 كور 12/5 ورومية 7/14 وما يتبع )، وممارسة سر التوبة، والالتزام بالتطهير وإرادة التكفير عن أخطائنا، والثقة الثابتة في كون الرجاء المعطى لنا” لا يخزي لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا ” (رومية5/5)، هي كلها ثمرة نقل الإيمان والتبشير بالإنجيل الذي لا يكف عن تجديد المسيحيين وجماعاتهم ونقل الإنجيل إلى العالم.
أسئلة
اختبار المسيح هو الهدف من نقل الإيمان بقصد أن نشارك به الأقارب والأباعد، وهو يحثنا على التبشير.
1- إلى أي مدى وصلت جماعاتنا المسيحية إلى اقتراح مناسبات كنسية لتكون وسيلة اختبار روحي؟
2- إلى إي مدى كان اعتناق الحقيقة المسيحية هو الهدف لسلوكنا الإيماني، وهل جعلنا نعيش اختبارات حقيقية للقاء والمشاركة في سر المسيح ؟
3- كيف وجدت الكنائس، منفردة، حلولا وإجابات على الحاجة إلى الخبرات الروحية التي تحتاجها الأجيال الشابة اليوم؟
الإفخارستيا وكلمة الله هما وسيلتا نقل أساسيتان ومميزتان لعيش الإيمان المسيحي كخبرة روحية.
4- كيف ساعد المجلسان العامان العاديان لسينودس الأساقفة الجماعات المسيحية على تنمية نوعية الإصغاء للكلمة في كنائسنا؟ وكيف ساعد على تنمية احتفالاتنا الافخارستية؟
5- ما هي العناصر التي لقيت قبولاً أفضل؟ وما هي الآراء والمقترحات التي ما زالت قيد القبول؟
6- ما مدى تحول مجموعات الإصغاء والحوار لتكون طريقة مشتركة لحياة مسيحية لجماعاتنا؟ وكيف تعبر هذه الجماعات عن الطابع المركزي للإفخارستيا (عماد، احتفال)وهل بنت حياتها وأعمالها انطلاقاً منه؟
بعد عقود من الازدهار الكبير، بدت على مجال التعليم المسيحي أمارات التعب والإرهاق وخاصة على صعيد الدعوة لإحياء ودعم هذا النشاط الكنسي.
7- ما هي الخبرة الملموسة في كنائسكم؟
8- كيف أظهرت الجماعات المسيحية الامتنان والتضامن مع معلم التعليم المسيحي في الجماعات المسيحية؟ وكيف تم التأكيد على دور العناصر الأخرى أيضا في مهمة نقل الإيمان (الأهل والأشابين والجماعة المسيحية)؟
9- ما هي المبادرات التي تم تصورها لدعم الأهل وتشجيعهم في مهمة نقل الإيمان، التي يتراجع الاعتراف بتوكيله إليهم؟
خلال العقود الأخيرة، واستجابة لطلب المجمع الفاتيكاني الثاني، التزمت العديد من المداولات الأسقفية بإعادة برمجة طرق التعليم المسيحي ونصوصه.
10- أين وصلت هذه المشاريع؟
11-وما آثارها الايجابية في عملية نقل الإيمان؟ وما هي العقبات التي كان من الواجب تجاوزها؟
12- ما هي الأدوات التي قدمتها نشرات التعليم الديني للكنيسة الكاثوليكية في عملية إعادة البرمجة هنا؟
13-كيف تعمل الجماعات الكنسية والحركات والمجموعات المختلفة لتؤمن بالفعل تعليماً كنسياً منسجماً قدر الإمكان مع المواضيع الكنسية الأخرى؟
14- وكنتيجة للتحولات الهامة الحالية، ما هي المتطلبات التربوية الملحة التي تشعر كنائسنا أنها بحاجة أكبر إليها؟
15- إلى أي مدى تم تطبيق التلمذة كنموذج يعتمد عليه التعليم الديني والتربية الإيمانية في جماعاتنا المسيحية؟
يتطلب الوضع في أيامنا من الكنيسة، أسلوبا متجددا للتبشير، واستعدادا جديدا للبرهنة على إيماننا وعلى الرجاء الذي فينا.
16- إلى أي مدى نجحت الكنائس المحلية بتعميم هذا الأسلوب الجديد في التبشير في الجماعات المسيحية ؟ وما هي النتيجة؟ وما هي الصعوبات والعقبات؟
17- هل أضحت الحاجة الملحة إلى التبشير الجديد من صميم الأعمال الرعوية للجماعات ؟وهل تم الاقتناع بأن الرسالة أصبحت معاشة في جماعاتنا المسيحية المحلية في سياق حياتنا اليومية ؟
18- علاوة على الجماعات، ما هي العناصر الأخرى التي تنشط النسيج الاجتماعي من خلال حمل التبشير بالإنجيل إليه؟ وعبر أية طرق؟ وما هي النتائج؟
19- كيف نضج وعي المعمدين لحقيقة كونهم من المدعوين الأوائل لهذا التبشير؟ وبهذا الخصوص، ما هي الخبرات التي يمكن الحصول عليها ؟
الجماعة المسيحية هي ثمرة التبشير ونقل الإيمان.
20- ما هي الثمار الرئيسية التي نجمت عن نقل الإيمان في كنائسكم؟
21- ما مدى استعداد الجماعات المسيحية للإقرار بهذه الثمار ودعمها وتغذيتها؟ وما هي الثمار التي نشعر بعدم وجودها أكثر؟
22- ما هي العقبات والمتاعب والعثرات التي تشكل عقبة لهذا التبشير ؟ وكيف عرفت الجماعات أن تعيش هذه اللحظات، مستوحية منها انطلاقة روحية وتبشيرية؟
الفصل الثالث
المدخل الى الخبرة المسيحية
“اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم معمدين إياهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلموهم أن يحفظوا كل ما أوصيتكم به”(متى 28/19-20).
18- التنشئة المسيحية: منهجية تبشير
إن البحث الذي قدمناه للتو عن نقل الإيمان وعن التحولات الاجتماعية والثقافية، التي تبرز كتحد أمام المسيحية اليوم، قد أحدثت في وسط الكنيسة عملية تفكير واسعة، ودفعتها إلى إعادة النظر بالتنشئة الإيمانية والوصول إلى الأسرار.وصارت القضايا التي طرحها الفاتيكاني الثاني والتي كان يتردد صداها كتكهنات لدى الكثير من الجماعات المسيحية واقعا في العديد من الكنائس المحلية. ومن الممكن اختيار الكثير من هذه العناصر التي عددناها في هذه الوثيقة، مبتدئين بالوعي السائد في كل مكان للرابط الجوهري الذي يجمع بين أسرار التنشئة المسيحية ؛ فالمعمودية والتثبيت والافخارستيا لم تعد ينظر إليها اليوم كأسرار ثلاثة منفصلة، بل كمراحل تقود إلى الحياة المسيحية الناضجة في التنشئة الإيمانية، التي باتت تشكل الآن مفهوما وأداة رعوية معروفة ومتجذرة في الكنائس المحلية.
وفي هذه العملية، فإن الكنائس المحلية التي تفتخر بتقليد عريق للتنشئة الإيمانية، هي مدينة بالكثير إلى الكنائس الفتية. ومعا، تعلمت الكنائس كيف تتبنى الفتى الراشد، وليس الطفل، كنموذج للتنشئة الإيمانية. وقد نجحت بإعادة الأهمية إلى سر المعمودية من خلال تبني أسلوب التلمذة القديم كمثال لتامين خدمات رعوية تساعد على نظرة أكثر وعياً لسر الإفخارستيا في محيطنا الثقافي وأفضل استعداداً وقدرة على تامين مشاركة معمدين جدد في الحياة المسيحية.وقد شرعت العديد من الجماعات المسيحية بإعادة النظر في طريقة إجراء سر المعمودية وفي طريقة إشراك الوالدين- في حال معمودية الأطفال-وتسليط الضوء على السر من خلال عظة مناسبة.وقد حاولت هذه الجماعات تنظيم الاحتفال بسر المعمودية بشكل يعطي فسحة أكبر لمشاركة الجماعة،وتظهر بشكل ملموس الدعم المقدم للوالدين في مهمة التربية المسيحية، التي غدت أكثر صعوبة مع الأيام.ومن خلال الاطلاع على خبرة الكنائس الكاثوليكية الشرقية التي تشعرنا بنوع من المهابة والجو الأسراري، غدت الترتيبات لا تقف على عتبة الاحتفال الطقسي، بل تستمر بعملها التدريبي، لتذكر بوضوح أن الهدف هو بلوغ الإيمان المسيحي الناضج.
إن المقارنات التي بدأنا بها، قد أدت إلى تأمل لاهوتي وراعوي يساعد الكنيسة، من خلال الأخذ بعين الاعتبار، خصوصية بعض الطقوس على إيجاد بنية مشتركة لممارساتها الخاصة بالتمهيد والتربية الإيمانية. وفي هذا الخصوص، يمكن اعتبار موضوع التهيئة للأسرار نوعاً من اللغز؛ إذ يوجد في الكنيسة تقاليد متنوعة. ويظهر هذا التنوع بوضوح في العادات الكنسية في الشرق وفي الغرب فيما يتعلق بتنشئة الراشدين مقارنة بالأطفال.وسيتخذ هذا التنوع تركيزا أكبر فيما بعد في طريقة ممارسة سر التثبيت والاحتفال به.
ويمكننا التأكيد أن وجه المسيحية المقبل في الغرب، وقدرة الإيمان المسيحي على المقاربة الثقافية،متعلقان بطريقة إدارة الكنيسة لطريقتها في مراجعة ترتيبات سر المعمودية. ولكن في سياق هذه المراجعة،لم يتم التصرف دائما بشكل إيجابي ؛ فقد كان هناك بعض سوء الفهم، أي الميل إلى تفسير وترجمة التحولات الحاصلة كفرصة لإدخال منطق القطيعة: فقد تمت قراءة الممارسات الرعوية وفهمها على ضوء نظرة خلاّقة للقطيعة، الذي يرى في هذا التجديد الوليد احتمال إصدار حكم على الماضي الحديث للكنيسة، وإمكانية إدخال أشكال اجتماعية غير مسبوقة للحديث عن المسيحية وعيشها اليوم. وقد استخدمت أحياناً بعض هذه التعابير للإشارة إلى إهمال ممارسة عماد الأطفال كضرورة لا مفر منها. وبالمقابل، فإن عقبة جدية أمام إعادة النظر الجارية، قد جاءت نتيجة التصرفات الخاملة التي تبنتها بعض الجماعات المسيحية، قناعة منها أن مجرد التكرار لأعمال مقولبة، يشكل ضمانة لنجاح العمل الكنسي.
إن عملية إعادة النظر تعيد للكنيسة بعض المواقع وبعض المشاكل التي تمثل تحديات حقيقية، تضطر الجماعات المسيحية إلى وجوب التمييز، ومن ثم إلى تبني أساليب جديدة للعمل الرعوي.ويمثل اليوم إيجاد مكانة مشتركة لسر التثبيت تحديا أكيدا للكنيسة. وقد تم تقديم هذا الالتماس في سياق المجلس العام الاعتيادي لسينودس الأساقفة عن الإفخارستيا، وأعيد طرحه من قبل البابا بنديكتوس السادس عشر في الإرشاد الرسولي لما بعد السينودس.ومنذ فترة قريبة تبنت المداولات الأسقفية عدة خيارات بهذا الخصوص، انطلاقا من الرؤى المختلفة التي قرأت بها الإشكالية (التربوية والأسرارية والكنسية).وهناك تحد آخر يطرح نفسه على الكنيسة ويتمثل في إيجاد القدرة لإعطاء مضمون وقوة لمسيرة التنشئة والتجديد والتي بدونها تفقد هذه الدروب عنصرا أساسيا من عناصر تكوين الإيمان.وأخيرا يبرز تحد أخير يتمثل في ضرورة عدم إحالة مهمة الكنيسة بإعلان الإنجيل (التعليم الديني المدرسي) إلى الشباب والمراهقين. وفي هذا الجانب، تبدو الممارسات مختلفة جدا، وذلك تبعا للقوميات، ولا تساعد على إيجاد ردود موحدة.ولكن الإلحاح على هذا الموضوع يبقى ناجعا لكل كنسية محلية.
وكما تبيّن لنا، فإن مجال التنشئة يشكّل مكوّناً جوهرياً من مكوّنات واجب التبشير. والتبشير الجديد له ما يقوله في هذا المجال ، إذ يترتب على الكنيسة أن تتابع بقوة وحسم ممارسة التمييز القائمة، وأن تجد القوة الضرورية لتدفع من جديد بالأفراد والجماعات التي تبدي علامات التعب والاستسلام. إن الوجه المستقبلي لجماعاتنا منوط، إلى حد كبير، بالقوى المركزة في العمل التربوي، وبالمبادرات الملموسة والمقترحة والمنفذة بقصد إعادة صياغته ودفعه من جديد.
19- الإعلان الأول من متطلبات الأشكال الجديدة للحديث عن الله.
إن عملية المراجعة لعملية التنشئة الإيمانية قد أظهرت تحدياً قائماً بوضوح في الوضع الحالي: فالتعب المتنامي دائماً، والذي يسم حديث الناس عن الله، يعترض الخبرات التي تجعلهم منفتحين على مثل هذا الخطاب. والأمر يتعلق بصعوبة تجابه الكنيسة منذ زمن طويل، وهي لم تكتفي بالإشارة إليها، بل وجدت لها جزءا من الإجابة. ولمجابهة هذا التحدي،وضع البابا بنديكتوس السادس عشر الكنيسة أمام ضرورة إيجاد طرق جديدة لعرض الإيمان المسيحي.وهكذا أضحى الإعلان الأول أداة لعرض وتوضيح المضمون الجوهري لإيماننا.
إن الإعلان الأول الذي سبق وتبنى دروبا جديدة لإدخال الإيمان في عملية إعادة البرمجة القائمة، يتوجه إلى غير المؤمنين إلى الذين يعيشون اللامبالاة الدينية ،ويقوم دوره على واجب التبشير بالإنجيل بشكل عام لهداية الذين لا يعرفون يسوع المسيح.إن التعليم المسيحي المتميز عن الإعلان الأول للإنجيل، يحضر هذا الاهتداء المبدئي من حيث تنشئة المهتدي وضمه إلى الجماعة المسيحية. ومع ذلك، فإن العلاقة بين شكلي خدمة الكلمة، ليس دائماً سهل التحقيق وليس من الضرورة التأكيد عليه بشكل واضح. فالأمر يتعلق بانتباه مزدوج، غالباً ما يكون منسجماً في نفس العمل الرعوي. وكثيراً ما يحصل بالفعل، أن يكون الأشخاص المنضمين إلى التعليم بحاجة إلى عيش اهتداء حقيقي. وبهذه الطريقة يشجع الإعلان الجديد الأشكال المعتادة لتنشئة الإيمان مؤكداً على طابعها التبشيري.
إذن، قد تمت صياغة أول رد مباشر على التحدي المطروح.ولكن علاوة على الرد المباشر، فإن التمييز الذي نحققه يتطلب منا الوقوف لبرهة لكي نفهم بشكل أعمق سبب ابتعاد ثقافتنا عن الحديث عن الله. ويجدر بنا التأكد إلى أي مدى يمكن لوضع كهذا، أن يسترعي اهتمام الجماعات المسيحية نفسها. وهذا ضروري على وجه الخصوص من أجل البحث عن الطرق والأدوات التي تساعدنا في تحضير أحاديث عن الله، تحسن التعبير عما ينتظره البشر اليوم ويخافونه، مظهرة لهم كيف أن الجدة التي يمثلها المسيح، هي الهبة التي ننتظرها كلنا والتي يتوق إليها كل إنسان في بحثه عن المعنى لحياته وفي عطشه إلى الحقيقة.وهكذا فإن نسيان الحديث عن الله سيتحول إلى مناسبة لعمل إرسالي. وستدلنا الحياة اليومية على مكان ” رواق الأمم ” الذي فيه تصبح كلماتنا أكثر قدرة على الإسماع، وأكثر بلاغة وأكثر فائدة للإنسانية. الهدف من “التبشير الجديد” هو قيادة المسيحيين الممارسين، وأولئك الذين يتساءلون حول موضوع الله ويبحثون عنه، إلى سماع ندائه الشخصي لهم في ضمائرهم. إنه دعوة الجماعات المسيحية إلى ثقة أكبر بالروح القدس الذي يقودها إلى قلب التاريخ. وهكذا تصبح هذه الجماعات قادرة على الانتصار على مخاوفها، وسترى بوضوح أكبر المجالات والطرق التي تساعد على وضع الله في وسط حياة الناس اليوم.
20- تنشئة الإيمان، التدريب على بلوغ الحقيقة.
إن الحديث عن الله يستدعي وبقوة ضرورة الحديث عن الإنسان. فالتبشير الجديد يفترض ذلك، لأن هناك علاقة قوية بين تنشئة الإيمان وبين التربية. هذا ما درج على تأكيده المجمع الفاتيكاني الثاني. وقد أعاد البابا بنديكتوس السادس عشر إطلاق هذه القناعة: “يشكك البعض اليوم في التزام الكنيسة بالتربية، متسائلين فيما إذا لم يكن من الأفضل استخدام مواردها في مجالات أخرى……………… فرسالة الإعلان الأول الذي تلعب فيه المؤسسات التربوية دوراً حاسماً ينسجم مع الطموح الأساسي للأمة في تطوير مجتمع لائق بكرامة الشخص البشري. ومع ذلك،نجد أحياناً أن قيمة مساهمة الكنيسة في النقاش الجماهيري هو موضوع بحث. ولذلك كان من الضروري التذكير بأن الإيمان والعقل لا يتعارضان ابداً فيما بينهما”. فالكنيسة تطهر العقل بالوحي، وتساعده على معرفة الحقائق العظمى كأساس للأخلاق الإنسانية، وهي بطبيعتها تدعم القيم الأخلاقية الجوهرية وتحافظ على الرجاء حياً في قلوب البشر.
تعدد كلمات البابا بنديكتوس السادس عشر الدوافع التي من اجلها كان من الطبيعي أن يكون التبشير والتنشئة الإيمانية والتلقين مصحوبة بعمل تربوي تقدمه الكنيسة لخدمة العالم.ونحن مدعوون اليوم إلى تحقيق هذه المهمة في سياق ثقافي تبدو فيه كل أشكال العمل التربوي أكثر صعوبة وإحراجا، لدرجة أن البابا نفسه يتحدث عن “ضرورة تربوية ملحة”.
ويريد البابا من خلال هذه العبارة الإشارة إلى الصعوبات المتنامية دائما والتي يصطدم بها، ليس العمل التربوي المسيحي فقط، بل كل عمل تربوي.ولقد كان من الصعب دائما نقل القيم الأساسية إلى الأجيال الجديدة عن الوجود وعن التصرف المسيحي المستقيم.ويختبر الوالدون والمربون المرشحون لهذه المهمة هذه الصعوبات ابتداء من المدرسة، عندما يرون تأثيرهم يضعف أكثر فأكثر في العملية التربوية.
إن مثل هذا الانحراف متوقع إلى حد ما مع غياب نور الحق في مجتمع وثقافة يؤمنان بالنسبية.فالحديث عن الحقيقة صار يعتبر”سلطوياً” لدرجة بتنا معها نشك بصلاح الحياة –(ونطرح تساؤلات: هل من الجيد أن يكون المرء إنسانا؟ وهل من الجيد أن نحيا؟) – وبصلاح العلاقات والالتزامات التي تكون الحياة.في مثل هذا السياق – كيف سيكون ممكنا أن نعرض على الأصغر سنا، أو أن ننقل من جيل إلى جيل شيئا موثوقا وذا قيمة، أو قواعد للحياة أو معنى أصيلا أو أهدافاً مقنعة للوجود الإنساني كأفراد أو جماعات؟ لذلك فإن الميل المبالغ به في التربية، والمتمثل في التقليل من نقل المهارات أو القدرات على حساب إرضاء الرغبة في السعادة عند الأجيال الجديدة عبر إغراقها بقيم وأهداف استهلاكية وبمكافآت سريعة الزوال، سيدفع بالوالدين والمربين بسهولة إلى التفكير بالتخلي عن مهمتهم التربوية، وحتى إلى عدم محاولة فهم دورهم والرسالة الموكلة إليهم.
هنا تكمن ضرورة التربية :فنحن لم نعد قادرين على أن نقدم للشباب وللأجيال الجديدة ما علينا أن ننقله لهم.نحن مدينون لهم بقيم حقيقية تعطي أساسا للحياة.إن الهدف الجوهري الذي هو تكوين الإنسان وجعله أقدر على عيش ملء الحياة والمساهمة في خير الجماعة،ينتهي إلى الضياع في غياهب التجاهل والنسيان.ولذلك بتنا نشهد إلحاحا في الطلب المتنامي لتربية أصيلة، ولاكتشاف الحاجة إلى مربين يكونون كذلك فعلا.إن هذا الطلب يعني الأهل( المهتمين والخائفين على مستقبل أولادهم) والمربين (الذين يشعرون بتراجع المدارس) والمجتمع نفسه الذي بات يشهد انهيار أسس الحياة المشتركة.
في هذا السياق، يشكل التزام الكنيسة بالتنشئة الإيمانية،بهدف أتباع الرب والشهادة له أكثر من أي وقت مضى، مساهمة لإخراج المجتمع الذي نعيش فيه من الأزمة التربوية التي تعصف به، من خلال كبح جماح قلة الثقة وأشكال احتقار الذات التي يبدو انها صارت سمة مميزة لبعض الثقافات.ويقدم هذا الالتزام فرصة للمسيحيين لملء الفراغ في مجتمعنا، وإدراج موضوع الله من جديد، وتقديم هبة تقليدهم التربوي الذي هو من ثمار عمل الجماعات المسيحية في هذا المجال، مقادة بالروح القدس.
وفي هذا الصدد، تمتلك الكنيسة تقليدا أو بالأحرى رأس مال تاريخي من الوسائل التربوية والتفكير والبحث والمؤسسات والأشخاص – المكرسين أو غير المكرسين والمجتمعين في رهبانيات أو جمعيات – قادرة على إثبات وجودها في عالم المدرسة والتربية. علاوة على ذلك، فإن رأس مال الكنيسة التربوي هذا والذي يهتم بالتحولات الاجتماعية والثقافية الحاضرة، قد عرف هو أيضا تغيرات هامة؛وبالتالي من المفيد أيضا أن يكون لدينا قدرة على التمييز في هذا المجال لتحديد الأمور الحرجة الناجمة عن هذه التحولات.ومن هنا كان علينا أن نعرف نقاط القوة التي لدينا والتحديات التي تحتاج إلى تعليم مناسب عارفين أن التنشئة الإيمانية والشهادة والمساعدة على إقامة علاقة حية مع المسيح ومع الآب هي الرسالة الأساسية لكل الكنيسة.
21- الغرض من احترام الكيان الطبيعي للشخص البشري.
يمكن بسهولة تحديد الهدف من كل هذا الالتزام التربوي للكنيسة.وهو بناء ما قصده البابا بنديكتوس السادس عشر بعبارة “احترام الكيان الطبيعي للشخص البشري”.إن الفهم الجيد للكيان الطبيعي للشخص البشري شيء ضروري………… فالنقطة الفصل تكمن في احترام المجتمع برمته؟وإذا لم يتم احترام الحق في الحياة وفي الموت الطبيعي، وإذا تمت التضحية بالجنين البشري لأجل البحث العلمي، سينتهي الضمير الجماعي ومفهوم الكيان الطبيعي للإنسان وللبيئة المحيطة. وبالتالي سيضحي الطلب من الأجيال الجديدة أن تحترم الوسط الطبيعي متناقضا عندما لا تتلقى هذه الأجيال الدعم التربوي والقانوني لمساعدتها على احترام نفسها. إن كتاب الطبيعة واحد لا يتجزأ سواء كان الأمر متعلقا بالبيئة أو بالحياة أو بالعلاقة الجنسية أو بالزواج أو بالأسرة أو بالعلاقات الاجتماعية ؛ باختصار، بكل نواحي النمو الإنساني. إن واجباتنا تجاه البيئة مرتبطة بواجباتنا تجاه الشخص البشري بذاته وفي علاقته مع الآخرين.وكثيرا ما يحصل أن نؤكد على احترام بعض هذه الواجبات ونهمل البعض الآخر مع ما يشكل ذلك من تناقض خطير بين الفكر والتطبيق العملي القائم مما يذل الإنسان ويشوش البيئة ويخرّب المجتمع”.
يساعد الإيمان المسيحي الفكر في فهم التوازن العميق الذي ينظم بنية الوجود وتاريخه.ولا ينفذ الإيمان عمله هذا بطريقة باطنية أو خارجية، بل بمشاركة العقل وتعطشه إلى المعرفة والبحث وتوجيهه إلى ما فيه خير الإنسان والكون.كذلك يساعد الإيمان المسيحي على الفهم العميق لما تنطوي عليه الخبرات الجوهرية للإنسان كما يظهره لنا النص الذي ذكرناه لتونا. إنها مهمة – مهمة الحوار النقدي والتوجيه- تنفذها الكثلكة منذ زمن طويل.ومن أجل ذلك،فقد كانت تحسن دائما من تنظيمها بإنشاء المؤسسات ومراكز الأبحاث والجامعات التي كانت ثمرة محبة أصحاب الغيرة التربوية في الكنائس المحلية.وتقوم هذه المنظمات بعملها في كنف الإطار المشترك للبحث وتطوير المعرفة في مختلف الثقافات والمجتمعات.إن التحولات الاجتماعية والثقافية التي عرضنا لها تطرح أسئلة وتولد تحديات لهذه المؤسسات.إن التمييز الذي هو في أساس التبشير الجديد يدعو إلى الاهتمام بهذا الالتزام الثقافي والتربوي للكنيسة.وبهذه الطريقة نستطيع أن نحدد النقاط الحرجة لهذه التحديات والقواعد التي يجب تطبيقها لتامين مستقبل ليس للكنيسة فقط بل وللإنسان وللإنسانية.
إن النظر إلى هذه الأطر الثقافية كما لو أنها “رواق الوثنيين” والتي تهدف إلى مساعدتهم على عيش دعوتهم الأصيلة في أدراج موضوع الله وخبرة الإيمان المسيحي ضمن قائمة مواضيع العصر الراهن، يشكل فرصة مميزة” للتبشير الجديد “، لكي يجعل منها مكانا لتكوين أشخاص أحرارا وراشدين وقادرين بدورهم على إدراج موضوع الله في حياتهم وفي عملهم وفي أسرهم.
22- مبشرون ومربون لكونهم شهودا.
إن الإلحاح التربوي الذي علينا مجابهته يؤكد بقوة على كلمات قداسة البابا بولس السادس :” يصغي الإنسان المعاصر بطيب خاطر إلى الشهود أكثر من إصغائه للمعلمين، وذلك لأنهم شهود………… وهكذا نرى أن الكنيسة ستبشر العالم بسلوكها وحياتها أي بشهادتها المعاشة بأمانة للرب يسوع في الفقر وفي التجرد والتحرر من سلطان العالم، باختصار”بالقداسة”.ولا يمكن لأي مشروع “للتبشير الجديد” ونقل الإيمان الاستغناء عن هذه الضرورة، أي إيجاد رجال ونساء يؤكدون بسلوكهم على الالتزام الذي يعيشونه بالتبشير.ويشكل هذا النموذج القيمة المضافة التي تؤكد حقيقة إخلاصهم لمضمون ما يعلمونه ولما يطلبونه للحياة.
وتتطلب هذه الحاجة الماسة إلى التربية، المزيد من المربين ليكونوا شهوداً صادقين لهذه الحقائق والقيم التي يمكن أن تبنى عليها الخبرة الشخصية لكل إنسان والمشاريع المشتركة للعيش الاجتماعي أيضا.ولدينا في هذا الصدد أمثلة رائعة؛ ويكفي أن نذكر القديس بولس والقديس باتريك وبونفاس وفرنسوا كزافييه وكيرلس وميتوديوس وتوريبيو دي مونغروفيحو وداميان دي فوستر والطوباوية الأم تيريزا دي كالكوتا.
وتتخذ هذه الحاجة بالنسبة إلى كنيسة اليوم شكل واجب دعم وتدريب لأكبر عدد من الأشخاص الذين،ومنذ مدة طويلة، يلتزمون في مهام التبشير والتربية (أساقفة،كهنة، معلمو تعليم، مربون، والدون).والجماعات المسيحية مدعوة إلى الاعتراف بجميل كل هؤلاء وإلى استثمار أكبر للإمكانات في هذه المهمة ذات الأولوية لمستقبل الكنيسة والإنسانية. ومن الضروري التأكيد بوضوح على الطابع الجوهري لمهمتي التبشير والنقل في كنائسنا. كما انه من واجب الجماعات فرادى أن تعيد النظر في أولويات أعمالها لتركز طاقاتها على هذا الالتزام المشترك الذي هو “التبشير الجديد”.
ولكي ما ينمو الإيمان، يحتاج قبل كل شيء إلى وسط طبيعي هو العائلة؛ المكان الأول للتربية والصلاة. فالتنشئة الإيمانية، وخاصة منها تلك المتعلقة بتربية الطفل على الصلاة، تتحقق في الوسط الأسري. فالصلاة مع الطفل تساعد الوالدين على تعويده على الإحساس بحضور الرب المحب ويساعدهما حتى يكونا شاهدين جديرين بالثقة أمام الطفل.
ولا تقتصر التربية والاهتمام التي بهما نساعد المبشرين النشيطين على مجرد تحضير تقني مهما كان ضروريا، بل تتسع لتشمل استدعاء طاقات جديدة كالتربية الروحية على ضوء إنجيل يسوع لاختبار أبوة الآب بقيادة الروح القدس. فالوحيد القادر على التبشير هو ذاك الذي يدع نفسه يبشر ويكون قادرا على التجدد روحيا من خلال التناول ولقاء يسوع.وهكذا يستطيع أن ينقل الإيمان كما يقول القديس بولس:” آمنت، لذلك أتكلم” (2 كور 4/13).
يشكل التبشير الجديد واجبا وتحديا روحيين. إنه واجب يقع على عاتق المسيحيين الذين يبحثون عن القداسة.وانطلاقا من هذا الفهم للتنشئة، سيكون من المفيد تخصيص مكان وزمان للحديث عن المؤسسات والإمكانات التي بتصرف الكنائس المحلية لجعل المعمدين واعين لالتزامهم الإرسالي والتبشيري ولمواجهة سيناريوهات التبشير الجديد.وحتى يكون للشهود مصداقية حيال سيناريوهات التبشير بالإنجيل، عليهم أن يحسنوا استخدام لغة عصرهم وأن يعلنوا،انطلاقا من الداخل، عن أسباب الرجاء الذي يحييهم (راجع بطرس 3/15). وطبعا لا يمكن لمثل هذه المهمة أن تكون عفوية، بل تتطلب انتباها وتربية واهتماما.
أسئلة
يفرض مشروع التبشير الجديد نفسه كأسلوب لاختبار كل المجالات التي بتصرف الكنيسة من أجل تبشير العالم بالإنجيل.
1- فهل صار الإعلان الأول معروفاً ومنتشراً في الجماعات المسيحية؟
2- هل أعدت الجماعات المسيحية نشاطات رعوية غايتها الدعوة إلى اعتناق الإنجيل والاهتداء إلى المسيحية؟
3- ثم، وبشكل عام، كيف تصرفت الجماعات المسيحية فرادى حيال ضرورة إعداد طرق جديدة للحديث عن الله في المجتمع وفي داخل جماعاتنا نفسها؟ وما الخبرات العامة التي من المفيد مشاركة الكنائس الأخرى بها؟
4- كيف تم تطبيق وتطوير مشروع “رواق الوثنيين” في مختلف الكنائس المحلية؟
5- ما مستوى أولوية الالتزام بالطرق الحديثة للتبشير التي تبنتها الجماعات المسيحية ؟ وما هي المبادرات التبشيرية الأكثر نجاحا فيها؟
6- ما هي الخبرات والمؤسسات والمجموعات التي ولدت أو انتشرت بهدف التبشير السلمي الهادئ بالإنجيل في العالم ؟
7- ما هي أوجه التعاون بين الجماعات الرعوية وهذه الخدمات الجديدة؟
جندت الكنيسة الكثير من الطاقات لإعادة هيكلة مسيراتها الخاصة للتنشئة الإيمانية.
8- إلى أي مدى تم استخدام التنشئة المسيحية للشباب كنموذج لإعادة التفكير بطرق التنشئة في جماعاتنا؟
9- إلى أي حد وبأية طريقة تم تبني أداة التنشئة المسيحية ؟ وكيف ساعدت التفكير الجديد حول الحياة الرعوية وعن المعمودية والتثبيت والافخارستيا؟
10- تمنح الكنائس الكاثوليكية الشرقية أسرار التنشئة المسيحية للطفل دفعة واحدة.فما هي خصوصيات هذه الطريقة وغناها؟ وكيف تشعر أنها معنية بالتغيرات الحالية في الكنيسة فيما يخص التنشئة المسيحية؟
11- كيف أثرت التلمذة للمعمودية على مراجعة التحضير للأسرار وحولتها إلى تنشئة مسيحية قادرة على جعل مختلف أعضاء الجماعة، وخاصة الشباب، يشعرون أنهم معنيون بها ؟ وكيف وقفت الجماعات المسيحية إلى جانب الوالدين في مهمة نقل الإيمان التي تزداد صعوبة مع الأيام؟
12- ما هي التطورات التي عرفها سر التثبيت عبر هذا المسير وتبعا لأية دوافع؟
13- كيف استطاعت الجماعات المسيحية ان تعطي لوسائل التدريب على الأسرار شكلا ملموسا؟
14- إلى أي مدى نجحت الجماعات المسيحية بتحويل التنشئة الإيمانية إلى مسألة تخص الشباب وتتوجه إليهم مجنبة إياها محظور التوجه الحصري إلى سن الطفولة؟
15- هل الكنائس المحلية هي في صدد التفكير بوضوح بدور البشارة وبضرورة بذل اهتمام أكبر لولادة الايمان و رعويات المعمودية؟
16- هل تم تجاوز نقل مهمة التنشئة الإيمانية من الجماعات الرعوية إلى منظمات دينية أخرى (كالمؤسسات المدرسية غير مميزين بين طرق التنشئة الإيمانية وأشكال من التربية الثقافية للحقيقة الدينية)؟
17- بأي وعي وأي استعداد استقبلت كنائسنا هذا التحدي؟
18- وبأي طريقة يرد وجود المؤسسات الكاثوليكية في عالم التدريس على هذا التحدي؟ما التحولات التي تهم هذه المؤسسات؟وما الإمكانات التي لديها لترد على هذا التحدي؟
19- ما الرابط بين هذه المؤسسات والمؤسسات الكنسية الأخرى وبينها وبين الحياة الرعوية؟
20- كيف يمكن لهذه المؤسسات أن تسمع صوتها في الوسط الثقافي الاجتماعي من خلال إغناء النقاش والحركات الثقافية والفكرية بخبرة الإيمان المسيحي ؟
21- ما هي العلاقة بين هذه المؤسسات الكاثوليكية والمؤسسات التربوية الأخرى وبينها وبين المجتمع ؟
22- كيف توصلت المؤسسات الثقافية الكبرى (جامعات كاثوليكية،مراكز ثقافية،مراكز أبحاث)التي هي من إرثنا التاريخي، إلى إعلان رأيها في الحوار الذي يتناول القيم الجوهرية للإنسان (الدفاع عن الحياة، عن الأسرة، عن السلام، عن العدالة،عن التضامن،عن التكاثر)؟
23- كيف استطاعت هذه المؤسسات أن تكون الأداة التي تساعد الإنسان على توسيع حدود فكره والبحث عن الحقيقة والتعرف على آثار مخطط الله الذي يعطي معنى لتاريخنا ؟ وكيف ساعدت الجماعات المسيحية على الإصغاء للتساؤلات والرغبات العميقة التي تعبر عنها الثقافة اليوم وفهمها؟
24- إلى أي حد ترى هذه المؤسسات نفسها في وسط الاختبار المسمى :”رواق الوثنيين”؟ أي هل استطاعت أن تكون ساحة يمارس فيها المسيحيون بشجاعة أشكالا من الحوار تكشف عن أعمق رغبات الإنسان وتعطشه إلى الله،وتعمل على إدراج موضوع الله في صميم هذا السياق، من خلال مشاركة الآخرين خبراتهم في البحث، وتقديم اللقاء بإنجيل يسوع المسيح على انه هبة؟
يتطلب مشروع الإعلان الجديد أشكالا ومسارات للتدريب على البشارة والشهادة
25 – كيف تعيش الجماعات المسيحية الحاجة الملحة لدعوة الأشخاص وتدريبهم ودعمهم لأنهم، كشهود، سيعرفون كيف يكونون مبشرين ومربين؟
26- ما الخدمات التي رأتها الكنائس تظهر(او شجعت عليها) لهذه الغاية التبشيرية؟
27- ما هو تأثير حيوية بعض الحركات والشخصيات الكاريزمية على الرعايا؟
28- خلال العقود الأخيرة، جعلت الكثير من الاجتماعات الأسقفية من الرسالة ومن التبشير بالإنجيل عناصر مركزية وذات أولوية لمشاريعها الرعوية. فما كانت نتائج ذلك ؟ وكيف جعلت الجماعات المسيحية تتحمس لهذا التحدي التبشيري؟
29- كيف ساعد هذا التركيز على “التبشير الجديد” على إعادة النظر في طرق تنشئة المرشحين إلى الكهنوت وتنظيمها؟وكيف أعادت مختلف المؤسسات المكلفة بهذه التنشئة(مدارس إكليريكية في الأبرشيات أو المناطق المدارة من قبل الرهبانيات) قراءة ومطابقة أنظمتها الحياتية مع هذه الأولوية؟
30- كيف وجدت خدمة الشماسية المعادة حديثا إلى العمل، في هذا التكليف الإنجيلي واحدا من معاني هويتها؟
خاتمة
“وستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم”(أعمال 1/8)
23- العنصرة هي انطلاقة التبشير الجديد.
عندما جاء بيننا، وهبنا يسوع الحياة الإلهية التي تحول وجه الأرض وتجعله جديدا (راجع رؤيا 21/5) ولم يجعل منا الوحي مجرد مستفيدين من الخلاص بل مبشرين وشهود له. وأعطانا روح القائم من الأموات القدرة على إعلان الإنجيل بقوة في العالم كله. هذه هي خبرة الجماعة المسيحية الأولى التي رأت الكلمة تنتشر بالوعظ والشهادة(أعمال 6/7).
وعلى الصعيد التاريخي،فقد بدأ الإعلان الأول للبشارة يوم العنصرة عندما تلقى الرسل الروح القدس وهم مجتمعون في مكان واحد للصلاة مع مريم ام يسوع الممتلئة نعمة على حد قول الملاك.وكانت مريم موجودة أيضا على دروب التبشير الرسولي وعلى باقي الدروب التي عبرها خلفاء الرسل للتبشير بالإنجيل.
فالتبشير الجديد لا يعني أن هناك “انجيل جديد” لأن يسوع المسيح هو هو أمس واليوم وإلى الأبد (عبرانيين 13/8).إن التبشير الجديد يعني: الرد المناسب على علامات الأزمنة وعلى حاجات البشر والشعوب اليوم وعلى كل السيناريوهات التي ترسم ملامح الثقافة التي نكتشف من خلالها هوياتنا ونبحث فيها عن معاني وجودنا. إذن فالتبشير الجديد يسلط الضوء على ثقافة متجذرة بعمق في الإنجيل: وذلك يعني اكتشاف الإنسان الجديد الذي فينا بفضل الروح القدس الذي وهبه لنا الآب بيسوع.فليكن التحضير للمجمع العام العادي لسينودس الأساقفة وانعقاده “علية” جديدة حيث يعد خلفاء الرسل طرق التبشير الجديد متحدين بالصلاة مع أم المسيح التي سبق وأطلق عليها لقب نجمة التبشير الجديد.
24-“التبشير الجديد” رؤية لكنيسة اليوم وكنيسة الغد.
تحدثنا في هذه الصفحات عن التبشير الجديد.وفي نهاية هذه الوثيقة، لا بأس من التذكير بالمعنى العميق لهذه التسمية وللدعوة التي تتضمنها.وسنترك هذه المهمة للبابا يوحنا بولس الثاني الذي طالما دعم هذا المصطلح ونشره.”التبشير الجديد يعني انه علينا أن نعيش في قلوبنا مشاعر بولس المتأججة؛” الويل لي إن لم أبشر!”(1كور 9/16).إن هذا الشغف بالتبشير سيخلق في الكنيسة روحا إرسالياً جديداً غير محصور في جماعة من الاختصاصيين، بل يجب أن يتسع ليشمل كل أعضاء شعب الله. فالذي التقى حقا بالمسيح لا يمكنه الاحتفاظ به لنفسه فقط،بل عليه أن يبشر به.ونحن بحاجة إلى اندفاع رسولي جديد يكون معاشا بشكل التزام يومي للجماعات المسيحية”.
تحدثنا كثيرا في هذا النص عن التحولات التي تحصل في العالم،وجابهنا سيناريوهات عديدة لتحولات تاريخية كثيرا ما تثير فينا الخوف. إن ما نحتاجه في مثل هذا الوضع هو رؤية تساعدنا على النظر إلى المستقبل بعيون الرجاء بعيدا عن دموع اليأس. وككنيسة، فنحن نمتلك هذه الرؤية. إنه الملكوت الآتي الذي بشرنا به يسوع المسيح ووصفه لنا من خلال أمثاله. إنه الملكوت الذي رأى النور مع بداية تبشير يسوع وخاصة مع موته وقيامته. ومع ذلك، فلطالما كان لدينا الانطباع بعدم القدرة على تجسيد هذه الرؤية واعتناقها وجعلها حية لنا ولمعاصرينا وأساسا لعملنا الرعوي ولحياتنا الكنسية.وبهذا الخصوص،فقد قدم لنا المجمع الفاتيكاني الثاني وكذلك الباباوات توجيها مفصلا لعمل رعوي حاضر ومستقبلي بعنوان :”التبشير الجديد، أي الإعلان الجديد لرسالة يسوع التي ستعيد لنا الفرح وتحررنا.ويمكن لهذا الشعار ان يكون أساسا لهذه الرؤية التي نشعر بضرورتها:رؤية كنيسة مبشرة انطلقنا منها في بداية هذا النص وهي تشكل المهمة الموكلة إلينا في نهايته.إن الهدف من كل التمييز الذي نحن مدعوون لتأكيده هو أن تتجذر هذه الرؤية في قلب كل واحد منا وفي قلوب كنائسنا لخدمة العالم.
25- فرح البشارة
إن التبشير الجديد يعني ان نشارك العالم آلام خلاصه وندافع عن إيماننا وننقل كلمة الرجاء (راجع1بطرس3/15). فالبشر يحتاجون إلى الرجاء ليعيشوا حاضرهم. ومحتوى هذا الرجاء هو “الله الذي اتخذ وجهاً بشرياً والذي أحبنا إلى النهاية”.ومن هنا كانت الطبيعة الإرسالية للكنيسة ؛ إذ لا يمكننا الاحتفاظ لأنفسنا بكلمة الحياة الأبدية التي أعطيت لنا عندما التقينا يسوع المسيح.فهي كلمة موجهة إلى كل البشر.وكل إنسان في هذا العصر يحتاج لهذه البشارة سواء عرف ذلك ام لم يعرفه.
إن غياب هذا الوعي يخلق الفراغ واليأس في القلوب.وإحدى عقبات التبشير الجديد هي غياب الفرح والرجاء الذي ينسجم مع هذه المواقف وينتشر بين الناس في عصرنا.وغالبا ما يكون غياب الرجاء من العمق والقوة لدرجة أنه يغزو نسيج جماعاتنا المسيحية بالذات. وفي هذا السياق يعرض التبشير الجديد نفسه ليس كواجب وكعبء إضافي يجب أن نحمله، بل كعلاج قادر على إعطاء الفرح والحياة لوقائع هي سجينة مخاوفنا.
لذلك علينا أن نواجه التبشير الجديد بحماس وأن نتعلم فرح البشارة العذب والمشجّع حتى عندما يبدو أنها لا تبذر سوى الدموع (راجع مز 126/6).”فليكن ذلك لنا – كما كان ليوحنا المعمدان وللرسولين بطرس وبولس وللمبشرين في تاريخ الكنيسة- قوة واندفاعا لا يمكن لأحد أو لشيء أن يطفئه.ليكن هذا التبشير فرحا في حياتنا التي نبذلها حتى يستطيع العالم الذي يبحث أحياناً في الحزن وأحياناً في الرجاء، أن يتلقى البشارة الحسنة لا من مبشرين حزانى ويائسين وقليلي صبر وقلقين، بل من خدام للإنجيل تفيض حياتهم همة ونشاطا لأنهم سبق لهم وتلقوا فرح المسيح فيهم، وهم يقبلون المغامرة بحياتهم كي يبّشر بالملكوت وتغرس الكنيسة في قلب العالم”.