الفاتيكاني الثاني.. 50 عاما على العلاقات مع الإسلام والمسلمين

إميل أمين – الشرق الأوسط

في الذكرى السنوية الخمسين لانعقاد أهم حدث جرى في تاريخ الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في القرن العشرين، ويعني بذلك انعقاد ما يعرف بـ«المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني»، ففي الحادي عشر من أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1962 افتتحت أولى دوراته وذلك في عهد سعيد الذكر البابا يوحنا الثالث والعشرين، والذي دعا إلى انعقاده في 25 يناير (كانون الثاني) لسنة 1959، ولم يقدر له إكمال أعماله، فقد انتهت دوراته في 8 ديسمبر (كانون الأول) لسنة 1965 في عهد الراحل البابا بولس السادس.

أسئلة كثيرة في واقع الحال تستدعى من رحم التاريخ في هذه الذكرى وفي مقدمتها لماذا هو حدث مهم للغاية للكنيسة لا سيما في سياق علاقتها بالديانتين الإبراهيميتين، اليهودية والإسلام؟ يلزمنا بداية الإشارة إلى معنى المجمع والهدف منه والملابسات التاريخية لانعقاده، لا سيما أن الكنيسة الكاثوليكية تسير على هديه حتى الساعة في الخامس والعشرين من يناير 1959 أعلن البابا يوحنا الثالث والعشرون عقد المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني من أجل أن يحقق تجديدا في الكنيسة الكاثوليكية وفق مطالب العصر Aggiornamento وأن يجري مزيدا من الضبط، وأن يواجه مطالب الساعة، مما يترتب عليه بداهة، ليس تغيرات في العقائد، ولكن سلوك في تقديمها لتتماشى أكثر مع أوضاع العالم الحديث إذ إنه منذ عدة قرون، طرأ تغيير عميق على الإطار التاريخي والاجتماعي المحيط بالكنيسة.

ما الذي تعنيه لفظه «مجمع»؟ يعد المجمع حدثا استثنائيا في تاريخ الكنيسة ففيه يستجيب رعاتها ورؤساء أديرتها ونخبة لاهوتييها وأبناؤها العلمانيون النابغون لنداء الحبر الروماني، لبحث شؤون الكنيسة في الظروف الراهنة.

وعليه فالمجمع المسكوني هو أعلى سلطة دينية، وهو أبرز مظهر من مظاهر الكنيسة وحيويتها عبر الأجيال، ودائما ما كانت الكنيسة تلجأ لفكرة انعقاد المجامع عندما تحدق بها أخطار مفزعة، وقد كان أول مجمع عقد في نيقيه سنة 325م. وآخرها المجمع الفاتيكاني الثاني (1962 – 1965).

ما الذي يميز هذا المجمع عن المجامع السابقة؟ ولعل ما يميز المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، أنه خطا خطوة جديدة في تاريخ المجامع المسكونية، أنه لم يهدد ولم يطرد ولم يحرم ولم يتطرق إلى إعلان عقيدة إيمانية كالمجامع السابقة، بل امتاز عنها كثيرا لكونه حمل الكنيسة على إلقاء نظرة إلى ذاتها من الداخل، ليتسنى لها أن تبعث في جنباتها حيوية تتجاوب مع مقتضيات العصر فتقوى حينذاك على بعث حيويتها إلى الخارج.

في كلمته الافتتاحية كان البابا يوحنا الثالث والعشرون يؤكد على أن الهدف من هذا المجمع هو إزالة ملامح الشيخوخة من على وجه الكنيسة بعد ألفي عام تقريبا من قيامها وإعادة بهائها وشبابها إليها، وإذا أردنا أن نلقى ضوءا على أهداف المجمع كما أوجزها البابا كبير العمر والذي اشتهر بملامحه الإنسانية وطيبة قلبه، فيمكن تلخيصها في عدة نقاط لعل من أهمها: تقديم رؤية إيجابية لعلاقات الكنيسة مع العالم الحديث. والانفتاح الخلاق على الأديان الإبراهيمية وعلى المذاهب الوضعية حول العالم. وترتب وإصلاح المسائل الطقسية والروحية في المؤسسة الكاثوليكية. وإنهاء نظام الحرومات الكنسية (أناثيما). والتأكيد على حقوق الإنسان الأساسية في مجال الحريات الدينية.

لماذا هذا المجمع تحديدا علامة متميزة في علاقة الكنيسة مع العالم الإسلامي والإسلام بشكل عام؟

باختصار غير مخل لأنه كان أول مجمع يحدد شكل هذه العلاقة على نحو إيجابي مجافٍ ومنافٍ للكثير من الخلافات والرؤى الدوجمائية السابقة عبر عصور طوال.. كيف ذلك؟ لقد خرج عن هذا المجمع تصريح عن علاقة الكنيسة مع الديانات غير المسيحية، وجاء صدوره تلبية لرغبة البابا الداعي للمجمع، وعبر عنها الكاردينال بيا، رئيس سكرتارية الوحدة المسيحية، وهدف البابا من هذا التصريح أن يستأصل كل جذور الكراهية والحقد التي طالما تسببت في الاضطهادات، وخاصة عندما تتخذ النصوص الدينية ذريعة لذلك.

وجدير بنا أن نمعن النظر في الفقرة التي أشارت إلى الدين الإسلامي وأن نتملاها، فهي حدث تاريخي جلل ومهم لأبعد حدود، فلأول مرة عبر التاريخ تعلن الكنيسة الكاثوليكية عن موقفها إزاء المبادئ الإسلامية الأساسية، في وضوح ودقة، فهي تبدي احترامها للمسلمين، إذ تعترف أن إله القرآن هو حقا الإله الواحد الأحد القيوم الرحمن القدير فاطر السماء والأرض.. وليس هو إله الفلاسفة بل إله إبراهيم، وإله الوحي الذي كلم البشر. ويشير النص إلى تسليم المسلمين لأحكام الله الخفية وقضائه وإن كان المسلمون لا يقرون «إلوهية» المسيح، إلا أنهم يجلونه نبيا ويكرمون أمه مريم العذراء، ويعترفون بالبعث ويوم الحساب والآخرة وفي سلوكهم العملي يجتهدون لاكتساب مكارم الأخلاق.

ويحمل النص المتعلق بالدين الإسلامي دعوة تصالحية غير مسبوقة في الخطاب المسيحي الغربي من قبل إذ يقول «ولئن كان عبر الزمان قد وقعت من المنازعات والعداوات بين المسيحيين والمسلمين، فإن المجمع يهيب بالجميع أن ينسوا الماضي، وأن يعملوا باجتهاد صادق سبيلا للتفاهم فيما بينهم، وأن يتماسكوا من أجل جميع الناس على حماية وتعزيز العدالة الاجتماعية والقيم الأدبية والسلام والحرية». على أن ذلك المجمع وإن كان قد مثل نقطة التقاء غير مسبوقة مع العالم الإسلامي إلا أنه أثار تساؤلات عند الكثيرين فيه ومنه بشأن علاقة المسيحية الكاثوليكية باليهود واليهودية، لا سيما أن هناك من يرى أن هذا المجمع قد رفع عن اليهود وزر دم السيد المسيح، وأعطى أولئك براءة من جرمهم المشهود عبر ألفي عام، وهو أمر لم يسبب التباسا عند المسلمين فقط، بل كذلك لكثير من المسيحيين من أتباع المذاهب الأرثوذكسية الشرقية.. ماذا عن هذا الإشكال اللاهوتي – التاريخي المعقد؟

الشاهد أن الفقرة الخاصة بالدين اليهودي تذكر أن الكنيسة لا تنكر أن جذور إيمانها تمتد إلى الآباء الأولين، وإلى موسى والأنبياء خلال العهد القديم، ونظرا لما عرف عبر التاريخ في بعض البلدان المسيحية من عداء للسامية، تذكر الفقرة بانتهاء المسيح الجسدي وانتماء العذراء والرسل والمسيحيين الأول إلى نسل الشعب اليهودي على الرغم من معارضة غالبيته للمسيح وإنجيله، وهذه العبارة الأخيرة لم تذكر في النص الأول إلا في صورة موجزة عابرة ثم عدلت في الصورة النهائية للتصريح تمشيا مع الأحداث التاريخية، التي سجلها الكتاب المقدس، ومنعا لما نعت به النص من تحيز لليهود.

وتدعو الخاتمة أتباع الديانتين الإسلامية واليهودية إلى تبادل الثقة والاحترام من خلال دراسات عميقة لمختلف النصوص الكتابية واللاهوتية، وإقامة حوار أخوي. ولا يفوت النص الإشارة إلى قضية الاضطهادات عبر الأجيال التي أنزلت باليهود، بدافع متعاقب وهو قتل المسيح فيعلن أن «ذوي السلطة عند اليهود وأتباعهم قد حرضوا على قتل المسيح، بيد أن ما ارتكب في آلامه وموته – بحسب المعتقد المسيحي – لا يؤخذ به دون تمييز جميع اليهود الذين عايشوا هذا الزمن أو الذين يعيشون اليوم». ويضيف النص أن أسف الكنيسة لما حدث من اضطهاد ليس مصدره سياسيا، بل بدافع روحي وديني محض.

هل من خلاصة مهمة توضح هذا اللبس الذي ما زال سائدا في كثير من المواقع والمواضع الفكرية والروحية؟ يمكن أن نوجز الأمر فيما يلي: لم يذكر التصريح أبدا، لفظا أو معنى يشتق منه القول بتبرئة اليهود من جريمة التاريخ أو صلب المسيح فذلك حدث تاريخي وحدث أنجيلي.

النص في واقع الأمر لم يزد في كلامه حول الدين اليهودي عما ذكره الإسلام في الدين ذاته بل قد يكون قول الإسلام أكثر وأشمل فيدعو القرآن: «يا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالمينَ» (سورة البقرة -46). «وَلَقَدْ آَتَيْنا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّة وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعالمينَ» (سورة الجاثية: 15).

كان الدافع وراء ما نلمسه من ثناء على الدين اليهودي والإشارة إلى ما بين المسيحية واليهودية من ارتباط كانتساب أتباع المسيح إلى إبراهيم بحسب الإيمان، رغبة المجمع وخاصة رغبة آباء الغرب في تنزيه المسيحية والمسيحيين عبر الأجيال من جرائم تتناقض وتعاليم الإنجيل كما بشر بها السيد المسيح. كما لا يغيب عن البال واجب العمل على إضعاف الزعم الصهيوني الذي يتخذ من عداء السامية عنصرا من عناصر التحجج لبناء وطن قومي عنصري في فلسطين باسم الدعوة لرفع المظالم عن كاهل اليهود بسبب الادعاء بكراهية الشعوب المسيحية للسامية.

يتفق المجمع في تصريحه مع الرأي الذي تنادي به الشعوب العربية والإسلامية، من حيث واجب التمييز بين الديانة اليهودية الموحاة من الله، وبين الصهيونية كصورة من صور العنصرية، كما أن المسيحية تعترف بأنه بعد رسالة السيد المسيح ولد شعب العهد الجديد أي الكنيسة، وعليه فإن القومية اليهودية لم يعد لوجودها معنى شرعي ديني، وتنظر الكنيسة إلى البشر على أنهم إخوة فتسمو فوق حدود القوميات ودوافع السياسة. ولعله من المفيد أن نذكر بأن هذا التصريح قد مر بمراحل عدة، فهو ثمرة اجتهاد طويل ورؤية عميقة، وإحاطة دقيقة لمختلف الملابسات من حوله، وكان موقف البطاركة والمطارنة العرب إزاء التصريح واضحا حاسما حتى لا يمسه تأويل سياسي.

ومما يجدر ذكره أن بعضا من ساسة العرب أدركوا الحقيقة الدينية وراء هذا الموقف وعلى رأسهم الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، إذ رفض تفسيره في غير نطاقه الديني والروحي وأعلن.. أن اجتماع المجمع المسكوني «ليس اجتماعا سياسيا أو عسكريا بل هو اجتماع ضم رجال الدين المسيحي، وليس رؤساء الدول المسيحية»، (صحيفة «الجمهورية» 23 فبراير /شباط ص8 «خطاب عيد الوحدة»). كيف كانت آلية العمل في هذا المجمع الذي لم يعقد بعده مجمع عام في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، التي ترى رجالاتها أن نوره ساطع إلى اليوم ويمتد ربما لخمسين عامة مقبلة؟

في الحادي عشر من أكتوبر سنة 1962، وبعد أن بات كل شيء جاهزا، افتتح البابا يوحنا الثالث والعشرين أعمال المجمع في حضور ما يقرب من ألفين وستمائة وستين من الكرادلة والبطاركة ورؤساء الأساقفة ورؤساء الرهبنات الكبرى الوافدين من جميع أنحاء العالم. وتتابعت الجلسات العامة على مدى سنوات المجمع، وخلالها انبرى الآباء لمناقشة المسودات الواحدة تلو الأخرى. وكان لكل من الآباء المشاركين ملء الحق والحرية في مناقشة المسودة بعد أن يقدم طلبا إلى الأمانة العامة.

وبعد الانتهاء من مناقشة المسودة، تعاد إلى اللجنة المختصة لتجري عليها التعديلات المقترحة، ثم يصوت عليها، فإذا حازت المسودة على ثلثي الأصوات قبلت، وإلا أعيدت إلى اللجنة ثانية وثالثة حتى الرابعة إلى أن تفوز بالأغلبية المطلوبة، وحينئذ يعلنها البابا بالاشتراك مع سائر الآباء في جلسة علنية ويوقعونها.. كيف تتذكر الكنيسة الكاثوليكية اليوم هذا الحدث المهم في تاريخها المعاصر؟

في المقابلة العامة للبابا بندكتوس السادس عشر في ساحة القديس بطرس بالفاتيكان نهار الأربعاء 10 أكتوبر 2012 أشار إلى أمر مهم جدا وهو أن المجمع كان نعمة كبيرة استفادت منها الكنيسة في القرن العشرين فهو يقدم لنا بوصلة أمينة لترشدنا على طريق القرن الجديد.

وأضاف «أعتقد أن هذه الصورة معبرة جدا. لا بد من العودة إلى وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني وتحريرها من ثقل المنشورات التي أخفاها بدل من أن يجعلها معروفة، هذه الوثائق هي لأيامنا هذه أيضا، بوصلة تسمح لسفينة الكنيسة أن تتقدم في عرض البحر، في خضم العواصف أو حتى على المياه الهادئة للإبحار والوصول بأمان. ماذا كان ذلك المجمع بإجمال المشهد؟ كان وعبر خمسين عاما دعوة للحب والمسالمة، ونبذ الضغينة والحقد، وكل إنسان طيب الضمير، نقي الإرادة عليه أن يساند تلك الدعوى، وأن يتخذ من تصريح المجمع سلاحا من الفكر الوهاج للإقناع والحوار، بلا خوف أمام الدعاوى الباطلة أو الأساليب الملتوية.