مرت الأيام والأم تسقي وحيدها من ينابيع حنانها وعطائها حتى غدا يافعا تفتخر به وتزهو بشبابه وتألقه.. لكنه أصر في كل مناسبة على إبعادها عن حياته لخجله منها ومن عينها المقلوعة كي لا يحرج بشكلها وإذا تصادف ولمحها احد رفاقه تثور ثائرته ويتفوه بأفظع الألفاظ ويجبرها أن تختفي أمام أصحابه.. تلملم الأم جراح عاهتها في نفسها المطعونة بسيف أغلى الناس، ولا تملك إلا عينا واحدة للبكاء تذرف دمعها بسخاء حزنا على الدنيا واساها. وتدعو لولدها بالهداية وتحاول أن تعوض عن عينها بإغداق حنانها وعطفها.. لكنها اكتشفت أن لا سبيل لا قناع ولدها بقبول عاهتها حين فضل الهروب منها وعنها، وآثر الدراسة في أميركا حيث يتحرر من أمه، وانقطع حتى عن مراسلتها إلا قليلا عندما يحتاج الى المال أو المعونة.. مرت الأيام.. سمعت من أهل لها وأقارب أن ولدها قد تزوج ورزق بأبناء.. هاجت عليها عاطفتها واستجمعت ما تبقى لها من قوة ومال يعينانها على السفر إليه واحتضانه فيفرح هذا القلب المكلوم ولو قليلا بلقياه، وتلقى أحفادها الصغار وقد ذاب قلبها حبا عليهم..!!
حملت ما حملت من هدايا وقصدت البلد البعيد، فتحت لها كنتها الباب، رحبت بها وأسرعت إلى زوجها تبشره بقدوم أمه.. خرج ابنها إليها متجهم الوجه بادرها بفظاظة الولد العاق: لماذا لحقتني إلى هنا؟؟ الم اهرب منك؟؟ ماذا تريدين مني؟؟
كأنها صاعقة نزلت على رأس الأم المسكينة، لم تحتمل الصدمة خرجت من عنده وكادت تقع أرضا.. تحاملت على جرحها.. وعادت إلى بلدها حيث الوحدة والكرامة على نفس الطائرة التي أقلتها إليه..!!
مر الزمن !! صار فيه الولد أباً فعرف قيمة الأم والأب، وفي يقظة ضمير ندم على فظاعته وفظاظته فقرر العودة إلى البلد لزيارة أمه ليستغفرها على فعلته.. قصد بيتها ليفاجأ بأنها رحلت عنه إلى شقة تكاد تكون مأوى لا بيتا، لكن المأوى أيضا مغلق.. سأل الجيران عن أمه! أجابوه: بان أمه قد فارقت الحياة قبل أيام قليلة لكنها تركت له رسالة:
أمسك بالرسالة بيد انتابتها رجفة الحسرة، قرأ فيها:
ولدي الغالي: يعز علي أن أفارق الدنيا دون أن أراك. لكنها رغبتك أن أظل بعيدة عنك كي لا تنحرج برؤية امرأة عوراء.. لكن سأحكي لك حكاية اخفيتها عنك عمرا كي لا احملك منتي.. عندما كنت طفلا صغيرا تعرضت لحادث مريع ذهب بعينك، ولم يكن هناك بديل عن ان اهبك عيني ترى بها الدنيا.. اما انا فتكفيني عين واحدة ارى بها وجهك الغالي.. هي حكاية واقعية.. ولنا ان نخمن نهايتها، وكيف قضى هذا الابن العاق بقية عمره!!..
كان المسيح يقول لي إذا كنت حقاَ تحترم جروحي و ألمي و صلبي و احتمالي العذاب لفدائك على الصليب
إذا كنت تقدر ذلك فعلاً فعليك ان تقدر التعب و العذاب و الألم الذي عاناه أبوك و أمك لكي يربيانك و عليك كما تكرمني أن تكرم أباك و أمك .
هذا ما أطلبه كل يوم من الرب أن يساعدني على نشر سلامه و محبته في العالم أجمع.