الاكليريكية – عيد القديس لاون – 11 / 11 / 2007
” وما وقع من الحَب على أرض طيبة ،
أعطى بعضه مائة وبعضه ستين وبعضه ثلاثين ” ( متى 13 : 8 )
يسعدنى أن أكون معكم فى هذه السنة للاحتفال بعيد شفيع الاكليريكية القديس لاون الكبير.
يدعو الله كل إنسان إلى رسالة خاصة فى الحياة . إنه سر العلاقة الشخصية بين كل إنسان والله . ولكن هذه الدعوة تظهر بصورة جلية عند الذين يدعوهم الرب إلى أن يتركوا كل شىء ليتبعوه عن قـُرب . وفى الاكليريكية يعيش الشماس زمنا جميلا ، كله اكتشاف واندهاش . وأهم ما يكتشفه هو حب الله الخاص له . سيتساءل مرات ومرات فى الصلاة : يا رب ، لماذا أنا ؟ والجواب هو أن الحب ليس فيه لماذا . إنه هبة مجانية ، جوابها الوحيد الصحيح هو تقدمة الذات .
أنتم الآن فى مرحلة التكوين الاكليريكى ، فى مسيرة نحو الكهنوت المقدس . وهذه المرحلة مكرَّسة لمعرفة المسيح معرفة عميقة ، والالتقاء به عن قـُرب ، والاتحاد به اتحادا وثيقا فى المحبة ، والاقتداء به بأمانة فى السير على خطواته . هذه هى الاكليريكية … المكان ضرورى ومهم . وإنما الأهم والأساسى هو ما يعيشه الشاب الاكليريكى فى هذه الفترة الزمنية الحاسمة فى حياته ، ليتحول من تلميذ اعتيادى للمسيح ، إلى مسيح آخر وسط إخوته وأخواته . إنه يشعر بقلبه ممتلئا برجاء كبير ، وبشوق شديد إلى أن يصبح خادما للمسيح المخلـِّص ، ولإخوتة وأخواته . لقد سمع دعوة يسوع : ” اتبعى “. وعلى مثال الرسل ، ترك كل شىء وتبعه .
والاكليريكية هى المرحلة المخصَّصة للتكوين والاختيار . وللتكوين أبعاد متعددة ، تترابط كلها من أجل النمو المتكامل للشخص الواحد . فيشمل التكوين الناحية الانسانية ، والروحية ، والدينية ، والثقافية ، والاجتماعية . ولكن هدفه الأخير وموضوعه الجوهرى ، هو معرفة الله معرفة عميقة ، فى شخص يسوع المسيح الذى وحده يقدر أن يخبر عنه ويعلن لنا وجهه .
من أجل هذا ، يشغل الكتاب المقدس المكانة الرئيسية فى فترة الدراسة والتكوين ، وكذلك العقيدة ، وحياة الكنيسة وتاريخها . وتأتى معها الدراسات الخاصة بالعقل والانسان والمجتمع . وكل ذلك فى تعمّق مستمر للحياة الروحية … قد تبدو هذه الفترة طويلة وشاقة ، ولكنها ضرورية فى مسيرة الالتقاء بالمسيح ، ورسالة البشارة به . فهى تساعد على بناء شخصية ناضجة متزنة ، قادرة على القيام بالخدمة الكهنوتية بصورة مثمرة .
وهنا يقوم المسئولون عن التكوين بدور هام وحاسم . فنوع الحياة الكنسية يتوقف على نوع الكهنة . ونوع الكهنة يتوقف بدرجة كبيرة على التكوين الذى ينالونه فى الاكليريكية … لذلك أريد أن أعبّر اليوم بنوع خاص عن شكرى الجزيل وتقديرى العميق للمسئولين عن الاكليريكية ، سواء فى الإدارة أو التدريس أو الإرشاد الروحى أو التكوين من أى نوع ، وللأخوات الراهبات وللعاملين والعاملات. ولنذكرهم دائما فى صلواتنا ، ليساعدم الرب أن يقوموا برسالتهم بأفضل صورة .
أبنائى الاكليريكيين ، إن السنوات التى تقضونها فى الاكليريكية ثمينة وحاسمة . وهى تتطلب الكثير منكم ، ومن المسئولين عن تكوينكم وتدريسكم ومرافقتكم . فالمهمة التى ستقومون بها فيما بعد سامية ومتطلبة ، والمواجهات التى ستعيشونها شاقة وأحيانا مؤلمة . كما سيكون عليكم أن تعطوا الكثير ، وخصوصا أن تبذلوا ذاتكم على مثال المسيح . وسيكون عليكم أن تواجهوا التحديات ، تحديات من حيث المبادىء ، والمصالح ، والعواطف . فليكن مثال مريم دائما مثالكم ورائدكم : ” أنا خادم للرب ، فليكن لى كما تقول ” ( لوقا 1 : 38 ) .
وفترة الاكليريكية هى ربيع الالتقاء بالمسيح . فهى زمن مسيرة وبحث ، ولكنها خاصة ً زمن اكتشاف المسيح . فالسبيل الوحيد إلى أن يفهم الاكليريكى دعوته ، أى إرادة المسيح ورغباته ، هو أن يختبر الالتقاء به شخصيا . فبمقدار ما تتعرف على المسيح ، بمقدار ما يجذبك بحبه ، وبمقدار ما تلتقى به بمقدار ما تشتاق إلى البحث عنه . إنه نمو روحى يتواصل طوال الحياة ، انطلاقا من الدفعة القوية فى زمن الاكليريكية ، بشرط الاحتفاظ بها حية فاعلة .
زمن الاكليريكية هو زمن معايشة يسوع فى الناصرة . قضى يسوع ثلاثين سنة يستعد لرسالته الخلاصية ، التى لم تزد على ثلاث سنوات . وكان زمن الناصرة تدريبا طويلا . اكتسب فيه يسوع النضج الانسانى والقلب الرحيم . تعلـّم أن يقف طويلا أمام أبيه فى صلاة مستديمة . تبيّن بشكر عمل الله فى التاريخ وفى الطبيعة وفى الأحداث اليومية . قاوم التجربة وكرّر التزامه المطلق بإرادة الآب . لمس آلام الفقراء والمهمَّشين وتضامن معهم وأشفق عليهم . صار اختياره الأول والأخير الثبات فى حب الآب والعمل بإرادته : ” اثبتوا فى محبتى . إذا عملتم بوصاياى تثبتون فى محبتى ، كما عملت بوصايا أبى وأثبت فى محبته”(يوحنا 15 : 9–11). إنه تدريب على الحب ، الحب الأمين ، القوى ، القادر على الثبات حتى النهاية .
فالاكليريكية هى مدرسة القداسة . دعوة كل مسيحى هى أساسا وجذريا دعوة إلى القداسة . ولكن هذه الدعوة موجَّهة بنوع خاص إلى الاكليريكى ، الذى سيصبح كاهنا ، مسيحا آخر . لذلك نصلى ونبتهل إلى الله قائلين : ” أعطنا يا رب كهنة قديسين ” . والقداسة هى فرز من بين العالم ، للحياة لله . والله نفسه هو الذى يفرزكم ويختاركم لهذه الرسالة . عليكم أن تلتقوا به ، أن تعيشوا معه وله . الاكليريكى والكاهن شخص مكرَّس . وهذا معناه رجل صلاة .
وللالتقاء بالمسيح ، لا بد من الدخول إلى بيته ، وهو الكنيسة ، وأعنى بها الكنيسة الحيّة . ففى فترة الاكليريكية ، يكتسب الاكليريكى نضجا خاصا من هذه الناحية ، فلا يعود يرى الكنيسة من الخارج ، وإنما يحس بها من الباطن ، يكتسب ما نسميه الحسّ الكنسى . يدرك أنها بيته وعائلته ومرجعه ، لأنها بيت المسيح ، حيث مريم أمه . يتعلم الاكليريكى أن يكون مرتبطا بالكنيسة ، غيورا عليها ، مسارعا إلى خدمتها ، ملبيا لرغباتها ، مصغيا لصوتها ، حريصا على أن يقدّم عنها وجها مضيئا بهيّا ، يجيب بوضوح وهدوء على سبب الرجاء الذى فيه … وهكذا ينبغى أن يبقى طوال حياته وخدمته الكهنوتية .
ومريم هى التى سترشد الاكليريكى إلى ابنها يسوع وتدله عليه . هى التى تقدّمه له ، وتجعله يراه ، ويلمسه ، ويضمّه إلى قلبه . مريم هى التى تعلـّمه أن يتأمل يسوع بأعين القلب ، وأن يعيش معه ، وأن يلتقى به فى الصلاة، فى الصمت، فى المحبة الأخوية ، وبالأخص فى سر القربان المقدس ، فى القداس الإلهى . وعلى مثال مريم ، المعايشة مع يسوع والعمل بإرادته ، هى سر القداسة . فلتكن محبة المسيح هدفكم الأساسى . فليصبح لكم كل شىء . قدّموا له أثمن ما عندكم : قلبكم ، فكركم ، إرادتكم ، وحبكم .
والاكليريكية هى أيضا زمن استعداد للرسالة . فبعد هذه المرحلة الطويلة والضرورية ، سيرسلكم المسيح لتكونوا له خداما وشركاء ، بل لتقوموا مقامه وسط إخوتكم وأخواتكم . إنها رسالة عظيمة وسامية للغاية . وشعبنا المسيحى يقدّرها أعظم تقدير… وقد أخبرنا يسوع أننا سنقابل مثله صعوبات وضيقات واضطهادات. قد نتعرّض لمخاطر ، وأتعاب ، وخيبات أمل ، وتردد . قد لا نجد من يمسك بيدنا لحظة بلحظة ليدلنا على الطريق كما فى الاكليريكية … ” لا تخافوا ” ، يقول لكم المسيح . هو معكم ، وطالما أنتم معه ستجدون النجم الهادى فى داخلكم ، فى قلبكم .
يسوع هو مثالكم . دعوتكم هى أن تحقـّقوا حضوره . الكاهن يتحدث ويعمل باسمه . إنها مهمة ورسالة فائقة . وهى تتطلب بذل الذات ، بلا حدود ، على مثال المسيح . وذلك فى الفرح ، والتواضع ، والشجاعة ، والثقة . فليمنحكم الله وأمنا العذراء مريم ، أنتم والذين يقومون بتكوينكم ومرافقتكم ، أن تتبيّنوا بجلاء ما يطلبه الله من كل واحد منكم ، وأن تستعدوا أحسن استعداد للعمل به بأمانة وحب .
تذكـّروا دائما كلمات قداسة البابا بولس السادس : ” العالم يستمع بشوق إلى الشهود أكثر من المعلمين . وعندما يستمع إلى المعلمين ، فلأنه يرى فيهم شهودا ” … وتذكـّروا خاصة ً كلمات يسوع : ” اثبتوا فى محبتى ” (يوحنا 15 : 9). فإذا ثبتم فى المسيح ، أتيتم بثمر وفير ، كما أشار يسوع فى إنجيل اليوم . لا تقلقوا ، فهو يقول لكم : ” ما اخترتمونى أنتم ، بل أنا اخترتكم وأقمتكم ، لتذهبوا وتثمروا ويدوم ثمركم ” ( يوحنا 15 : 16 ) … هذا هو سر دعوتكم ورسالتكم .
ونحن المشتركين اليوم فى هذا الاحتفال المبارك ، فلنصلِّ إلى الله بحرارة أن يرسل لكنيسته دعوات مكرَّسة ، للكهنوت المقدس ، وللحياة الرهبانية … عائلاتنا تقيّة ، كنائسنا نشطة ، جمعياتنا حيّة ، مدارسنا ممتلئة … ولكن إيبارشيتنا البطريركية فقيرة للغاية فى الدعوات الكهنوتية والمكرَّسة … لماذا ؟ ربما لأننا لا نصلى بالكفاية . ربما لأننا لا نتكلم مع أبنائنا وبناتنا عن الكهنوت والتكريس ، أو لا نشجّعهم عليه … أكرر دعوتى لكم بأن ترفعوا كل يوم صلاة خاصة من أجل الدعوات الكهنوتية والمكرَّسة . قدّموا القداديس وصلوا المسبحة على هذه النية … وأنا واثق أن الله لن يترك كرمه بلا رعاة .
تهنئتى القلبية للشمامسة المرتسمين اليوم ، ولأساقفتهم الأجلاء ، ولآباء وأسرة الاكليريكية ، ولعائلات المرتسمين الحاضرين معنا ، وعقبال الكهنوت بإذن الله … فلتحفظكم أمنا العذراء مريم بحبها الحنون . التجئوا إليها دائما بثقة ، وهى ستقودكم إلى ابنها يسوع . وثقوا أننى أذكركم دائما فى صلواتى . آمين .