قراءة لزيارة البابا فرنسيس إلى تركيا من قِبل المدبر الرسولي للأرمن الكاثوليك في الأردن والقدس
بقلم د. روبير شعيب
روما, 5 ديسمبر 2014 (زينيت) –
يمكن قراءة زيارة البابا فرنسيس إلى تركيا من وجهات نظر عدة. من الواضح أن الأب الأقدس يسعى جهده لإقامة جسور حوار وتعاون مع المسلمين المعتدلين في العالم. لقد رأينا ذلك في خطابات وبوادر مختلفة. من اللافت أن 4 من الزيارات الرسولية التي قام بها منذ اعتلائه السدة البطرسية كانت إلى دول ذات أغلبية إسلامية: الأردن، فلسطين، ألبانيا وتركيا.
هذا وقد تحدث البابا في طريق العودة إلى روما إلى الصحفيين عما سارر به رئيس الحكومة التركية، رجب طيب أردوغان: “من المستحسن أن يقوم الزعماء المسلمون، من سياسيين، رجال دين أو أكاديميين، بإدانة واضحة للإرهاب وأن يقولوا بوضوح أن هذا ليس الإسلام”. استراتيجية الأب الأقدس هي أن يمنع “صدام الحضارات” والأديان، داعيًا من يؤمن بالخير وبالتعايش إلى الإعلان عن خياراته.
هذا وكان من المتوقع والمرغوب أن يقوم البابا في زيارته بمطالبة تركيا الاعتراف بمجازرها ضد الأرمن. وللتعليق على صمت الأب الأقدس، أقامت زينيت المقابلة أدناه مع المونسينيور جورج دانكاي، رئيس المعهد الحبري الأرمني في روما، ووكيل الكنيسة الأرمنية لدى الكرسي الرسولي والمدبر الرسولي لطائفة الأرمن الكاثوليك في الأردن والقدس.
* * *
لقد اشترطت تركيا أن تكون الزيارة البابوية زيارة سياسية من نوعها، وتم استقبال الأب الأقدس كرئيس دولة. بالطبع، كان لطبيعة وشروط الدولة المضيفة تأثيرها الكبير على خطابات البابا. كيف تقيمون الزيارة كرجل دين أرمني؟
لاقت الزيارة بحد ذاتها نجاحًا كبيرًا. بكل تأكيد، كلٌ يقوم بقراءة خاصة انطلاقًا من وجهة النظر المعتمدة. فهناك من سيرى فيها تشريعًا لزعيم مثير للجدل بسبب اضطلاعه الكبير في الربيع العربي ولأجل دعمه لمجموعات مسلحة متطرفة. وهناك من سيعبّر عن خيبته لأن البابا لم يطالب تركيا بالاعتراف بالجرائم التي ارتكبتها الإمبراطورية العثمانية في مطلع القرن العشرين، وبشكل خاص مجازر الإبادة الأرمنية.
لقد قام البابا، كرئيس أصغر دولة في العالم، وكخليفة القديس بطرس بخيار صعب، ولكنه خيار صائب. ففي السياسة العالمية، كل شيء يتم تبعًا للحسابات والمصالح. والزيارات واللقاءات بين الكبار تتم تبعًا لمراوغات واتفاقات وعقود يتم التوصل إليها قبل اللقاءات. إذا لم يتم التوصل إلى اتفاقات، لا تتم اللقاءات ببساطة. ولهذا قام البابا بخيار صعب، وقبل الزيارة دون أن يضع شروطًا لزيارته، إيمانًا منه بأن اللقاء هو الدواء لكل المسائل والمشاكل.
يعتمد البابا سياسة مختلفة. قد يصعب فهمها، ولمن من المستحسن البدء بالسير في هذا الدرب، نظرًا لأن السبل الأخرى لم تُجد نفعًا.
خلال زيارة البابا إلى رئيس الشؤون الدينية “الديانات” في أنقرة، قال الأب الأقدس أنه يترتب على رجال الدين “أن يستنكروا كل ما يتعرض لكرامة وحقوق الإنسان. فالحياة البشرية، التي هي هبة من الله، لها طابع قدسي. ولهذا فالعنف باسم الدين يستحق أشد الإدانة”. ربما بالنسبة لكم، كأرمن، هذه الكلمات لها وقع خاص جدًا، خصوصًا في ما يتعلق بالعلاقة مع تركيا. كيف تقرأون سكوت البابا عن المجازر الأرمنية وعدم مطالبته بالاعتراف بها؟
بالطبع إن إشارة بذلك الشأن لكانت أفرحتنا كثيرًا كأرمن. لكان في ذلك اعتراف بالكثير من الشهداء. برأي المتواضع، البابا فرنسيس يفضل البوادر حيث لا يمكن الحديث عن موضوع معيّن. والبوادر كانت كثيرة. فالأحاديث تتم حيث هناك قبول وجهوزية. والحديث عن الإبادة الأرمنية تتطلب الحديث عن مجازر بحق جماعات أخرى. أكرر القول أن البابا لم يرد أن تُلغى الزيارة بسبب بعض التفاصيل. علمًا بأن الاعتراف بالإبادة الأرمنية هي مسؤولية تقع على عاتق الجماعة الدولية بأسرها.
هل يمكننا الحديث عن موقف يسعى إلى عدم تعسير أحوال الأقليات المسيحية المُضيّق عليها سلفًا في تركيا، بسبب حكومة إسلامية تسعى إلى زيادة أسلمة المجتمع التركي وتغيير تاريخه العلماني؟
شجاعة البابا لم تنقص. لقد تطرق لمواضيع شائكة: الإرهاب، الاتجار بالأسلحة، ديكتاتوريات القوى العظمى. أعتقد أنه لم يكن لدى البابا صعوبة خاصة لمعالجة هذا الموضوع، إلا أنه فضل إعطاء زيارته طابعًا محددًا وفضل اللقاء وبوادر الإرادة الطيبة، بما أن الجهة الأخرى ليست على أهب الاستعداد للحوار حول مواضيع معينة ولأسباب عديدة.
ماذا يريد الأرمن من تركيا؟ هل يكتفون بالاعتراف بجرائم الإمبراطورية بحق الأرمن، أم يريدون أيضًا تعويضًا ماليًا؟
يريدون الاعتراف بالمجازر من حيث المبدأ، بكل تأكيد، ومن ثمّ تعويض لائق للفظائع التي تمّ ارتكابها، وإعادة اللقاء بإخوة وأخوات في البشرية، قمنا معهم بجزء من رحلة الحياة في الماضي. لا نريد الاعتراف والتعويض كأمر مُغلق على ذاته، بل كمقدمة لمصالحة مع الماضي ومع القريب، لكي نعود فنتلاقى كإخوة في البشرية.
هذا وحياة الشهداء لا ثمن لها ولا تعويض يستطيع أن يوفيها حقها. وفي نهاية المطاف، لقد لاقوا الحظ الأعظم.