مجموعة تاملات عن الميلاد

مجموعة تاملات عن الميلاد

إعداد الأخ/ بولس رزق الفرنسيسكاني

1-  الميلاد في فكر بعض آباء الكنيسة:

– إننا نؤكد إن الابن وحيد الجنس قد صار إنسانا..حتى إذ يولد من امرأة حسب الجسد يعيد الجنس البشرى فيه من جديد (القديس كيرلس الكبير).

– ان كان ابن الله قد صار ابنا للعذراء فلا تشك يا ابن ادم انك تصير ابنا لله (القديس يوحنا ذهبى الفم).

– ولد بالجسد لكى تولد انت ثانية حسب الروح ولد من امرأة لكى تصير أنت ابنا لله (القديس يوحنا ذهبى الفم).

– عتيق الأيام والعظيم داخل البطن جنينا بينما هو غير محدود وبذلك صارت مريم أعظم من السموات واستضاءت بنوره..فانظر إلى السماء والى تلك الأم البتول واخبرني أيهما اقرب إليه ومحبوب لديه ؟ فمباركة انت فى النساء

يا مريم وممتلئة نعمة (القديس يعقوب السروجى).

– لقد تجسد من مريم العذراء وولد بالجسد ليلدنا بالروح تواضع لكي يرفعنا اتحد بطبيعتنا ليعطينا موهبة الروح القدس لآن يوم ميلاد ملك الملوك ورب الأرباب وان تجسده كان من اجل خلاصنا (القديس يعقوب السروجى).

– تعالى أيها الحكيم وانظر الطفل داخل الاقماط وتأمل في أن يكون جميع الخليقة معلقة بأمره (القديس ساويرس الانطاكى ).

– تعجب منه لأنه موضوع في المذود وهو يدبر البحر واليابسة (القديس ساويرس الانطاكى ).

– بالأمس صنع أمه وأتى اليوم ولد منها هو الوحيد قبل ادم وبعد مريم (القديس ساويرس الانطاكى ).

– الطفل الموضوع فى المذود والصغير بين المساكين ترتعد منه صفوف النار بعساكرها (القديس ساويرس الانطاكى ).

– حينما أريد أن أنظر إلى العذراء والدة الإله وأتأمل فى شخصها يبدو لى لآول وهله ان صوتا من الرب يأتى صارخا بقوة فى اذنى “لا تقترب الى هنا.اخلع حذاءك من رجليك لآن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة” (خر 5:3) (القديس ساويرس الانطاكى )[1].

2- وعد الله الخلاصي:

1-2- أمانة الله في التاريخ:

الأمر المهم في المسيحية هو الطاعة، والتواضع في حضرة كلمة الله… لا يأتي الخلاص من عظمة الإنسان بل من رحمة الله المجانية. يجب أن تطبع علامة تنازل الله هذه – علامة الخلاص التي هي إخلاء ذات – فهم هذا المقطع من الإنجيل في قلوبنا مرة أخرى. يجب أن تجعلنا نتوب من جديد فنضحي أشخاصًا لا يتجنبون تنازلاً مماثلاً؛ أشخاصًا يعرفون أنهم عبر تواضعهم بالذات، وعبر الخدمات الصغيرة التي تطلبها الحياة منهم يسيرون في طريق يسوع المسيح. نسب يسوع بحسب متى يبدأ مع إبراهيم. ويشهد لأمانة الله الذي حقق وعده الذي قطعه مع إبراهيم… يمثل النسب بأسره، مع كل فوضويته، وكل لحظاته الإيجابية والسلبية، شهادة نيرة لأمانة الله لكلمته بالرغم من كل الفشل وعدم الاستحقاق البشري. أما لوقا الإنجيلي… فيرسم نسب الرب ليس فقط من إبراهيم بل من آدم، ومن يدي الله الذي صنع الإنسان. ويوضح بهذا الشكل بأن الجماعة التي أقامها يسوع ليست إسرائيلاً جديدًا، الشعب الذي يختاره الله ويجمعه في العالم، بل أن رسالة يسوع تشمل كل الجنس البشري. لا ترمي رسالته إلى خلاص مجموعة معينة، بل إلى الجنس البشري بأسره، العالم بأسره. تجد الخليقة في يسوع المسيح هدفها الحق؛ في المسيح يتحقق بالكامل مقصد الله بشأن الإنسان؛ في المسيح يُهزم لأول مرة الوحش الكامن في كل منا، ويصل البشري بملئه إلى ساحة التاريخ.

2-2- انتظار المجيء لتحقيق وعد الله: 

يشكل الانتظار المليء بالرجاء بعدًا من أبعاد المجيء. وفي هذا الصدد يساعدنا المجيء على فهم مكنون ومعنى الزمن المسيحي … الإنسان في انتظار دائم في حياته… لم يبرح الجنس البشري يرجو أزمنة أفضل. لطالما ترجى المسيحيون أن يكون الرب حاضرًا دومًا في التاريخ وأنه سيمسح دموعنا وكل مشاكلنا فيتم تفسير كل شيء وتحقيقه في ملكوته. ويضحي الأمر واضحًا بشكل خاص عندما نكون مرضى، ففي ذلك الوقت نكون بانتظار دائم. كل يوم ننتظر علامة تحسن وفي الختام نتوقع الشفاء الكامل. في الوقت عينه، نكتشف أشكالاً عديدة من الانتظار. عندما يفتقر الزمان لحضور ذي معنى يملأه، يضحي الانتظار أمرًا لا يحتمل. إذا ما كنا نتوقع أمرًا ليس حاضرًا الآن – بكلمات أخرى، إذا ما كنا ننتظر وليس لدينا الآن شيء بل نحن فارغون بالكلية، ففي كل ثانية تبدو حياتنا طويلة بشكل لا يحتمل. الانتظار بحد ذاته هو عبء يصعب حمله عندما لا نكون أكيدين بأن لدينا حقًا ما ننتظره. ولكن، من ناحية أخرى، فالزمن بحد ذاته هو ذو معنى وكل لحظة تزخر بأمر ثمين وفريد، واستباقنا الفرِح للخبرة الكبرى الآتية يجعل ما نملك الآن أثمن ويحملنا بواسطة قوة خفية أبعد من اللحظة الحاضرة. يساعدنا المجيء على الانتظار بهذا النوع من الانتظار بالذات. وهذا هو بجوهره الانتظار والرجاء المسيحي[2].

3-2- نسب يسوع والتاريخ:

التاريخ الذي صار يسوع جزءًا منه هو تاريخ عادي جدًا، تطبعه كل الشكوك والمشاكل التي نجدها بين البشر، كل التطورات والبدايات الجديدة، ولكن أيضًا كل الخطايا والخساسة – تاريخ بشري محض! والنساء الأربع التي يأتي على ذكرهن في نسب يسوع هن شاهدات عن الخطيئة البشرية: من بينهن راحاب الزانية التي أسلمت أريحا إلى أيدي الإسرائيليين المهاجرين. ومن بينهن أيضًا امرأة أوريا، المرأة التي نالها داود عبر الزنى والقتل. والرجال في هذا النسب لا يختلفون عن النساء. فلا إبراهيم ولا إسحق ولا يعقوب هم بشر كاملون؛ وبكل تأكيد داود ليس كاملاً، ولا حتى سليمان؛ ونلتقي أخيرًا بملوك بغيضين، مثل آحاز ومنسى، ضرجوا عروشهم بدماء الضحايا البريئة. التاريخ الذي يقود إلى يسوع هو تاريخ داكن، ورغم أنه لا يخلو من لحظات النور، والرجاء والتقدم، إلا أنه بمعظمه تاريخ متهرئ ومليء بالخطيئة والفشل… وكل هذا علامة لنا. يعلمنا أن تجسد الله ليس نتيجة ارتقاء من قبل الجنس البشري ولكنه نتيجة نزول الله. ارتقاء الإنسان، السعي للوصول إلى الله بقواه الذاتية والتوصل ليكون إنسانًا خارقًا، هو محاولة فشلت فشلاً ذريعًا في الفردوس. من يحاول أن يصير إلهًا بقواه الذاتية، ومن يرفع يديه بكبرياء ليصل إلى النجوم، ينتهي به الأمر دائمًا في تدمير الذات. وبالتالي فإن مسيرة إسرائيل الفاشلة في التاريخ هي علامة بأن الإنسان لا يصل إلى الخلاص عبر الكبرياء وتعظيم الذات، بل عبر التواضع، والاستسلام والخدمة[3].

4-2- “أنت ابني، أنا اليوم ولدتك”:

بكلمات المزمور الثاني هذه، تبدأ الكنيسة ليتورجية عشية الميلاد. وهي تعرف أن هذه الكلمة كانت تنطبق أصلاً على طقس تتويج ملك إسرائيل. الملك، الذي هو بحد ذاته كائنٌ بشري نظير كل البشر الآخرين، يضحي “ابن الله” من خلال الدعوة و التربع على عرش ملوكيته: إنه نوع من تبنٍ من قِبل الله، فعل قرار، يمنح الله من خلاله لذلك الرجل وجودًا جديدًا، ويجذبه نحو كيانه الذاتي.

كلمات طقس التتويج في إسرائيل، في الحقيقة، كانت دومًا وفقط طقوس رجاء، وكانت تتطلع من بعيد إلى مستقبل سيهبه الله. ما من ملك تمت تحيته بهذا الشكل كان مطابقًا لسمو هذه الكلمات. كانت كل الكلمات بشأن البنوة الإلهية، التربع على عرش إرث الأمم، والسلطان إلى أقاصي الأرض (مز 2، 8) كانت كلها إشارة فقط إلى مستقبل، وكأنها إشارات طريق الرجاء، إشارات تقود إلى مستقبل لم يكن ممكنًا تصوره حينها. وهكذا، فاكتمال الكلمة التي تبدأ في عشية بيت لحم هي في الوقت عينه كبيرة جدًا – بنظر العالم – وأكثر تواضعًا مما كانت الكلمة النبوية تعنيه. إنها أكبر، لأن هذا الطفل هو حقًا ابن الله، حقًا “إله من إله، نور من نور، مولود غير مخلق، مساوٍ للآب في الجوهر”. لقد تم تجاوز المسافة اللامتناهية بين الله والإنسان. لم ينحن الله نحو الأعماق وحسب، كمنا تقول المزامير؛ إن الله قد “نزل” حقًا، ودخل العالم، وأضحى واحدًا منا لكي يجذبنا جميعًا إلى ذاته.

هذا الطفل هو حقًا عمانوئيل – الله معنا. ملكوته يمتد حقًا حتى أقاصي الأرض. في وسع كون الافخارستيا المقدسة، لقد أقام حقًا جزر سلام. فحيث يتم الاحتفال بالافخارستيا هناك جزيرة سلام، ذلك السلام الحق الذي هو خاصية الله. هذا الطفل قد أشعل في البشر نور الصلاح وأعطاهم قوة أن يقاوموا سلطان الظلم. في كل جيل يبني ملكوته من الداخل، انطلاقًا من القلب. ولكن صحيح أيضًا أن “عصا الظالم” لم يُكسر. فاليوم أيضًا يسير الجنود بأسلحتهم ومن جديد ودومًا “الثياب ملطخة بالدماء” (أش 9، 3). وهكذا فقرب الله منا هو جزء من فرح هذه الليلة. نشكر لأن الله، كطفل، وهب ذاته في أيدينا، ويستعطي – إذا جاز التعبير – حبنا، ويفيض سلامه في قلبنا. لكن هذا الفرح هو أيضًا صلاة: يا رب حقق وعدك بالكامل. حطم عصا الظالمين. احرق أحذية الحروب. إنه زمن الثياب الملطخة بالدم. حقق وعدك: “السلام لن ينتهي أبدًا” (أش 9، 6). نشكرك لأجل صلاحك، ولكننا نتضرع إليك أيضًا: أظهر قوتك. أقم في العالم سلطان حقيقتك، سلطان حبك – “ملكوت العدالة، الحب والسلام”.  

5-2- الله هو الذي أحبنا أولا:

“أنت وحدك يارب إذا فرضتَ سلطانك علينا خلصتنا. وإذا خدمناك نحن، فهذا يعني اننا نسعي لقبول خلاصنا منكَ. وما هو خلاصك يارب؟ إن منك وحدك الخلاص. وما هي بركتكَ على شعبك سوي أن تهبنا نعمتك فنحبكَ، أو الإنسان الذي أيدته، يسوع أي المخلص، ” لانه هو الذي يخلص شعبه من خطاياهم، ولا خلاص بأحد غيره” ( اع 4: 12)، هو احبنا اولا …. هذا هو الواقع بكل وضوح: لقد أحببتنا أولا ثم أحببناك نحن. ليس بحاجة إلى حبنا، وانما ما صنعه أنت لنا، نحن لم نكن قادرين على صنعه إلا إذا أحببناك.

ولهذا “بعدما كلمت الآباء قديما بالانبياء مرات كثيرة بوجوه كثيرة كلمتنا في هذه الايام بكلمتك” (عب 1:1 )، تكلمت بابنك، فأعلنت على الملأ كم وكيف أحببتنا…. هذا هو كلمتك لنا، أيها الرب هو كلمتك القديرة التي انحدرت من العروش السماوية، لما كان الصمت أي الضلال العميق مخيما على كل شيء. جاء مقاتلا شديدا في وجه الضلال، وقائدا لينا أمرنا بالمحبة…. نحن نحبك بعاطفة الحب التي وضعتها أنت فينا. وأما حبك فهو صلاح كله منك، ايها الصالح الكثير الصلاح، ويا ايها الخير الاسمي، وهو روحك القدوس المنبثق من الآب والابن الذي كان يرف منذ بدء الخليقة على المياه، أي كان يلهم أذهان أبنائك البشر واهبا  نفسه للجميع، جاذبا إليه الجميع ملهما داعيا مبعدا للشرور مانحاً ما هو مفيد عاملا على اتحاد الله بنا واتحادنا بالله– وليم رئيس الرهبان في مشاهدة الله[4].

6-2- إيماننا بالله المتجسد: 

ما يميّز الإيمان المسيحيّ هو، ولا شكّ، سرّ التجسّد، كما نسمّيه في الكنيسة، أي الإيمان بالله الذي صار إنسانًا. كلّ إيماننا المسيحي ينطلق من التجسّد، لأننا لا نعرف الله إلاَّ من خلال الابن، أو بالأحرى لا نعرف إلاَّ الله المتجسِّد.

 في حين يُظْهِر لنا الكتاب المقدّس أنَّ التجسُّد هو من صميم الله، لا أمر أُضِيفَ إليه بسبب الخطيئة. لهذا السبب نصرِّح بأنَّه ” لو لَم تكن هناك من خطيئة، لتجسَّد المسيح “. ومن جهة أخرى نضيف: ” لا وجود لله إلاَّ الله المتجسِّد “، إذ إنَّه حبّ لا يمكنه إلاَّ أنْ يتًحد بمن يُحبّ.

إنَّ المسيح هو إنسان بكلّ معنى الكلمة، لا بلّ هو الذي يكشف لنا حقيقة الإنسان. إنْ أردتم أنْ تعرفوا من هو الإنسان، فانتسبوا إلى مدرسة المسيح. لقد عاش المسيح المسيرة الإنسانيّة بكاملها، ما عدا الخطيئة. التجسّد له نتائجه، لا على نظرتنا للأمور، بلّ على نوعيّة لقائنا الله. إنَّ حياتنا اليوميّة تصبح مختلفة، إنْ فهمنا وعشنا التجسّد بهذا المفهوم. والتجسّد يُفْهِمْنا أنَّ مكان لقائنا الله هو حياتنا الإنسانيّة بكلِّ ما فيها.

والتجسّد هو الله الذي يعيش بابنه حياة الإنسان لكي يعيش الإنسان، في الوقت نفسه، حياة مع الله. وعبَّر يسوع عن ذلك مرارّا،حين شبَّه ملكوت السماوات بالعرس. بيسوع، “تزوّج الله البشريّة “، وإنَّ “لم يكن الإنسان أمينًا، فإنَّه لا يطلَّق “. ولم ينتهِ التجسّد، أوّلاً لأنَّ المسيح لم ينفصل عن جسده: ” به يوجد إنسان جالس عن يمين الآب “ا. وثانيًَا لأنَّ تاريخ حبّ الله للبشر لم ينتهِي، ما لم يملك على كل البشرية[5].

3- القديس يوحنا المعمدان و زمن الاستعداد:

1-3- يوحنا هو صوت صارخ في البرية: 

 “يوحنا هو الصوت. والرب هو “الكلمة الذي كان في البدء”(يو 1:1)،يوحنا صوت عابر، والمسيح هو الكلمة الازلي الكائن منذ البدء. إذا زال الكلمة، فماذا ينفع الصوت؟ حيث لا يوجد معني مفهوم، فما تبقي هو ضجيج لا معني له. الصوت من غير الكلمة يقعُ في الاذن، ولكنه لا يمسُ القلب…. حين أبحث كيف أوصل إليك الكلمة، وكيف أُدخلها في قلبك أستخدم الصوت، وبالصوت اكلمك. رنين الصوت يوصل اليك معني الكلمة وبعد أن يوصل رنين الصوت معني الكلمة، يتقطع الرنين ويغيب. وأما الكلمة التي وصلها إليك الرنين فهي الان في قلبك وفي الوقت نفسه لم تبتعد عن قلبي….أتريد أن تري صوتا عابرا بينما بقيت الوهية الكلمة؟ أين هي الان معمودية يوحنا؟ لقد أدي خدمه ثم غاب. أما معمودية المسيح فاننا نقبلها حتي اليوم. كلنا نؤمنُ بالمسيح ونرجو الخلاص من المسيح…. ما معني ” اعدوا طريق” معناه: صلوا كما يجب أن تكون الصلاة. ما معني ” اعدوا الطريق” معنا: تواضعوا في فكركم. ومنه تعلموا مثال التواضع. حسبَ الناس أنه المسيح، فقال إني لستُ كما تحسبونن فلم يستغل ضلال غيره ليصنع لنفسه مجداً. لو قال انا المسيح: لامنوا به بسهولة، لانهم كانوا يصدقون ما يقول حتي قبل أن يتكلم. ومع ذلك لم يقل بل عرّف نفسه، وميز نفسه ووضع نفسه” القديس اغسطينوس الاسقف [6].

2-3- شهادة يوحنا المعمدان:

يظهر يوحنا في القفر كرجل مكرس لله. يعظ أولاً بالتوبة والتطهير ويجمع البشر محضرًا إياهم لمجيء الله. بهذا المعنى، يلخص تبشيره كل النبوءة وصولاً إلى تلك اللحظة حيث يصل التاريخ إلى هدفه. رسالته هي أن يفتح الباب لله، لكي يكون إسرائيل مستعدًا ليستقبله ويعد لساعته في التاريخ. الأمور المهمة هي أولاً دعوته إلى التوبة، التي تتابع كل ما قاله الأنبياء، وثانيًا شهادته للمسيح، التي تحقق النبوءات في صورة الحمل، الذي هو حمل الله. لنذكر قصص إبراهيم، قصص إسحق، ذبائح الحملان، وخصوصًا ذبيحة الفصح التي يذبح فيها الحمل الفصحي. تتوصل هذه البدائل إلى تحقيقها الآن. مبدئيًا ينوب الحمل الفصحي عنا نحن البشر. والآن، يرسل الله المسيح ليضحي الحمل الفصحي، ويتقاسم مصيرنا ويحوله بالتالي… يقول يوحنا أن المسيح ليس مجرد شخصية تاريخية، بل هو الذي يسير أمامنا جميعًا، والذي يأتي من أبدية الله وهو شريك حميمية تلك الأبدية.

 3-3- رسالة القديس يوحنا المعمدان واليوم:

لننظر إلى يوحنا المعمدان. فهو يقف أمامنا متحديًا وفاعلاً، كمثال للدعوة الرجولية. في الأيام الصعبة يطلب التوبة (metanoia)، التحول الجذري في المواقف. من أراد أن يكون مسيحيًا يجب أن “يتحول” من جديد. فميلنا الطبيعي هو الاستعدادية لتحقيق ذاتنا، ولمكافئة المثل بالمثل، وتسليط الانتباه على ذواتنا. من أراد أن يجد الله، عليه دومًا وتكرارًا أن يقوم بالتحول الداخلي، أن يأخذ وجهة جديدة. وهذا الأمر ينطبق على آفاق وجودنا جميعها. يومًا فيومًا نلمس عالم المرئيات الذي ينقض علينا عبر اللوحات الإعلانية، ووسائل الإعلام، وزحمة السير، ومختلف النشاطات اليومية، لدرجة أننا نعتقد بأن ما من شيء موجود سوى هذا العالم. لكن الحقيقة هي أن غير المرئي هو أعظم وأثمن من كل ما هو في هذا العالم المرئي. فبحسب كلمات باسكال الجميلة، نفْسٌ واحدة هي أثمن من كل الكون المرئي. ولكن للتوصل إلى هذا الوعي الحي، يجب أن نتوب ونتحول، يجب أن نغير وجهة سيرنا الداخلية وأن نتغلب على وهم المرئي، وأن ننمي فينا الحس، والعيون والآذان لإدراك اللامرئي. يجب على هذا الأخير أن يكون بالنسبة لنا أهم من كل ما يضع أمامنا بلجاجة يوميًا عالمنا المرئي وكأننا أمام حاجة طارئة لا يمكن تأجيلها.Metanoeite : غيَِّر موقفك، لكي يتمكن الله أن يعيش فيك، ومن خلالك في عالمك. يوحنا بالذات لم يُعف من هذا العمل الشاق ومن تغيير وجهة السير[7].

4- مريم العذراء والميلاد المجيد:

1-4- العذراء والميلاد عند بعض آباء الكنيسة:

– لقد حبلت بك أمك بغير زواج, كان فى صدرها لبن على غير الطبيعة إذ أخرجت من الأرض الظمأنة ينبوع لبن يفيض ان حملتك فبنظرتك القديرة تخفف حملها, وان اطعمتك فلأنك جائع, وان سقتك فلأنك عطشان, وان احتضنتك فأنت جمرة المراحم فانك تحضن صدرها (مارأفرام السريانى).

–  من لا يعترف أن عمانوئيل هو اله حقيقي ومن أجل هذا أن العذراء الطاهرة هى والدة الإله لكونها ولدت جسدانيا الكلمة المتجسد الذي من الله لكون الكلمة صار جسدا ليكن محروما (القديس كيرلس).

– اختارت النعمة مريم العذراء دون سواها من بين كل الأجيال لأنها بالحقيقة قد برهنت على رزانتها في كل الأمور ولم توجد امرأة أو عذراء في كل الأجيال.(القديس اغريغوريوس العجايبى).

–   مريم حملت الطفل الصامت الذي فيه تختفي كل الألسنة مع انه العالي حبا وحقاّ ألا انه رضع اللبن من مريم هذا الذي كل الخليقة ترضع من صلاحه عندما كان يرتمي على صدر أمه كانت الخليقة كلها ترتمى في أحضانة كرضيع كان صامتا لكن كانت الخليقة كلها تنفذ أمره (مار أفرام السريانى).

– الشمعة الموقدة أمام أيقونة العذراء تعلن إن هذه هى أم النور (القديس يوحنا).

– لان العذراء القديسة وحدها تدعى وتعرف بأنها والدة المسيح ووالدة الإله كونها بمفردها لم تلد إنسانا بسيطا بل ولدت كلمة الله المتجسد الذي صار إنسانا ولعلك تسأل هنا قائلا: هل كانت العذراء أم اللاهوت. أعلم أنه قيل أنفاّ أن كلمة الله الحي القائم بذاته لا ريب في أنه ولد من جوهر الآب نفسه وأخذ جوهراّ خالياّ من ابتداء الزمان وهو متحد مع الوالد على هذا الوجه على أنه لم يزل معه وفيه دائما (القديس كيرلس رئيس مجمع افسس)[8].

2-4- بشارة الملاك وجواب مريم:

سمعتِ أيتها البتول، أنك ستحملين وستلدين أبنا. وسمعتِ أن ذلك لن يكون بقوة رجل بل بقوة الروح القدس. وهذا هو الملاك ينتظر منك الرد منك: يجب أن يعود إلى الله الذي أرسله. أيتها البتول نحن أيضا ننتظر منكِ كلمة الرحمة،… هذا ثمن خلاصنا بين يديك. سنتحررُ عن قريب إن أنتِ وأفقتِ بالكلمة الأزلي…. يتوسل إليك بالدموع آدم المنفي من الفردوس مع نسِله، يتوسل إليك داود. يتوسل إليك الآباء القديسون، أي أجدادك: هم أيضا يسكنون في ظلال الموت. العالم كله ينتظر ذلك منكِ جاثيا أمامكِ…أسرعي بالرد أيتها البتول وأجيبي بسرعةِ على الملاك، وعلى الله بوساطته.قولي كلمة واستقبلي الكلمة. قولي كلمتكِ الإنسانية واحملي بالكلمة الإلهي. قولي كلمتك العابرة واستقبلي الكلمة الأزلي. لماذا تتأخرين؟ لماذا تضطربين؟ آمني وأقبلي واستقبلي. أنتِ متواضعة…. أفتحي قلبك للإيمان أيتها البتول الطوباوية، وشفتيكِ للقبول وأحشاءك لاستقبال الباري هذا هو مشتهي جميع الأمم في الخارج يقرع الباب. إذا تأخرت، سيذهب ثم تشرعين في البحث عمن تحبه نفسكِ. قومي، أسرعي، افتحي، قومي بالإيمان، وأسرعي بالتقوى، وافتحي بكلمة القبول. قالت مريم: “أنا أمة الرب فليكن لي حسب قولك(لوقا 1: 38) القديس برناردس[9].

3-4- زيارة مريم العذراء  لنسيبتها أليصابات

(العهد القديم والجديد يتقابلان)

بعد ان زار الملاك مريم وبشّرها بحضور الله في حياتها وتتلقى من خلال هذا الملاك دعوتها ومسؤوليتها، مباشرة تسرع لتترجم ذلك بفعل رحمة والتزام تجاه نسيبتها أليصابات….  فتلتقي المرأتان لتشهدا حضور الله في حياتهما…. فمريم تعرف بان حضور الله في حياتها ليس قضية شخصية، بقدر ما هو حضور يجعلها تنفتح على الآخر، لتشاركه هذا الحضور، فنحن نؤمن داخل جماعة، نؤمن مع الآخر، فالرب دعانا لنكون مع الآخرين دائما، فالملكوت الذي يدعونا الله إليه ليس ملكوتا يتضمن أفراد، بقدر ما هو ملكوت جماعي… والخلاص ليس فرديا، فنحن كلنا نساعد بعضنا البعض لنخلص، هذا هو الملكوت الذي يدعونا الرب اليه اليوم…

كيف هي زيارة مريم؟

زيارة مريم ليس كزياراتنا، فهي تذهب لتمجد حضور الله في حياة أليصابات. هي تسرع وترغب في أن تكون قرب يوحنا وبقرب أليصابات التي ترعاه، لتعينها وتعين زكريا وتثبتهم وتشاركهم الفرح… لذلك نسمع من أليصابات كلمات البركة والتهنئة، نسمع من مريم نشيد تعظيم وتمجيد لفعل الله في حياتهم…. فتكون هذه الزيارة، زيارة تعلمنا صلاة التمجيد والشكر.

 فنسأل اليوم: كيف هي زياراتنا نحن للأقرباء والأصدقاء؟ هل هي زيارات تعزية وتثبيت، أم زيارات تشويه السمعة، وأحاديث فارغة؟…. لدينا الكثير من المناسبات المفرحة والمحزنة، عند حضورنا فيها، لا نفكر بالحدث الذي من أجله تقام كل هذه المناسبات، ونتحدث بكلام وأحاديث فارغة من معناها على بعضنا البعض… أليست هذه المناسبات فرصة لتقوية العلاقات، أ ليست فرصة للتفكير بشكل جماعي عن ما يوحدنا؟ والله هو الذي يوحدنا، ولكن، أين هو من لقاءاتنا؟… اعتقد الجواب في كثير من الأحيان، هو: غير موجود في هذه اللقاءات….

 إننا في لقاءاتنا نمنع الروح القدس ان يهدينا ويطهّر شفاهنا لنعظم صنيع الرب، بل ندع المجرب يحوم حولنا ويستخدمنا كوسيلة بين الناس، لنكذّب هذا وذاك، ونشوّه سمعة هذه وتلك، ونرى بضيق وتكبّر وحسد فرح الآخرين، وبالتالي لن يبقى مجال لله ليربينا ويعلمنا كيفية زيارة الناس….

 رؤية أليصابات لمريم، جعلها تفرح، وتتحرك أحشائها، كان حضور بالنسبة لأليصابات مهما، على الرغم من عدم توقها لزيارتها، الا أن هذه الزيارة كانت في مكانها… فأليصابات بحاجة إلى من يعتني بها، ومريم تسرع لتساعد، بمساعدة ملئها الفرح وبحرية…. فهل حضورنا اليوم، مصدر فرح الآخرين؟ هل ينتظر الآخرين رؤيتنا؟ هذه أسئلة من المهم أن نراجع من خلالها أنفسنا وعلاقاتنا، لنعرف من نحن، ومن نحن بالنسبة للآخرين، وكيف من الممكن أن نضفي طابع الفرح على محيّا الآخرين عند حضورنا بينهم…

إن الرب اليوم، من خلال مريم، يعلمنا كيف نطرق أبواب بيوت الناس، وكيف نستقبل زوّارنا ونرحب بهم في حياتنا. كيف ندخلهم بيوتنا، ونفتح لهم قلوبنا شاكرة لله، ففي حضورهم يحضر الله، وفي صلاتهم نتثبّت، فإلى الرب نطلب أن يجعل زياراتنا مباركة بكلمات الفرح والرحمة والحب..[10].

5- في يوم ميلادك:

أهلا بك تلقننا درساً بأن المحبة هي استشهاد متواصل، وشهيد المحبة والسلام والعدل، لن يموت أبداً .

– أهلا بك تذكرنا بأن الغنى هو في العطاء والتسامح، وأن العظمة تكمن في التواضع والوداعة.

أهلا بك تعلمنا بميلادك وحياتك وموتك أن المحبة وحدها تبني، وسلاحها هو الأقوى لأنها تصبح غداءا للجائعين وكساءً للعراة، ويداً تجمع كل البشر، تصلح وتصالح، فهي بغنى عن الانقسامات والحواجز والبغض والكراهية.

في هذه الليلة المقدسة ندعو للتسامح بين الأمم والأفراد والعائلات والرب الإله الذي يغفر لنا خطايانا، فليؤتنا الجرأة والقوة كي نغفر لمن أخطأ إلينا أمين[11].

 – أهلا بك تلقينا درساً بان الفقراء هم أغنياء العالم بالمحبة

 – أهلا بك تلقينا درسا في التواضع (رفعت المتواضعين) وأنزلت المتكبرين عن العروش.

– أهلا بك جعلت من قلوبنا مسكن لك وأنت مالك الخلقية كلها.

– أهلا بك في وسط مجتمعنا اليوم كي تنزع العنف والاضطهاد والكراهية من قلوبنا.

– أهلا بك في أرضنا العطشة إلى السلام الحقيقي.

  6-  زمن الميلاد:

1-6- الميلاد(التمييز والرجاء)

إن زمن المجيء هو زمن التمييز والرجاء: ممارسة التمييز يعني  أن نلاحظ وأن نسأل لكي نعرف ونستمر في ان نرجو. فالجموع التي ذهبت إلى يوحنا المعمدان قدمت له تساؤلاتها لانها كانت تنتظر شيئاً ما، أو بالأحرى شخصاً ما:

–  ماذا يجب علينا أن نفعل؟

–  هل أنت المسيح المنتظر؟

فالجموع كانت تريد أن تعرف وتؤكد معرفتها وليس لمجرد الفضول. لان الأشخاص الذين بحثوا عن المعمدان هم أشخاص ينتمون إلى هذا الشعب الذي يملك لديه منذ قرون ” رجاء إسرائيل” وكان ينتظر بثقة  مجيء المسيح: تطلعه الأسمى أن يرى بعينيه ” خلاص الله”، ونوراً للشعوب ومجداً لإسرائيل ( لو 2/ 30 – 32).

فالتمييز والرجاء يجب أن يميّزا(يطبعا)، كل سلوكنا: مع استغراقنا في التاريخ، يجب علينا أيضاً السهر، والملاحظة لكي نعرّف عصرنا على علامات ”  خلاص الله” ونجذبه بدافع الرجاء الذي لا يتزعزع في مجريات الأحداث المتنوعة.

فلتعضدّنا مريم أم الرجاء المقدس في مسيرتنا وتنير لنا الطريق نحو المسيح، رجائنا الحقيقي.

للتفكير

–  هل تفعل مثل الجموع فتبحث وتسأل لتعرف معنى الأحداث الخلاصية في حياتك؟

–  ما مدى أهتماماتك لتفسير العلامات التي قد تمر عليك في حياتك اليومية؟

–  كيف تجعل من أحداث عادية جداً في حياتك، معنى يساهم في تحوّل حياتك نحو الأفضل؟

2- 6- الطفل الإله

من غير اللائق أن يصير الطفل إلهاً!

إن التجسد هو سر ابن الله الذي صار بشراً، بدءاً بالطفولة. كان من الممكن أن يتحقق التجسد بطريقة مختلفة حيث هناك الكثير من الإمكانيات المتاحة لتنفيذ العمل الإلهي.

نذكر أنه، في القرن الثاني الميلادي، كان ماركيون يعتقد أن الإله يستحيل أن يتجسد إلا في إنسان ناضج ولذلك لم يقبل إنجيل الطفولة، فقد وجد إنه من غير اللائق أن يصير الإله طفلاً. وفي خطئه هذا لم يستطع فهم تواضع الحب الإلهي!!

 التواضع أعظم معلّم

هذا هو التواضع الذي ظهر في السر، الذي جعل التجسد كاملا: أن يصير أبن الله طفلا. وفقاً للمخطط الإلهي (الآب)، كان يجب أن يصير الابن إنساناً كاملاً، يحتضن طبيعتنا البشرية بلا تحفظ، وأن يشبهنا في كل شيء ما عدا الخطيئة. اذاً فهو يجب أن يصير طفلا وأن يعرف النمو الإنساني البطيء منذ الطفولة وحتى النضج. ويعود كماله المطلق في إنه عاش كل مراحل النمو الإنساني بالرغم من كونه إلهاً.

 إذاً فهو قَبِلَ أن يولد في هذا العالم  كما يولد جميع البشر. وقد تغلغل في بشريتنا متخذاً صورة طفل. فقد أراد أن يعرف ضعف الطفل، وتبعيته لأمه وضعفه أمام من حوله.

بالرغم من كونه إلهاً إلا إنه ظهر في صورة طفل بكل معني الكلمة وبدون أي تمييز كان يسمح له بهروب يحط  من مرحلة الطفولة. قدم لنا ذاته في فقر المولود الجديد.

ويظهر المخطط الإلهي منذ الولادة فالملائكة- كما يقول الإنجيل تعطي الرعاة العلامة التي تعرفهم على المخلص، “إليكم هذه العلامة: ستجدون طفلاً مقمطاً، مضجعاً في مذود” (لو 2: 12). فالوصف الأوّل للمخلص الذي يمنحه علامة الوجود هو “المولود الجديد”. بالتالي هو مولود مثل آي مولود آخر: “ملفوف بالأقمطة” فلا تمييز بينه وبين الآخرين إلا بفقره: “هو نائم في مذود”.

علامة القدرة الالهية في الطفل

وفي هذا المولود الجديد نجد علامة القدرة الإلهية التي تخلص العالم. العلامة لست علامة السيطرة ولكن الحب الوديع. وهو الذي يقول عن نفسه فيما بعد…. “إني وديع ومتواضع القلب”(مت 11/ 29)، ونفهم هذه الوداعة والتواضع – من ولادته البسيطة- اللتين بواسطتيهما سيجذب اليه كل البشرية: بل باكثر من هذا  فإن الوداعة والتواضع يظهرا وجه الله الحقيقي.

فقدرته ليست تلك التي تبحث عن دهس( تحطيم) أعداء البشرية ولا إكراه المتمردين ضده.

إنّه وجه الحب الذي لم يتردد في أن يتنازل أمام البشر، وأن يرسي بهم على شاطىء الآمان ببساطة الطفل.

 صفات الطفل

لا يمكن أن يشكّل المولود الجديد أي مصدر تهديد،  فهو ضعيف وضئيل، وهو يطلب، بكل بساطة، أن يكون محبوباً… بعكس الصورة المرعبة والقاسية التي كانت تظهر لله غالباً في العهد القديم، فالمولود الجديد نائم في مغارة لا يستطيع أن يثير آي مخاوف، ولا يستطيع سوي أن يستهوي ويجذب الذين يقتربون منه بقلب منفتح وهم يلمسون بشدة حضوره.

 إن طفل الميلاد: يجعلنا نكتشف حب من يريد أن يجذبنا بتواضعه ففي الاحتفال بالعيد نتوجه بنظرنا نحو هذا الطفل لكي نقبل بإيمان كل “سر الله”.

 روعة الطفولة البشرية

في المخطط الإلهي حيث يقُدم لنا المخلص في صورة طفل ندرك أيضاً القصد في إبراز قيمة الطفل في الجماعة الإنسانية. فإذا أراد ابن الله أن يصير طفلاَ، فهذا لان الطفل هو ثورة لاغني عنها للبشرية. وهناك انسجام سري بين الله والطفل، وهذا الانسجام جعل يسوع يقول: ” دعوا الأطفال ولا تمنعوهم أن يأتوا إلي، فان لامثال هؤلاء ملكوت السموات”( مت 19/ 14).

فالميلاد يجعلنا ندرك بطريقة أفضل قيمة الطفل في المجتمع. فمولود المغارة الجديد يدعونا لننظر إلى كل الأطفال بنظرة إعجاب لنكتشف فيهم انعكاس النور الإلهي.

 للتفكير

–         ماهي قيمة التواضع في حياتك على ضوء سر التجسّد؟

–         أي الصفات التي يمكنك أن تحصيها فيك كانت في يسوع الطفل؟

–         ما الصفات الطفولة التي مازلت تدرك ضرورة وجودها في حياتك؟

–         الطفولة لها نظرة مميزة عند الله، فمالذي يمكنك ان تساهم به للاهتمام بالأطفال في محيطك العائلي، مجال عملك، وفي كنيستك من بناء مستقبل وطنك؟

3-6-  الميلاد عيد الحقيقة:

إن عيد الميلاد قد قرب، ونحن نسير روحياً، على مثال مريم ويوسف نحو بيت لحم لنسجد للمخلص يسوع المسيح الذي ولد لأجلنا.

ونحن نسجد عن طريق التأمل في التجسد ذلك الحدث الفريد والفائق الطبيعة ابن الله: نؤمن أن هذا الطفل المولود في إسطبل وموضوع في مزود هو عمانوئيل: الله معنا، الذي أعلنه الأنبياء لشعب إسرائيل الذي كان ينتظر منذ قرون.

 أمام حقيقة الميلاد السرية وعظمته، يكتب القديس يوحنا في مقدمة إنجيله” في البدء كان الكلمة، والكلمة كان لدي الله والكلمة هو الله والكلمة صار بشراً”( يو1/ 1، 14). فهذا الطفل إذا هو كما يشير كاتب العبرانيين.”شعاع مجده (الله)، وصورة جوهره “(عب  1/ 3). فبهذا الوعي نتوجه نحو بيت لحم لنركع أمام ذلك الذي يسود الكون ويجمع في ذاته كل التاريخ البشري.

 لكن علينا أن نفكر في سبب التجسد: لماذا أخذ ابن الله على عاتقه الطبيعة البشرية وتغلغل – وهو اللامحدود – في تاريخنا خاضعاً للزمان والمكان؟

الاجابة يعطيها يسوع نفسه في حديثه مع بيلاطس “… وانا ما وُلدت وأتيت العالم إلا لأشهد للحق …” ( يو 18/ 37). فالحقيقة تضاد الخطيئة التي في عمقها هي كذب ( يو 8/ 44).

نستطيع أن ننال الفداء من الخطيئة بإعادة  الحقيقة في العلاقة بين الإنسان والله ويسوع المسيح جاء ليعيد هذه العلاقة الجوهرية.

فالميلاد هو عيد الحقيقة !!!هذا لان الطفل المولود في بيت لحم سيقول يوماً ” أنا هو الحق. أنا نور العالم” ( يو14: 6، 8، 12).

إن الميلاد يفقد جوهره إذا لم نحتفل به كعيد ” للحقيقة ” ولأنه عيد الحقيقة فهو يرفض كل ما هو براق، وتشويه، وكل المظاهر المادية الفانية للبشر.

 فاختيار يسوع للشكل الذي ولد عليه ” فقير في إسطبل” له معني عميق وجوهري لحياتنا.

فهو يعلمنا بأن الطريق نحو الله يمر عن طريق التواضع، والصمت، والتضحية وبذل الذات من أجل محبة الله والقريب.

 نطلب من مريم العذراء لكي تنيرنا وتساعدنا لنتعلم دروس الميلاد الكبرى: فكما بقبول مريم لسر تجسد الله فيها منحت الجميع الفرح والصلاح والرحمة، كذلك يكون لنا  أن نقبل هذا السر فنكون سبب فرح للجميع …. تعالوا نسجد له !!!

الله يحبنا وهو وُلدَ لأجلنا في بيت لحم. إذا فلنحب بعضنا كما أحبنا هو.

4-6-  فلنحيا الميلاد:

يعني أن نمد ذراعنا ؛

يعني أن نجيب على النداء؛

يعني أن نحيا بقلب منفتح؛

 الميلاد يحمل في طياته المتناقضات والرجاء، والذي مازلنا لم نكتشفه بعد، فالميلاد لكل الفئات والطبقات الأجناس.

الميلاد يقترب منا ولكن ليس بالمدافع، ولا بالعنف، ولا بالملايين التي تبذر في ليلة الميلاد بالزينات والألعاب…. الخ.

فالميلاد عيد لا يمكن أن نكتشفه إلا بقلب منفتح وفقير. هو عيد الله الذي صار كواحد منا. هذا ما تنبأ عنه ( أش 7/ 14)، جاء الله إلينا في شكل مولود بيت لحم، فقير بين الفقراء يدعو الجميع إلى الحياة الأبدية ( يو 3/ 16). وفيما بعد سيكون الصليب … هللويا الفصح …. وضياء العنصرة.

 واليوم، نحن أمام الميلاد ونتأمل المولود فنقبله على فقره هذا، كما قبله الرعاة صغيراً فقيراً تقدمه لنا أمه مريم.

 من هو طفل المغارة ؟؟

إنه ابن الله الحبيب الذي صار كواحد منا، أخذ جسداً كجسدنا أخ للجميع، جاء ليدلنا على طريق الحياة.

أخوتي وأخواتي إن الميلاد:

–         هو كلمة الله الذي صار بشراً. بالرغم من مرور الزمن؛

–         لم يتوقف عن بث رسالته التي يحملها، وكيف نسمعها اليوم وكيف نعيشه اليوم في هذا المكان؛

–         رسالة تعلن كلمات الإنجيل واضحة ، أنه يعلن السلام؛

–          يدعونا أن نصير خداماً  للعدالة لكي نبني السلام.

ويقول عن الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى العدالة وفقا لمخطط الله: ” هو طريق المحبة “.

الميلاد يدخلنا في مخطط الله فيجعله أي الله “أبانا” عندما يعطينا أبنه.

فلم يكن الميلاد مجرد مسرحية أو تمثلية أو عملية سحرية بناء عليها دخل يسوع كوكب الأرض … ولكن حقيقة مثبتة وكلمة قوية  ومحددة.

صارالله كواحد منا … “أحبنا حتى بذل أبنه لنا”

–         لكي نحيا الميلاد علينا أن نمد ذراعنا نحو الله لنقبل منه الحب ونصير شهوداً لهذا الحب.

–         أن نجيب على النداء الذي يجعلنا نعتبر كل آخر كحبيب لله، وكأخ مثلنا مدعو على مائدة الرب. فحتى يتحقق السلام والعدل لابد من قاعدة صلبة وأكيدة وثابتة، وهذه القاعدة هي العهد الذي أبرمه الله في ابنه يسوع المسيح، هو العهد الذي يؤكد الروح القدس الذي يعمل في كل إنسان بار ومستقيم. وأساس السلام والعدالة هما احترام الإنسان ومحبته لا لأجل مصلحة خاصة وإنما حب حقيقي مجاني.

 ختاماً: أقول إن طريقنا طويل حتى نحقق رسالة الميلاد، ولكن هناك رفيق يصحبنا، يسوع المسيح.

فهو ليس طفل المغارة فقط ولكن هو أيضاً يسوع الأناجيل[12].

7- نعم وعطايا الميلاد:

1-7- السلام الحقيقي مصدره الميلاد: 

يخبرنا إنجيل الميلاد، في الختام، أن حشدًا من الملائكة من جيش السماء كان يسبح الله ويقول: “المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر” (لو 2، 14). لقد وسعت الكنيسة هذا التمجيد الذي أنشده الملائكة في الليلة اللمقدسة، وجعلت منه نشيدًا لمجد الله. “نشكرك لأجل عظمتك السامية”. نشكرك لأجل جمال، عظمة وصلاح الله، الذي أضحى في هذه الليلة مرئيًا. ظهور الجمال يجعلنا حبورين دون أن نهتم بنفعيته. مجد الله، التي منها يأتي كل جمال، تفجر فينا الدهشة والفرح. من يرى الله يشعر بالفرح، وفي هذه الليلة نرى شيئًا من نوره. ولكن رسالة الملائكة في الليلة المقدسة تتحدث أيضًا عن البشر: “السلام للبشر الذين يحبهم الله”. الترجمة اللاتينية لهذه الكلمات التي نستعملها في الليتورجية والتي تعود للقديس هيرونيموس: “السلام للبشر ذوي الإرادة الصالحة”. وقد دخلت هذه العبارة بشكل خاص في العقود الأخيرة في لغة الكنيسة. ولكن أي ترجمة هي الصحيحة؟ يجب أن نقرأ كلي النصين معًا؛ فبهذا الشكل فقط نفهم كلمة الملائكة بشكل صحيح. من الغلط أن نفسر النص بطريقة تعترف بعمل الله وحده، كما وكأنه لم يدع الإنسان للإجابة بحب حرّ. ولكن من الغلط أيضًا أن نفسر النص بطريقة أخلاقية فقط، يستطيع بواسطتها الإنسان من خلال إرادته الصالحة أن يفدي نفسه. ومن جديد يأتي الله إلينا بشكل غير منتظر. هو لا يتوقف عن البحث عنا، ويرفعنا كل مرة نحن بحاجة إليه. لا يتخلى عن خرافه الضالة في الصحراء. الله لا يسمح لخطيئتنا أن تضيّعه. فهو يبدأ معنا دومًا من جديد. وكل مرة ينتظر حبنا. يحبنا لكي نستطيع أن نضحي أشخاصًا يحبون معه، وهكذا يمكن أن يكون هناك سلام على الأرض.

 فنشيد الملائكة هو موسيقى تأتي من الله، بل هي دعوة لكي ننضم إلى النشيد، في فرح القلب بأننا محبوبون من الله. يقول القديس أغسطينوس “الإنشاد هو أمر يتعلق بالمحبين” (Cantare amantis est). وهكذا، على مر الأجيال، يضحي نشيد الملائكة من جديد نشيد حب وفرح، نشيد الذين يحبون. في هذه الساعة ننضم بعرفان إلى إنشاد الأجيال هذا، الذي يجمع السماء بالأرض، الملائكة والبشر. نعم، نشكرك يا رب لأجل مجدك العظيم. نشكرك لأجل حبك. أعطنا أن نصبح أشخاصًا يحبون معك وبالتالي رجال سلام. آمين[13].

2-7- الميلاد دعوة للتسامح:

جعل الله من بيت لحم مسكناً له وملتقاه مع البشر. بيت لحم مدينة الحب والتسامح. فالذي استطاع أن يشفي المرضى ويقيم الأموات لقادرٌ أن يجمع الشعوب أجمعين في دعة وسلام. والذي علّم الحب والعدل والإنصاف، قادر أن يجعل من المغارة البسيطة، مدرسة تسامح وسلام يتعلم فيها قادة الشعوب وحكامها، معاني الخير والعدالة والاستقرار.

 ميلاد الرب  دعوة إلي السلام حق لجميع الشعوب وهو الحل الأمثل لجميع الصراعات والحلافات. فلا الحرب تثمر سلاماً ولا السجون تؤتي استقراراً، الجدران مهما ارتفعت لن تعطي الأمان. لا الغازي المنتصر ولا المناضل المقهور في الأرض المقدسة، ينعمان بالسلام لأن السلام هبة من الله، والله وحده يعطي السلام ” سلامي أمنحكم وسلامي أعطيكم ليس كما يعطيكم العالم أعطيكم أنا ( يوحنا 14/27)”.

 يا طفل بيت لحم – طال المطال وتعبنا من أنفسنا ومن أوضاعنا لأننا نفتش عن كل شيء إلا عنك، ونهيم بكل شيء إلا بك، ونصغي إلى كل صوت إلا صوتك. فدوختنا الخطابات الرنانة والوعود. واختلط مع صوت المدافع والرشاشات نحيب الأمهات والأطفال، فحطمت زجاج قلوبنا وكسرت صمت المذود والمغارة.

نحن بحاجة إلى هدوء ، نحن بحاجة إلى صمت، نحن بحاجة إلى سلام، ونحن بحاجة إلى طفولة، وأنت الوحيد على صغرك وضعفك وفقرك، أنت الوحيد القادر على إعطائنا ما نحن بحاجة إليه. فأهلا بك يا طفل بيت لحم كي يصبح العيد عيداً.

3-7- نور المغارة أضاء المسكونة:

“الشعب السالك في الظلمة أبصر نورا عظيما” ( اشعيا 9/2).

 الظلمة تغشى المعمورة: كان الظلام يغلف الكون والديجور يشمل الشعوب، والبشرية ترزح تحت نير الشر والخطيئة، واستعمار الرومان يلف كل البلاد، والشعب ينتظر مخلصاًً يرد الملك إليه ويرفع نير العبودية عن كتفيه. في تلك الليلة وقد بلغ ملء الزمان، دخلت مشيئة الله تاريخ البشرية،

 فكان الخلاص بتجسد المسيح ابن الله من مريم العذراء.

فيا هلا بالطفل الإلهي الجديد ويا هلا برسالة العيد وفرحة العيد وهدايا العيد، ترجع البسمة على وجوه الصغار والكبار. فما الطفل الإلهي الجديد إلا ثمرة حب الآب الأزلي للجنس البشري، حب يريد لنا أكثر مما نريد نحن لأنفسنا، سلاماً فقدناه، وتعودنا على فقدانه فلم نعد نشعر بغيابه، ومحبة متبادلة، لم يعد لها مكان في قواميس لغتنا، واحترام لكرامة إنسان ، غابت عن الساحة لكثرة ما تلطخت بالدم والمعاملة السيئة والاهانة.

فيا هلا بطفل بيت لحم، يذكرنا بالطفولة والنعومة وحلاوة النطق والمعاملة، في عالم طابت له الخشونة وتلذذ بالضعف والخوف والكراهية، وقلة الحياء.

 هذه الليلة، صمت المغارة سيكون أقوى من صوت المدافع والبنادق، صمت المغارة يحيي صوت من خنقت وسدت الدموع حناجرهم، فلجئوا للصمت مغلوبين على أمرهم.

يدعى اسمه عمانوئيل أي الله معنا: على النجمة التي تشير للمكان الذي ولد فيه السيد المسيح في المغارة، والتي تبعد عنا بضعة أمتار، نقش التاريخ كلمته باللغة اللاتينية “هنا ولد المسيح”. نعم، هنا في بيت لحم ولد المسيح، وفي مثل هذه الأجواء صدحت الملائكة بنشيد المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام. وكالملائكة الذين بشرونا بفرح عظيم، نبشركم نحن أيضاً “ولد لكم اليوم مخلص وأعطي لكم ابن فصارت الرئاسة على كتفه ويدعى اسمه عمانوئيل”. هذه هي فرحتنا العظيمة نعلنها ونحن نزور مهد المسيح كالرعاة الأتقياء.

عمانوئيل معنا… زرع خيمته بيننا… وجعل له عندنا مقاماً… فله في أعناقنا انتماء وطاعة وسجود[14]

8- القديس فرنسيس الأسيزي والمغارة:

 إذا أردنا معرفة الأحداث التي جرت في حياة القديس فرنسيس لا بدَّ من العودة إلى مصادر موثَّقة، وفي حالتنا هذه، إلى كتابات القديس نفسه، أو إلى الكتابات التي كتبها آخرون. وتعتبر الوثيقة التي كتبها توماس من تشيلانو، بمناسبة إعلان قداسة فرنسيس عام 1228م، أي بعد مرور عامين على وفاته؛ هي الأقدم، يحدِّثنا فيها الكاتب عن فرنسيس في قرية كريتشو، المكان الذي جسَّد فيه فكرة المذود.

ولقد ورد في هذا النص أنه في عام 1223م أراد فرنسيس :” أن يتذكّر الطفل الذي ولد في بيت لحم، كي يعيش بشكل حسّي المعاناة التي قاساها المولود الجديد (يسوع) في ظروف ينقصها كل ما هو ضروري؛ وكيف أنه وُضع في مذودٍ حقير ممدَّداً على التبن بين حمار وثور”.

كان فرنسيس مدفوعاً بروحانيةٍ يمكن تسميتها “تجسيد الحياة المسيحية”، أي تلك النظرة التي تعطي الاحترام اللازم للجسد والتي تتعارض مع من يبالغ بإعلاء شأن الروح على حساب الجسد، كتلك البدع التي كانت سائدة العصر آنذاك (الكاتاريين، على سبيل المثال الذين كانوا يؤمنون بأنّ الروح ينتمي إلى عالم القداسة، أما الجسد فإلى عالم الشرّ).

ولكي يحقِّق فرنسيس رغبته، طلب من رجلٍ في قرية كريتشو أن يُعيره مغارته مع الحمار والثور. وفي ليلة عيد الميلاد توافد سكان القرية إلى ذلك المكان بالشموع والمشاعل، وأقيمت هناك ذبيحة القداس الإلهي. وتذكر المصادر التاريخية أن فرنسيس، بما أنه كان برتبة شماس إنجيليّ، قام بقراءة الإنجيل المقدس، ثمَّ “ألقى على الحاضرين عظة، تحدّث فيها بكلماتٍ رقيقةٍ عذبة مشيداً بالمولود الإلهي، الملك الفقير، وبمدينة بيت لحم الفقيرة”.

لم يكن في مذود فرنسيس سوى الثور والحمار والمعلف. أما مريم ويوسف فلم يكونوا هناك. وكأني به قصد أن يترك لنا المكان فارغاً لنملأه نحن بحضورنا. وكان الجمهور يشارك في القداس ويصغي لفرنسيس عظته عن يسوع طفل بيت لحم. لقد كان مذوداً “إفخارستياً” بامتياز!

ولكن، كيف تمّ الانتقال من ليلة الميلاد في قرية كريتشو سنة 1223م إلى المذود الذي نعرفه اليوم؟

كان لِما قام به فرنسيس في تلك الليلة صداه الكبير، لدرجة أن كريتشو أصبحت ذات أهمية كبرى في تاريخ الفرنسيسكان. ولقد كتب توماس من تشيلانو: “أصبحت كريتشو وكأنها بيت لحم الجديدة”. وبسرعة كبيرة تمَّ بناء مصلّى صغير في ذلك المكان، حيث رُسمَت مشاهد ميلادية معبِّرة عن ذلك الحدث الفريد. وفي وقت قصير انتشرت عادة عمل المذود في كلّ مكان: يكفي على سبيل المثال لا الحصر، أن نذكر الهدية الرائعة (مجسَّم يمثّل المذود) التي قدمها أرنولفو دي كامبيو إلى البابا نيكولاو الرابع الفرنسيسكاني في أواخر القرن الثالث عشر، لتوضع في كنيسة مريم الكبرى في روما، ويمكننا اليوم التأمل بروعة جمالها في متحف البازيليك نفسه. وقد قام أرنولفو دي كامبيو بعمل المذود في عام 1291م، في الحقبة التي لم يعد فيها تواجد يذكر للحضور اللاتيني الغربي في منطقة فلسطين، مع سقوط آخر حملة صليبية في المنطقة كان قد قادها جوفاني من عكّا. وبدأت تظهر، وبشكل بديهي وتلقائي، الحنين والرغبة عند الغرب في تجسيد ذكرى الأماكن المقدسة. وفي عام 1581م تمّ للمرة الأولى وبشكل علني إعلان كريتشو على أنها أول مذودٍ في التاريخ، وكان ذلك على يد الفرنسيسكاني الإسباني خوان فرنسيسكو الذي كان يقطن دير آراشيلِّي في روما.

ولكن هل كان لهذا علاقة في اختراع فرنسيس لفكرة المذود ولقائه بالسلطان المُسلم الملك الكامل؟

لا نجد في المصادر الفرنسيسكانية صلة مباشرة بين الحدثين (أي مذود كريتشو وحدث لقاء فرنسيس بالملك الكامل)، لكن فرنسيس اختار عيش الحدثين اللذين يبدو وكأنهما في حالة من التناقض فيما بينهما: المذود الإفخارستيّ في كريتشو عام 1223م ولقائه مع السلطان الملك الكامل الذي كان الأخ الأكبر والخليفة للسلطان الشهير صلاح الدين الأيوبي.

وكما صار المذود اليوم رمزاً للهوية المسيحية، صار لقاء فرنسيس بالسلطان رمزاً للحوار (الأول من نوعه) بين الأديان. ويمكننا القول أن المذود ولقاء قديس أسيزي بالسلطان، حدثان ينتميان إلى الخبرة المسيحية التي عاشها فرنسيس في حياته آنذاك. لقد عرف فرنسيس كيف يجمع بين الهوية والحوار بطريقة فريدة لا مثيل لها، تماماً كما علّم البابا الراحل يوحنا بولس الثاني؛ الرجل ذو الهوية الثابتة، وصاحب المبادرات الشجاعة في الحوار، كتلك التي حملت اسم “روح أسيزي. وأخيراً، كيف تقيّم، باعتبارك دارساً للتاريخ، الجدل الحالي (على الأخص في أوروبا) المذود والرموز الدينية الأخرى؟

وللإجابة على هذا السؤال، ينبغي علينا، قبل كلّ شيء، أن نعرف ونفهم واقع ماضينا وحاضرنا، بتعقيداته وتناقضاته، بعيداً عن الشعارات. إذ لا وجود لحوار بدون هوية، كما يشهد بذلك مثال فرنسيس الأسيزي. فإيمانه الذي جعله يحتفل بليلة الميلاد في مغارة كريتشو، هو نفسه الذي دفعه للقاء السلطان آنذاك.

إذن فالمشكلة تكمن اليوم في الجمع بين الهوية والحوار، تماماً كما فعل فرنسيس نفسه. ولم تكن صدفة، تلك التي دعت البابا الراحل يوحنا بولس الثاني لجعل أسيزي، مدينة القديس فرنسيس، مكان إشعاعٍ ونبوءة ترمز للمصالحة بين الهوية والحوار؛ لأن فيها عاش القديس فرنسيس خبرته المسيحية.

 وخلاصة القول، أنّ ما يقترحه القديس فرنسيس اليوم هو “هوية سمحاء”، أو بعبارة أخرى إيماناً ناضجاً يمكنه أن يكون مضادّاً حيوياً لكل تعصّب يحاول تعميم الجزء على حساب الكلّ. ويكمن عامل التحدّي هنا في إيجاد نقاط علاّم تساعدنا على عيش كلّ ما قلناه سابقاً، ويمكن للمذود أن يكون وبحقٍ إحدى تلك العلامات النادرة[15].

زمن المجيء، زمن الميلاد

 –  إنّه زمن الاستعداد

نستعد فيه ونهيىء أنفسنا لعيشه بطريقة حسنة لكي يحقق الهدف المنشود منه:

 “لان الله يريد استعادة الحوار معنا ويعيدنا من جديد كأبنائه عن طريق مجيء يسوع المسيح ابنه بيننا”.

 –   لقد انتظر الرب طويلاً

في صلاحه اللامنتاهي، انتظر وصبر طويلاً، “طوال العهد القديم”: زماناً طويلاً من الأستعدادات لكي يستعيد الحوار معنا والشوق في أن يرانا ونحن نعود معه الى بيت الآب، بعد رفض آدم وحواء.

يسرد تاريخ العهد القديم المحاولات العديدة للآب حتّى يتمكن من الوصول للبشر وحملهم إليه. إنها حقاً علامة عجيبة لحب الآب الذي أهانه أجدادنا الاولين، أن يعيد من جديد خلق قصة حب معنا.

 –  نحن ثمرة حب رائع

نضع سؤالاً لكي نفكر فيه ونجيب عنه ونحن صادقين أمام ضمائرنا: هل يمكن لإنسان خلقه الله، نفحة روحه الإلهي، أن يحيا بعيداً عن “البيت”؟ بل وأكثر من ذلك هل يمكنه العيش دون أن يتمتع بحب الآب؟

لا نكل من تكرار هذه التأكيد الإيماني: “نحن ثمرة حب رائع”. لذا يجيب الله الآب ذاته على السؤال بأن يعطي الأبن الذي فدانا ويعيد لنا فتح باب السماء أي فتح البيت الذي يجب أن نعود إليه.

أنه زمن ثمين ومقدّس، زمن انتظار فرح معرفة “انّ الله عاد إلينا، صار واحداً منّا ومحملاً بالآمنا لكي يعيدنا أبناءً حقيقيين ووارثين للملكوت”.

 –   لذا علينا أن نسير نحو الميلاد:

بهذه التأملات الروحية وصلوات التساعية نستعد للاحتفال بعيد الميلاد أي بمجيء مخلّص العالم، وتجسّد كلمة الله، يسوع المسيح، المسيا. بلهفة وشوق من ينتظرون قروناً طويلة الملك المنتصر، مُشيّد العدل والسلام.

 –   مسكن الله، حياتنا

مع مظاهر الأحتفالات الخارجية، لا نريد أن نبعد عن جوهر الميلاد: “إن الله، بيسوع المسيح، لم يفتح بحياته وموته أبواب بيت الآب فحسب، بل وأيضاً جعل من حياتنا “بيته”. مع الميلاد صارت حياتنا بيتاً حيث يطلب رب المغارة العيش فيه. لنعود عن الأغتراب الذي نعيش فيه… مع يسوع رأينا أصلنا الذي فقدناه من قبل.

–   استيقظوا فهو آتِ

كن ساهراً ومتنبهاً لكي توسّع مجال المحبة: هو يأتي كل يوم، كل لحظة من لحظات حياتنا. يأتي كضيف وعليك أن تتعرّف عليه منذ الآن في كل إنسان وبالذات في الفقير والمتألم والمهمش والمرفوض والوحيد ومن “لا يجد أحداً يحبه”.

لا يبقى لنا سوى أن نذهب، بعد ذلك، للقائه ونحن حاملين رجاء الرعاة الساهرين والمتواضعين. ليكن هو من يشغل المكان الأوّل في حياتك، لانه الوحيد القادر على أن يمنحك الفرح كما ترنّم به الملائكة عند مولده[16].


[1]  أقوال الآباء عن الميلاد،««http://www.marnarsay.com، يوم 28/ 11/ 2011، الساعة 16.

[2]  كتاب تاملات البابا بندكتس السادس عشر ،«http://www.marnarsay.com»،  29/ 11/2011، الساعه 18.

[3]  كتاب تاملات البابا بندكتس السادس عشر ،«http://www.marnarsay.com»،  29/ 11/2011، الساعه 18.

[4]  صلاة الساعات للكنيسة الكاثوليكية اللاتينية باللغة العربية، الجزء الثاني ( الملجد الأول)، كتاب القراءات، الاب جورج سابا، القدس 2002، ص 72-  74.

[5]  كتاب من هو الله،  الاب إلياس اليسوعي، موسوعة المعـرفة المسيحيّة، العـقيدة (4)، دار المشرق ـ بيـروت

  « http://www.coptcatholic.net »، 1/ 12/ 2011، الساعه 16.

[6] صلاة الساعات للكنيسة الكاثوليكية، مرجع السابق، ص 72-  74.

[7] كتاب تاملات البابا بندكتس السادس عشر ،«http://www.marnarsay.com»، 29/ 11/2011، الساعه 18

[8]  أقوال الآباء عن الميلاد،««http://www.marnarsay.com، يوم 28/ 11/ 2011، الساعة 16.

[9]  صلاة الساعات للكنيسة الكاثوليكية، مرجع السابق، ص  110- 112.

[10]  الأب منتصر حداد، كاهن من ابرشية الموصل للسريان الكاثوليك  العراق،  http.//www.zenit.org»»، يوم 29/ 11/ 2011،  الساعة 9.

[11]  عظة البطريرك فؤاد طوال، القدس للاتين http.//www.zenit.org» »، 25/12/  2008، الساعة21.

[12]  فقرة رقم 6 ( زمن الميلاد) تأملات الأب لوكاس حلمي رئيس دير الآباء الفرنسيسكان بالأقصر.

[13]  عظة البابا البابا بندكتس السادس عشر يوم 24/12/ 2010، « http.//www.zenit.org »، 25/ 12 / 2010، الساعة 22.

 [14]  عظة البطريرك فؤاد طوال، القدس للاتين http.//www.zenit.org» »، 25/12/  2008، الساعة21

[15]  سؤال يجيب عليه أحد المختصِّين في تاريخ العصور الوسطى بجامعة القديس أنطونيوس البادواني الحَبريّة في روما، بقلم الأب بييترو ميسَّا أسيزي، الخميس 1 /1/ 2009، « « http: //www.zenit.org، يوم 29/ 10/ 2011، الساعة 21.

[16]  تأملات الأب لوكاس حلمي رئيس دير الآباء الفرنسيسكان بالأقصر