باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد. آمين .
من الأنبا أنطونيوس نجيب ،
بنعمة الله، بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك ،
إلى إخوتنا المطارنة، وأبنائنا القمامصة والقسوس ،
والرهبان والراهبات والشمامسة ،
وإلى جميع أبناء الكنيسة القبطية الكاثوليكية ،
على أرض الوطن، وفى بلاد الانتشار .
” ورجاؤنا لا يخيب،
لأن الله سكب محبته فى قلوبنا بالروح القدس الذى وهبه لنا ”
( رومة 5 : 5 )
– فتحت لنا قيامة المسيح باب الرجاء لحياة جديدة. كسرت شوكة الخطيئة. هزمت سلطان الموت. حطـّمت قيود العبودية. حرّرت قوى الخير. أعادت إلينا كرامة أبناء الله … مع يسوع نردّد كلمات المرنـّم : ” الرب راعيَّ، فلا يُعْوِزُنى شىء .. لو سرت فى وادى ظل الموت لا أخاف شرا، لأنك أنت معى” ( مزمور 23 : 1 و 4 ) …عَبَر يسوع وادى الموت وانتصر. وقام من بين الأموات، وها هو حي يرافقنا ، ويمنحنا يقين الرجاء أننا معه لا نخاف شرا … هذا الإيمان هو الذى يمنح للحياة الأساس الجديد والمعنى الحقيقى. نستطيع أن نستد إليه بكل ثقة، فننطلق إلى حياة تنبع من محبة مَن أحبنا حتى النهاية وبذل ذاته من أجلنا، فنمتلىء بهذا الحب ونفيضه على إخوتنا.
– ويتساءل الكثيرون : هل يوجد مكان للرجاء اليوم ؟ … فى زمن الرسل والكنيسة الأولى، كان المؤمنون ممتلئين بالإيمان والحماس والمحبة لله، فكان رجاؤهم عظيما … قدّيسون وشهداء كثيرون عاشوا فى صلة وثيقة بالله، وأحبّوه فوق كل شىء، وبذلوا حياتهم من أجل مَن أحبّهم وأحبنا … أما فى عالم اليوم فيبدو كأن لا مكان للرجاء، فالإيمان يتناقص، الممارسة الدينية تنحسر، المادية والنفعية تتسلط، الأنانية تحكم كل شىء وكل شخص، الأمانة تغيب والصدق يختفى، الحضارات والإيديولوجيات تتصارع وتتناحر … فهل من مكان للرجاء ؟
– أولا ليس صحيحا أن كل الأمور صارت قاتمة وكئيبة. هناك الكثير والكثير من الخير فى الأشخاص، فى العائلات، وفى المجتمع … هناك الأمناء والصادقون والشرفاء، والمسئولون والعاملون المتفانون. هناك الأمهات والآباء المُضَحّون، وقد تابعنا فى عيد الأسرة تكريم الكثيرين منهم. هناك الأبناء والبنات الأوفياء، والأصدقاء المخلصون، وفاعلو الخير الكرماء والأسخياء، وأغلبهم يعطون فى الخفاء، لا يعرفهم إلا الله. هناك المتمسّكون بالقٍيَم الروحية والأخلاق السامية. وها هم كثيرون يتفانون لبناء مستقبل الوطن … هؤلاء جميعا يحملون دوما شعلة الرجاء .
وفى المجال الدينى، هناك متديّنون ملتزمون بواجباتهم الدينية، يتمتـّعون بفكر مستنير وعقل متفتـّح وقلب متـّسع للغير … وها هو سيادة الرئيس المحبوب يشدّد أكثر من مرة على الحاجة إلى خطاب ديني مستنير، يرتقى بالسلوك ويرسّخ القِيَم والعمل والاجتهاد. كما أعلن فى المجلس الأعلى للشئون الإسلامية وفى عيد المولد النبوى الشريف ( الأهرام 19 / 3 / 2008 – ص 3 ).
أما عن العلاقة بين الحضارات والأديان، فها هى مبادرات التلاقى والتقارب تتزايد باستمرار. فى الشهر الماضى التقت هنا فى القاهرة لجنة الحوار الدينى بالفاتيكان مع اللجنة المماثلة بالأزهر الشريف. وتناول اللقاء محبة الله ومحبة القريب، واستنكر بشدّة كل إساءة للأديان … وبعدها بقليل استقبل الفاتيكان وفدا يمثـّل مجموعة العلماء المسلمين، الذين وجّهوا فى أواخر العام الماضى رسالة لقداسة البابا ولكل رؤساء الكنائس المسيحية، داعين إلى الحوار المرتكز على محبة الله ومحبة القريب، وتحدَّد ميعاد للقاء المجموعة مع قداسة البابا بندكتوس 16 قريبا … وتوجد مبادرات أخرى مماثلة فى أماكن كثيرة. فليس هناك صراع بين الحضارات والثقافات، بل تكامل وإثراء وتضامن.
هذه كلها أسباب رجاء قوى للحاضر والمستقبل، ومصدر فرح لنا : “كونوا فرحين فى الرجاء، صابرين فى الضيق، مواظبين على الصلاة “، يقول بولس الرسول ( رومة 12 : 12 ) … الكنيسة حيّة بحياة المسيح فيها. الكنيسة فى شباب متجدّد على الدوام، يثير الرجاء ويقوّى الثقة … وإذا كانت بعض مظاهر التديّن قد توارت، فقد ظهرت أشكال أخرى جديدة واعية وواعدة تنمو وتزدهر .
– وأهم من كل ذلك، هو أن الرجاء لا ينطلق من عوامل بشرية أو إمكانيات مادية أو مظاهر اجتماعية. نحن لا نضع رجاءنا فى كثرة عددية، ولا فى وفرة موارد أموال، ولا فى تحقيق مطامع أو مصالح، ولا فى امتلاك المعرفة والعلوم … فلو كانت هذه هى سبب رجائنا، لوقعنا سريعا فى اليأس والإحباط … أساس رجائنا هو الله، هو الرب يسوع القائم من بين الأموات، الذى فتح لنا الطريق إلى الحياة الأبدية … يعلن بولس الرسول : ” إذا كان رجاؤنا فى المسيح لا يتعدّى هذه الحياة، فنحن أشقى الناس جميعا ” ( 1 كورنثوس 15 : 19 ) .
– ليست الديانة مسكـّنا لقلقنا وأوجاعنا، ولا حلا سحريا لمشاكلنا. إنها تقدّم لنا الركيزة الصلبة لرجائنا، وهو إيماننا بقيامة الرب يسوع من بين الأموات … به نحن على يقين أن هيمنة الموت أكذوبة، لأن الكلمة الأخيرة صارت للحياة. فالفصح عبور إلى الحياة الجديدة … قام المسيح من بين الأموات. بقى القبر فارغا، لأن يسوع أفرغه من قوّته وسلطانه. ومع بولس نهتف قائلين : ” الموت ابتلعه النصر. فأين نصرك يا موت، وأين يا موت شوكتك ؟ ” ( 1 كورنثوس 15 : 54 – 55 ).
– إلى ماذا يدعونا رجاؤنا فى مسيح القيامة ؟ … إنه يدعونا أولا وآخرا إلى السير على طريقه : أن نعيش المحبة، حتى النهاية. أن نحب القريب والغريب، الصديق والعدو، الجائع والعطشان والعريان، الفقير والمريض والمُهمَّش، المظلوم والمطحون … يدعونا إلى الحق والعدل، الصدق والأمانة، العدل والسلام، الحب والبذل والعطاء … أن نكون على مثاله ونتبع خطواته، حتى إذا قادتنا إلى أن نعبر معه وادى ظلال الآلام والموت … فنحن على رجاءٍ يقين بأننا نسير به ومعه إلى القيامة والحياة. مهما كان الليل حالكا، نرجو فى فجر نور جديد، لأن الله أمين : ” فالذى دعاكم أمين، يفى بوعده ” ( 1 تسالونيكى 5 : 24 ) .
– والرجاء ليس معناه موقفا سلبيا فى الحياة … هناك من يكتفون بالأمنيات والأحلام، أو ينتظرون أن يلقى الناس بين أيديهم ما يحتاجون إليه، أو يداومون على الشكوى والبكاء على أحوالهم دون أن يعملوا شيئا لتغييرها … وعلى النقيض الآخر، هناك من يسعون إلى تحقيق آمالهم بقوّتهم الشخصية. ينسون الله ووصاياه، ويتدبّرون أمورهم متـّكلين على ذواتهم. ومن هنا تأتى المفاسد والشرور، والعنف والظلم.
أما الرجاء الصحيح فينطلق من المشاركة مع المسيح الذى ” ضحّى بنفسه ليفدى جميع الناس ” ( 1 تيموتاوس 2 : 6 ) … الرجاء دعوة إلى العمل، إلى بذل الذات. فمن يحب الله حقا، يحب قريبه أيضا، ويشعر بمسئوليته نحوه … ” نحن أسرى محبة المسيح – يقول بولس الرسول – .. هو مات من أجل جميع الناس، حتى لا يحيا الأحياء من بعد لأنفسهم، بل للذى مات وقام من أجلهم ” ( 2 كورنثوس 5 : 14 ). الحياة للمسيح تعنى إذا الحياة من أجل الآخرين … والرجاء ليس هروبا من الواقع الحالى والجهاد اليومى. لأن رجائى بأن أعاين وجه الله القدوس يوما فى الأبدية، يبدأ بأن أراه وأخدمه هنا اليوم فى وجه إخوتى وأخواتى.
– محبة الله وحدها تستطيع أن تعطى الإنسان رجاء الخلاص … ” فى الرجاء خلاصنا ” ( رومة : 24 ) … وهذا ما نختبره فى حياتنا البشرية. فعندما يعيش الإنسان خبرة حب عميقة، يشعر أن حياته تأخذ معنى وطعما جديدا. ولكن سرعان ما يدرك أن هذا الحب وحده لا يحلّ مشكلة حياته. فسيبقى هذا الحب هشا، معرَّضا للتقلب والزوال … يحتاج قلب الإنسان إلى الحب الدائم، الثابت، غير المتغير … كما يحتاج الرجاء إلى قوة اليقين، التى تجعله يقول مع بولس الرسول : ” لا الموت ولا الحياة .. لا الحاضر ولا المستقبل. لا قـُوى الأرض ولا قوى السماء، ولا شىء فى الخليقة كلها، يقدر أن يفصلنا عن محبة الله فى ربنا يسوع المسيح ” ( رومة 8 : 38 – 39 ) … متى امتلأنا بهذا الحب المُطلق، امتلأنا بالرجاء الذى لا يهتز ولا يضعف ولا يغيب .
– كيف نستطيع أن نحفظ وننمّى فينا الرجاء ؟ … الصلاة هى مدرسة الرجاء. فى الصلاة أنا أعرف وأثق أن الله يسمعنى، حتى لو كنت وحدى. وإذا لم يكن هناك أحد أرفع إليه طِلبتى، أستطيع دائما أن أخاطب الله، وهو يصغى إليَّ. إن لم يكن هناك مَن يقدر على مساعدتى، هو قادر على كل شىء. إذا شعرت بأننى وحيد ومتروك من الجميع، ففى الصلاة لا أكون أبدا وحيدا … والصلاة مدرسة الرجاء، لأنها تكشف لى ما يطابق إرادة الله، وما استطيع بالتالى أن أنتظر منه. تعلمنى أننى لا أستطيع أن أطلب أو أرجو شيئا يضر الغير، أو أمورا سطحية ومصالحا وقتية لتتحقـّق فى الحال … الصلاة بوتقة تنقـّى فيَّ الرغبات والأمنيات، وترفعنى إلى الرجاء الصحيح، رجاء الحياة كأبناء الله الأمناء. عندئذ نستطيع بنعمة الله أن نزرع الرجاء فى قلوب الآخرين، وأن نفتح آفاق العالم لحضور وعمل الله.
– علينا أن نكون شهود رجاء فى العالم : نشهد للرجاء الذى فينا، بالإيمان الذى لا يتزعزع ولا يضطرب، لأن الرب يسوع حاضر فى سفينة حياتنا، يقودها ويوجّهها إلى الميناء الأمين … ونشهد للرجاء بالمحبة التى نعيشها مع جميع الناس، لا نفرّق ولا نميّز ولا نتعاظم، وإنما نجمع ونوحّد ونتواضع … ونشهد للرجاء بخدمة السلام والمصالحة والصفح والمغفرة … شهادة ٌ للرجاء تتبع خـُطى مسيح القيامة، تنتصر على البُغض بالحب، و الحب حتى النهاية … ” ورجاؤنا لا يخيب، لأن الله سكب محبته فى قلوبنا بالروح القدس الذى وهبه لنا ” ( رومة 5 : 5 ) .
– ولنا فى أمنا العذراء مريم قدوة الرجاء، الذى لا يهتزّ ولا يضعف. فمنذ لحظة بشارتها بميلاد السيد المسيح، وحتى قيامته وصعوده إلى السماء، لم تفقد رجاءها الحي فى مسيرة المسيح. فهى بحق ” أم الرجاء “، المبنى على إيمان عميق، وتواضع كامل، وقبول تام لإرادة الله، ومحبة فائقة للمسيح وعمل الفداء .
– نصلى متـّحدين مع قداسة البابا بندكتوس السادس عشر وإخوتنا البطاركة والأساقفة، لكى يسود السلام عالمنا وبلادنا، وبخاصة فى فلسطين والعراق ولبنان والسودان، وسائر البلدان. فالسلام هو هبة الله لبنى الإنسان، وفيه وحده رجاء حياة أفضل.
– وفى هذا المساء المبارك، نرفع إلى رئيسنا الجليل محمد حسنى مبارك، آيات الشكر والتقدير. ونصلى أن يمنحه الله القوى القدير القوّة والعمر الطويل، ليظل قائدا لمسيرة النهضة والحرية والعدالة … كما نصلى من أجل كل مسئول فى وطننا الحبيب. سدّد الله خـُطى المخلصين، الذين يسهرون لتقدّمه، ويرعون مصالح الناس فى إيمان ورجاء. وحفظ الله قواتنا المسلحة، درع الوطن وحماة الحاضر والمستقبل ن لتظل مصر وطن الأمن والمحبة والسلام .
قام المسيح، حقا قام. وكل عام وأنتم بخير،