سيناريوهات مستقبل مصر بعد ثورة 25 يناير

مدنية أم دينية

 

– خاص بموقع كنيسة الإسكندرية القبطي الكاثوليكي:

ما أكثر التحليلات والتفسيرات والبرامج والكلمات التي تَدّعي فهمها للثورة وتظن امتلاكها لمفاتيح الحل والمستقبل والنهضة، وما أكثر المخاوف التي يحياها كلُّ قارئ متأني لأوضاع الوطن التي لا يبدوا لها تحسن، والحقيقية هي أنه يصعب على أي أحد أن يدعي أنه يفهمها فهما كاملا. والأيام القادمة هي التي ستحدد شكلَّ ومستقبل "دولة كانت عظيمة" ولكنها الآن أبعد ما تكون عن هذا الماضي العظيم والخالد، وعن العظمة كما تحددها قواميس الاقتصاد والعلم والعقل.

فالحقيقة هي أن مصر الحالية هي من الدول الأكثر فقرا وتخلفا علميا واجتماعيا، لدرجة أنها من الدول المصدرة للفكر المتعصب والسلفي، ومن الدول التي يتفشي بها الفساد بشكل منظم، مما دفع البعض لوصف فسادها بأنه "ليس فساد الدولة بل دولة الفساد"، وهي دولة، بحسب التقارير الخاصة بالأمم المتحدة، لا تحترم حقوق الإنسان، ولا البحث العلمي أو الفكر العلمي أو التعددية الحزبية أو الدينية… وباختصار هي دولة من دول العالم الثالث، التي ينظر لها بكثير من الشفقة والحسرة والتحسر.

وبما أن الثورة جعلتها وجعلتنا أمام مفترق طرق، وجددت الأحلام والمخاوف، وجعلت الجميع يشعر بأن عليه واجب ودور، وأنه ابن لهذه الأرض، فدعونا نطرح السؤال: ما شكل الدولة المصرية القادم؟ هل ستكون دولة مدنية أم دينية؟

·         دولة دينية:

إن القراءات المتشائمة تؤكد أن مصر تسير نحو مزيد من التعصب الديني والانغلاق والطائفية، وهي قراءات تقوم على حقيقة تأصل الفكر الديني والإنغلاق الديني المتطرف – لفترات طويلة – بين عدد لا يستهان به من عامة الشعب، وكذلك على نشاط السلافيين والإخوان المسلمين الواضح والمتزايد في الفترات الأخيرة. والدليل هو ما يدور في الأيام الأخيرة الحوار حول "المادة الثانية" من الدستور والدعوات المُفزعة والمُرهبة بعدم المساس بدين الدولة وتأكيد شعار "الاسلام هو الحل" والمناداة بأنه قد حان الوقت للعيش بحسب الشريعة والرجوع إلى أصول الدين.

إنها قراءات لا يمكن تجاهلها أو السخرية منها أو إدعاء عدم تجزرها في الواقع اليومي للمصريين، وإليكم بعض الحقائق التي تؤكد هذا والتي لا يمكن لعاقل أن يشكك فيها مثل:

          الإتباع الساذج في الآونة الأخيرة لمبدأ "التقية" (الخداع المسموح به) وإدعاء أنه برغم القوة التنظيمية للإخوان المسلمون إلا أنهم سيفعلون كل شيء لكي لا يحصلوا على الأغلبية البرلمانية، وهذا شيء مضحك ومبكي لأنه لا يمكن لعاقل أن يصدق أن حزب سياسي يمكن له أن يكتسح المقاعد ولكنه يرفض لإعطاء فرصة للآخرين!!! إنها مثاليه مضحكة. 

          إدعاء أن المطلوب هو "دولة مدنية تقوم على أساس الإسلام والشريعة الإسلامية" بحجة أن أغلب السكان يدينون بالإسلام، وهو أيضا إدعاء مضحك مبكي لأن أول شروط الدولة المدنية هو الفصل بين الدين والدولة، فالجمع بين المدني والديني كالجمع بين الزيت والماء، فإما مدنية تقوم على أن "الدين لله والوطن للجميع وإما دينية تقوم على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع"، وأي كلام أخر هو كلام فارغ ولا يستحق حتى وقت مناقشته.

         الإعلان عن تأسيس حزب سياسي على اساس ديني (الحرية والعدالة) وهو مخالف للدستور الحالي برغم وجود المادة الثانية، أي عدم احترام الدستور المصري الذي يمنع تأسيس أحزاب على أساس ديني، فكيف لمن لا يحترم الدستور أن يحترم "مدنية الدولة"؟

          ردود الأفعال العصبية والمتشنجة والانفعالية للأغلبية الساحقة بخصوص إلغاء المادة الثانية بداية من الأزهر الذي اعتبرها من "الثوابت" ومظاهرات السلفيين وتصريحات بعض الشيوخ ورجال الإعلام المشهورين والتي نذكر منها: "سندافع عن المادة الثانية حتى الموت"، "من يمس بها يمس بوحدة مصر وأمنها"…. وهي أقرب ما يكون إلى  التهديدات الصريحة والتي تؤكد أن المجتمع المصري أبعد ما يكون عن الديمقراطية الحقيقية لأنه يبدأ حواره بشجب الحوار، ويريد أن يؤسس لديمقراطية تقوم على الرأي الواحد، بل الرأي الأوحد.

          حقيقة أن الإسلام هو دين ودولة وبالتالي استحالة فصلهما كما تتطلب الديمقراطية.

          اللجنة الدستورية التي كونتها الهيئة العليا للجيش المصري والتي يرأسها ويغلب عليها الطابع والاتجاه الإسلامي الإخواني.

 

·         دولة مدنية

الدولة المدنية هي الدولة التي تقوم على سيادة القانون وعلى المؤسسات وعلى التخطيط العلمي والمستقبلي وعلى احترام حرية الفرد، وحرية التعبير والإعلام، وحرية العقيدة، واحترام مبدأ الفصل بين الدين والدولة ومبدأ المواطنة والمساواة الكاملة بين جميع المواطنين، بين الرجل والمرأة، وبين المسلم والمسيحي وبين كل الفئات بغض النظر عن حجمها أو تأثيرها أو دورها.

وهي الدولة التي كان يريدها أغلب ثوار التحرير: "لا دينية ولا بوليسية، مدنية، مدنية"، وهي بالطبع الحلم الأعظم للسواد الأكبر من مثقفي مصر الحقيقيين وأبنائها المخلصين ولكل من يريد خير هذا الوطن، أي كل من يؤمن بالتنوع والحرية للجميع بدون تفرقة على أساس الدين أو العرق أو الجنس أو المستوى الاجتماعي، وكل من يعرف أن موضوع "الدولة المدنية على أساس شريعة دينية" هو درب من الخيال الواهم، وأن الديمقراطية لا يمكن أن تتحقق إلا بالتخلي عن التشنج الديني وبناء المستقبل على أساس المواطنة التي يشترك فيها جميع أبناء الوطن باختلاف اتجاهاتهم الثقافية أو الدينية أو العلمية.

واعتقد أن الدولة المدنية هي أصعب ما يكون عن الواقع، إنها "الحلم المستحيل"، للأسباب الآتية:

          التفشي المخيف للفساد، وللجهل، وللفقر، ولظاهرة استغلال الدين وثقافة تدين كل شيء والاكتفاء بظاهر الأشياء دون تكلفة النفس مشقة التفكير والبحث… وهو أمر لا يستطيع أن ينكره سوى الأعمى، وبالتالي عدم وجود "قاعدة" شعبية يمكن البناء عليها بشجاعة؛

          عدم وجود "إرادة شعبية حقيقية ومؤثرة" تفهم معنى "مدنيّة الدولة" ومستعدة لفعل أي شيء للوصول لها، دون الخوف من التيارات السلفية أو من المقاومة والرفض المبدئي والطبيعي لأي تغيير حقيقي، فالإنسان عامة يحلم بالتغير ولكنه يخشاه، يصيح بالثورة ولكنه يرفض الثمن؛

          عدم وجود "قائد" قوي يملك حجة الحديث والمنطق، لا قوة السلاح والبطش، لديه رؤية واضحة وعلمية ومستعد أن يموت من أجلها لإيمانه بالوطن وبمصر وبالمستقبل. فأكثر ما يقلق في ثورة يناير أنها قامت بلا رأس، بلا قائد، بلا خطة، قامت كالانفجار البركاني أمام الفساد والظلم "لتسقط النظام" والحقيقة هي أن البلاد لا تبنى بالهدم، فالهدم لا قيمة له ما لم يكن بهدف البناء، فهدم نظام فاسد بدون "خطة حقيقية لنظام عادل" هو أخطر من "النظام الفاسد" ذاته– والدليل على هذا أن مطالب الثوار (الذين لا شكل واضح لهم ولا أحد يستطيع أن يتكلم باسمهم) تتغير وتزداد كل يوم، وقد أصبح من حق أي/كل شخص أن يدعي أنه من الثوار وأن تألم من القنابل المثيرة للدموع الفاسدة وأنه خاطر بحياته… وقد يكون هذا حقيقي ولكنه يدل على تخبط الرؤى وتشعبها وتضادها، وبالتالي استحالة بناء مستقبل واضح على رؤى غير واضحة- ولنأخذ الثورة التركية كمثل ودور أتاترك كقائد لها صمم على فصل الدين عن الدولة ونجح في جعل تركية دولة لها قيمة ومستقبل؛

          غياب الأمن وهو أول شروط بناء المستقبل، فكيف نبني المستقبل ونحن لا نكف عن إهانة الشرطة وتحقيرها، في حين أننا نحيا بين المجرمين الذين هربوا من السجون (حوالي 15 ألف سجين)، وبين البلطجية الذي يسيطرون على بعض المناطق والشوارع ويفرضون الإتاوة ويبطشون بكل من يخالفهم؟؟؟؟ لا وجود لدولة بدون أمن ولا وجود لأمن بدون احترام للشرطة… فالغريب هو أن الجميع يريدون القصاص من جهاز الشرطة ويدعون في نفس الوقت أنهم يريدون دولة مدنية تقوم أساسا على "سيادة القانون"!!!.

 

كل هذا يؤكد أن قيام دولة مدنية ديمقراطية ليست إلا دربا من الخيال العلمي، يحلم به الجميع وقليلون هم المستعدون حقيقة للدفاع عنه، وذلك لأنه مكلف جدا وإليكم بعض شروطه:

 

·      لن تقوم وتنهض مصر ولكن تكون دولة مدنية ديمقراطية  إلا:

          إذا غابت النعرات الطائفية البغيضة ودافع كل فرد عن حقوق الآخرين بنفس القوة التي يدافع بها عن حقوقه؛

          إذا ابتعد رجال الدين عن "تًدين" أفكار وضمائر البشر والتكلم بطريقة مطلقة وكأنهم "يمتلكون الحقيقة" والمسئولين عن توزيعها وتفسيرها وبيعها وشرائها ومنحها ومنعها؛

          إذا دافع القوي عن الضعيف، لأنه التحضر يقاس بدرجة حماية الأكثرية للأقلية ودفاع المجتمع عن المظلوم والمقهور. يستحيل على المجتمعات أن تتقدم إذا أسّّكَّتَ فيها القويُّ الضعيفَ وأخرسه وأدعى أنه "يمن" عليه عندما يتركه يعيش على أرض وطنه، أو عندما يتكلم فيها البعض عن الجزية وأهل الذمة؛

          إذا قام المثقفون بدورهم في خلق "فكر حر" لا يخاف بطش الأكثرية، ولا يبحث عن دغدغة مشاعرها باللعب على وتر الدين، ما لم يدافعوا عن الحق بدون تصفيق ورياء لأصحاب السلطة (بالأمس مبارك واليوم الثوار) أي بدون أن يبيعوا أفكارهم وآرائهم لمن يدفع أكثر؛

          إذا انتقلنا من الهدم للبناء، ومن الشجب للعمل، ومن اتهام الآخرين لاتهام أنفسنا- فمن من لم يشارك في الفساد؟ ومن منّا يمكنه أن يدعي أنه "صاحب الأيادي الطاهرة"؟ ومن منا لم يصفق ويغني ويرقص أو على الأقل يصمت أمام الظلم والرشوة والفساد؟؟؟؛

          إذا نظرنا بشجاعة لتجارب الشعوب الأخرى وتبنيناها كاملة ودافعنا عنها بدون تقسيم أو تجزيء أو انتقاء أو تبرير أو بسبسه (بحث عن حجج)؛

          إذا لم ندعو علماء مصر ورجال الفكر والثقافة الحقيقيين ونطلب منهم أن يضعوا خطة مدروسة للمستقبل وأن يتبنوا الثورة ويأخذوا مسئولية قيادته ويتحملوا الحساب عن نجاحهم أو عن فشلهم؛

          إذا ما كان رفضنا للماضي الفاسد يعادل شجاعتنا في بناء المستقبل؛

          إذا ما تخلينا عن الغناء بأمجاد الأجداد والفراعنة والأهرام، فالمجد الحقيقي هو المجد الذي يُبني في الحاضر ويحياه الناس بدون أوهام وهو مجد لا يحتاج لا لإغاني ولا لإشعار؛

          إذا ما تخلينا عن ثقافة "اتهام الآخرين" للتهرب من مسئوليتنا؛

          إذا لم يخلع المخادعون الأقنعة عن وجهوهم ويكفوا عن ازدواجية الخطاب، وازدواجية الطرح، فأمام الإعلام يكون خطابهم مفعم بكلمات الأشعار والأماني وبعيدا عن الكاميرات يضحى الخطاب مختلفا تماما، فالمصارحة هي بداية أي حوار وأي تقدم حقيقي؛

          إذا ما تخلينا عن الأوهام وكفينا عن تخبئة الرأس في الرمال وواجهنا بحزم وقوة كل الأكاذيب التي عيشونا ويعيشونا فيها، والتعلم من التاريخ لا التغني به؛

          إذا لم يدافع المسلمون قبل الأقباط عن فصل الدين عن الدولة وعن تحقيق المساواة الكاملة بين المواطنين كدعائم لا غنى عنها من أجل "خير الجميع" ومن أجل مستقبل مصر وتقدمها. فأكثر ما يدعوا للحزن أن الأمر أصبح وكأنه مطلب قبطي وهو في الحقيقة مطلب وطني يجب على الجميع الدفاع عنه، لأن فصل الدين عن الدولة هو تكريم للدين وتكريم للدولة.

 

وبما أن التاريخ يؤكد أنه لا يمكن لجماعة أو تيار فكري أن يتحوّل بين ليلة وضحاها من جماعة متطرفة في رؤيتها وفي منهجها وفي شعاراتها إلى جماعة تفتح أبوابها للجميع وتحتضن الجميع وتدافع عن الجميع، وذلك بموافقة جميع أعضائها – وهنا نتساءل هل هذا عن اقتناع أو فقط لإقناع أو لخداع الساذجين؟؟؟

وبما أن التيارات السلفية خرجت من الجحور وتطالب الآن بتأسيس حزب سياسي جديد،

وبما أن أصوت "الثوار" والمثقفين الحقيقيين تزداد كل يوم ضعفا أمام صرخات المتشددين،

وبما أن هناك كثير من المصالح الإقتصادية والإقليمية والدولية التي تتحكم في مصائر دول العالم الثالث،

وبما أن التعديلات الدستورية الأخيرة منعت وبشكل واضح ومقصود أشخاص عظماء من الترشح للرئاسة،

وبما أن الوقت المتبقي للإنتخابات البرلمانية والرئاسية لا يسمح سوى لأحزاب وأشخاص بعينيهم بالترشح،

فإن قيام مصر دولة حرة ديمقراطية أشبه ما يكون بالمستحيل والمستحيل عادة لا يتحقق إلا بمعجزة!!!

 

وليحمي الرب مصر وشعبها  

 \"\"

ملحوظة: يرجى من الجميع المشاركة بالرأي على الفيس بوك لأن الهدف من هذه الأفكار هو الحوار الذي سيغني الجميع . 

 

http://www.facebook.com/abuna.Yoannis#!/abuna.Yoannis/posts/179110812133285

 

للمزيد أنظر: قراءة متأنية لأحداث سونامي الثورة: مجرد رؤية كنسية للأحداث الجارية

على هذا الرابط:

http://www.coptcatholic.net/section.php?hash=aWQ9NzQzNw%3D%3D

وأيضا:

http://www.facebook.com/abuna.Yoannis#!/abuna.Yoannis/posts/2032431430233