مقابلة استثنائية أجرتها قناة راي أونو الإيطالية مع البابا بمناسبة الجمعة العظيمة

 

بندكتس السادس عشر والألم: "أنا أيضاً أطرح على نفسي التساؤلات عينها"

روما، الجمعة 29 أبريل 2011 (Zenit.org)

"أنا أيضاً أطرح على نفسي التساؤلات عينها. لم ينبغي عليكم أن تعانوا كثيراً، في حين أن آخرين يعيشون بهناء؟ ليس لدينا أجوبة، ولكن…": هذه هي بداية إجابة بندكتس السادس عشر عن سؤال اليابانية إيلينا البالغة من العمر 7 سنوات.

هذا ما قاله بندكتس السادس عشر في مقابلة استثنائية أجرتها معه رايو أونو، شبكة التلفزة الأولى في القطاع العام الإيطالي، في إطار برنامج "A sua immagine" (على صورته).

وافق البابا على الإجابة عن أسئلة أرسلت مسبقاً من قبل مشاهدين من بلدان مختلفة. وقد بث البرنامج المسجل نهار الجمعة العظيمة من الساعة الثانية وعشر دقائق ولغاية الثالثة والنصف عصراً.

بداية قامت فتاة يابانية بطرح سؤالها، وتلاها شباب من العراق، ومسلمة من ساحل العاج، وأم ولد يعيش في حالة غيبوبة… إنها أسئلة عن الألم، السلام، والاضطهاد.

ننشر في ما يلي الأسئلة والأجوبة السبعة التي نشرتها دار الصحافة الرسولية.

***

1-سؤال فتاة يابانية – إسمي إيلينا، أنا يابانية وعمري سبع سنوات. أشعر بخوف شديد لأن المنزل الذي كنت أشعر فيه بالأمان اهتز بشكل هائل وكثيرون من أترابي لقوا حتفهم. لا أستطيع الذهاب لألعب في المتنزّه. أسألكم: لم ينبغي علي أن أخاف كثيراً؟ لم ينبغي على الأطفال أن يكونوا تعساء جداً؟ أسأل البابا الذي يتحدث مع الله أن يوضح لي هذا الأمر.

بندكتس السادس عشر – عزيزتي إيلينا، أحييك من صميم قلبي. وأنا أيضاً أطرح على نفسي التساؤلات عينها. لم ينبغي عليكم أن تعانوا كثيراً، في حين أن آخرين يعيشون بهناء؟ ليس لدينا أجوبة، لكننا نعلم أن يسوع تألم مثلكم أنتم الأبرياء، وأن الله الحقيقي الذي يظهر نفسه في يسوع هو بقربكم. هذا يبدو لي في غاية الأهمية حتى ولو أننا لا نملك أجوبة وأن الحزن يبقى: الله حاضر إلى جانبكم وتستطيعون أن تكونوا واثقين بأن هذا سيساعدكم. ويوماً ما، سنفهم السبب. حالياً، من المهم أن تعلموا أن "الله يحبني، حتى ولو يبدو أنه لا يعرفني. كلا، إنه يحبني وهو حاضر بقربي". يجب أن تكونوا واثقين بأن كثيرين في العالم، في الكون، يدعمونكم ويفكرون فيكم ويبذلون قصارى جهدهم من أجلكم، ولمساعدتكم. كونوا مدركين أنكم يوماً ما ستفهمون أن هذه المعاناة لم تكن بلا نتيجة وغير مجدية، وإنما يوجد وراءها تدبير جيد، تدبير محبة. هذا ليس من قبيل المصادفة. كوني متأكدة أننا معك ومع جميع أطفال اليابان المتألمين، وأننا نريد مساعدتكم بالصلاة والأفعال، وكونوا على يقين أن الله يساعدكم. لذلك، نصلي معاً لكي يضيء عليكم النور بأسرع وقت ممكن.

2- سؤال أم إيطالية اسمها ماريا تريزا – صاحب القداسة، هل روح ابني فرنشيسكو الذي يعيش في حالة غيبوبة منذ يوم الفصح سنة 2009 فارقت جسده نظراً إلى أنه لم يعد واعياً، أم أنها ما تزال فيه؟

بندكتس السادس عشر – بالطبع، إن روحه ما تزال حاضرة في جسده. الوضع مشابه لقيثارة أتلفت أوتارها ولم تعد قادرة على الرنين. الآلة أي الجسد هي أيضاً هشة وضعيفة، والروح لا تستطيع الرنين إن جاز التعبير لكنها حاضرة. كما أنني متأكد من أن هذه الروح المستترة تحس في أعماقها بمحبتكم حتى ولو أنها لا تفهم تفاصيلها وكلماتها وغيرها. لكنها تشعر بحضور محبة. لذلك، أيها الأهالي الأعزاء، أيتها الأم العزيزة، إن وجودكم إلى جانبه يومياً طيلة ساعات هو فعل محبة حقيقي ذات أهمية كبرى لأن هذا الحضور يتغلغل في قرارة هذه النفس المستترة وفعلكم يشكل بالتالي شهادة إيمان بالله، إيمان بالإنسان، إيمان، شهادة التزام بالحياة، واحترام الحياة البشرية بما في ذلك في الظروف الأشد حزناً. إذاً، أشجعكم على المتابعة مدركين أنكم تقدمون خدمة كبيرة للبشرية من خلال بادرة الثقة هذه، من خلال هذه البادرة المتسمة باحترام الحياة، من خلال هذه المحبة لجسد متألم، ونفس متوجعة.

3- سؤال شباب من العراق، وتحديداً من بغداد حيث يقاسي المسيحيون الاضطهادات – تحية صباحية للأب الأقدس من العراق. نحن مسيحيو بغداد اضطهدنا على مثال يسوع. أيها الأب الأقدس، برأيكم، كيف لنا أن نساعد جماعتنا المسيحية على إعادة النظر في رغبتها في الهجرة إلى بلدان أخرى، بإقناعها بأن الرحيل ليس الحل الأوحد؟

بندكتس السادس عشر – أود أولاً أن أحيي من كل قلبي جميع المسيحيين العراقيين إخوتنا، وأقول أنني أصلي يومياً عن نية المسيحيين في العراق. إنهم إخوتنا المتألمون، كما في أنحاء أخرى من العالم أيضاً، وهم إذاً أعزاء على قلوبنا بشكل خاص. يجب أن نبذل ما في وسعنا لكي يبقوا، لكي يقاوموا تجربة الهجرة المفهومة نظراً إلى الأوضاع التي يعيشون في ظلها. أقول أنه من الضروري أن نكون بقربكم أيها الإخوة العراقيون الأعزاء، وأننا نريد مساعدتكم حتى عندما تأتون إلينا، واستقبالكم فعلياً كإخوة. بالطبع، ينبغي على المؤسسات وجميع القادرين فعلياً على دعمكم أن يفعلوا ذلك. والكرسي الرسولي يتواصل بشكل دائم مع مختلف الجماعات، ليس فقط مع الكاثوليكية، وإنما أيضاً مع الجماعات المسيحية الأخرى، ومع إخوتنا المسلمين الشيعة والسنة. نريد أن نقوم بعمل مصالحة وتفاهم مع الحكومة أيضاً لمساعدتها على هذه الدرب الصعبة في إعادة تكوين مجتمع مشرذم. لأن المشكلة هي التالية: المجتمع مقسم بشدة ومشرذم، وقد غاب هذا الوعي بأن هناك في التنوع شعب ذات تاريخ مشترك، وأن لكل واحد مكانته. ينبغي عليهم أن يعيدوا بناء هذا الوعي بأنهم في التنوع يجمعهم تاريخ مشترك وعزم مشترك. نريد بالحوار مع مختلف الجماعات أن نساعد في عملية إعادة الإعمار وأن نحثكم أيها الإخوة العراقيون المسيحيون الأعزاء على التحلي بالثقة والصبر والثقة بالله والإسهام في هذه العملية الصعبة. كونوا على يقين بأننا نصلي من أجلكم.

***

4- سؤال بينتو وهي امرأة مسلمة من ساحل العاج متأثرة بالحرب الأهلية، وهي تبدأ بتحية بالعربية قائلة: "فليكن الله وسط كل الكلمات التي سنتبادلها، وليكن الله معك". من ثم تقول بالفرنسية ما مفاده: أيها الأب الأقدس العزيز، هنا في ساحل العاج، لطالما عشنا في وئام بين المسيحيين والمسلمين. وكثيراً ما تتكون عائلات من أفراد من الديانتين. يوجد أيضاً تنوع إتني، وإنما لم تحصل أبداً أي مشاكل. كل شيء تغير اليوم، فالأزمة التي نعيشها بسبب السياسة تبث الانقسام. فكم من الأبرياء فقدوا حياتهم! كم من اللاجئين، كم من الأمهات، وكم من الأطفال المتأذين! الرسل حثوا على السلام، والأنبياء حثوا على السلام. ويسوع رجل سلام. أنتم كرسول يسوع، ما هي نصيحتكم لبلادنا؟

بندكتس السادس عشر – أريد الرد على هذه التحية: فليكن الله أيضاً معك، وليساعدك دوماً. أود أن أقول أنني تلقيت رسائل مؤثرة من ساحل العاج تعرض الأسى كله، وعمق المعاناة، وأنني أشعر بحزن شديد لأننا قادرون فقط على فعل القليل. نستطيع دوماً أن نقوم بأمر: أن نتحد في الصلاة معكم، وبقدر الإمكان، أن نعمل في المحبة. نريد بخاصة أن نشجع بقدر الإمكان العلاقات السياسية والبشرية. وقد كلفت الكاردينال توركسون، رئيس مجلس العدالة والسلام خاصتنا، أن يذهب إلى ساحل العاج ويسعى إلى الخدمة كوسيط، والتحدث مع مختلف الجماعات، مع مختلف الأشخاص لتشجيع انطلاقة جديدة. نريد بخاصة أن يُسمع صوت يسوع الذي تؤمنون به أنتم أيضاً كنبي. لطالما كان رجل السلام. كان من المتوقع خلال مجيء الله إلى الأرض أن يكون رجلاً يتمتع بقوة كبيرة، ويدمر القوى المناوئة، ويستخدم العنف بشدة لإحلال السلام. لم يحصل شيء من ذلك. لقد جاء ضعيفاً يتحلى بقوة المحبة فقط، ولم يستخدم العنف قط حتى أنه صلب. هذا هو وجه الله الحقيقي. العنف لا ينبثق أبداً من الله، ولا يساعد أبداً على القيام بالصالحات، بل يشكل وسيلة مدمّرة لا درباً لإيجاد مخرج للمصاعب. إنه إذاً صوت قوي ضد كافة أشكال العنف. هنا، أدعو بشدة كل الأطراف إلى نبذ العنف والسعي إلى إيجاد طرق السلام. لن تسهموا في إعادة تكوين شعبكم بالعنف على الرغم من اعتقادكم بأنكم على حق. إن السبيل الأوحد هو نبذ العنف، واستئناف الحوار، والسعي إلى إحلال السلام معاً من خلال اهتمام جديد ببعضكم البعض، واستعداد جديد للانفتاح على بعضكم البعض. أيها السيدة العزيزة، هذه هي رسالة يسوع الفعلية: السعي إلى السلام من خلال وسائل سلمية، وإنهاء العنف. إننا نصلي من أجلكم، لكي تسمع كل مكونات مجتمعكم صوت يسوع فيُستعاد السلام والشركة.

5- سؤال إيطالي – صاحب القداسة، ماذا يفعل يسوع في المدة الزمنية بين موته وقيامته؟ وبما أننا نقول في قانون الإيمان أن يسوع بعد موته انحدر إلى مقر الأموات، هل نستطيع أن نفكر أن هذا سيحصل لنا أيضاً بعد الموت قبل الصعود إلى السماء؟

بندكتس السادس عشر – أولاً، إن انحدار نفس يسوع لا يجب تخيله كرحلة جغرافية محلية من قارة إلى أخرى. إنها رحلة النفس. يجب ألا ننسى أن روح يسوع تلامس الآب دوماً، أنها متواصلة دوماً مع الآب، ومع ذلك أن هذه النفس البشرية في الوقت عينه تمتد إلى آخر حدود الإنسان. لذلك، تذهب إلى الأعماق، إلى الضالين، إلى جميع الذين لم يبلغوا هدف حياتهم، وبالتالي تسمو فوق قارات الماضي. هذا الانتقال من انحدار يسوع إلى لجة الموت يعني بخاصة أن يسوع يحتضن الماضي أيضاً. هو يحتضن الماضي وجميع البشر من كل الأزمنة. يقول الآباء بصورة رائعة أن يسوع يأخذ آدم وحواء بيده أي البشرية، ويرشدها إلى الأمام، يرشدها إلى العلى. وهكذا، يفسح المجال للوصول إلى الله لأن الإنسان بذاته لا يستطيع بلوغ أعالي الله. وهو بصفته البشرية وبأخذ الإنسان بيده، يفسح هذا المجال. أي مجال يفسح؟ الواقع الذي نسميه السماوات. لذلك، فإن هذا الانحدار إلى الجحيم أي إلى أعماق الإنسان، إلى أعماق ماضي البشرية، هو جزء أساسي من رسالة يسوع، من رسالته كفاد وهو لا ينطبق علينا. فحياتنا مختلفة. فقد فدانا الرب مسبقاً وإننا نصل أمام وجه الديان بعد موتنا أمام أنظار يسوع. هذه النظرة ستكون مطهرة من جهة لأنني أعتقد أننا جميعاً، بمقدار كبير نوعاً ما، سنحتاج إلى التطهر. نظرة يسوع تطهرنا ومن ثم تجعلنا قادرين على العيش مع الله، العيش مع القديسين، العيش بخاصة في شركة مع الأعزاء على قلوبنا والذين سبقونا.

6- سؤال من إيطاليا – صاحب القداسة، عندما تصل النساء إلى القبر يوم الأحد التالي لموت يسوع، لا يعرفن المعلم ويعتقدن أنه شخص آخر. والأمر سيان بالنسبة إلى الرسل: ينبغي على يسوع أن يظهر جراحه، ويكسر الخبز ليُعرف تحديداً من خلال أفعاله. هو جسد فعلي وإنما أيضاً جسد بهي. ماذا يعني أن جسده القائم من الأموات لا يتسم بالملامح عينها التي كانت تميز جسده السابق؟ ماذا يعني بالضبط الجسد البهي؟ وهل هكذا ستكون قيامتنا؟

بندكتس السادس عشر – بالطبع، لا يمكننا تحديد الجسد البهي لأن هذا الأمر يفوق تجاربنا. نستطيع فقط أن نسجل العلامات التي أعطانا إياها يسوع لنفهم القليل على الأقل عن الاتجاه الذي يجب أن نبحث فيه عن هذا الواقع. العلامة الأولى: القبر فارغ. في الواقع، لم يسمح يسوع بتعفن جسده. لقد أظهر لنا أن المادة أيضاً معدة للأبدية، أنه قام فعلاً، وأن لا شيء يضمحل. يسوع أخذ المادة أيضاً معه، وهكذا فإن المادة تحمل أيضاً الوعد بالأبدية. وإنما لاحقاً، لبس هذه المادة في ظرف حياتي جديد، وهذه هي النقطة الثانية: يسوع لا يموت بعد الآن، فهو يسمو فوق قوانين علمي الأحياء والطبيعة، لأن الموت يحدث عند الخضوع لها. إذاً، هناك ظرف جديد ومختلف لا نعرفه ولكنه يتجلى في يسوع. إنه الوعد الكبير لنا جميعاً بعالم جديد، بحياة جديدة نسير نحوها. وفي هذه الظروف، تتوفر ليسوع إمكانية أن يُلمس، ويعطي يده لتلاميذه، ويأكل معهم، غير أنه يبقى فوق ظروف الحياة البيولوجية التي نعيشها. نحن نعلم من جهة أنه إنسان حقيقي وليس طيفاً، وأنه يعيش حياة فعلية وإنما حياة لم تعد خاضعة للموت، حياة هي وعدنا الكبير. من المهم أن نفهم هذا بقدر الإمكان من أجل سر الافخارستيا. ففي سر الافخارستيا، يعطينا الرب جسده البهي. لا يعطينا جسده لنأكله بالمعنى البيولوجي. هو يعطي ذاته، هو الإنسان الجديد. إنه يدخل في "كياننا" البشري، في كياننا وكياني البشري، كشخص، ويلمسنا من الداخل بكيانه بحيث نسمح لحضوره بالتغلغل فينا وبتبديلنا. إنها نقطة مهمة لأننا نكون بذلك على تواصل مع هذه الحياة الجديدة، مع نمط العيش الجديد، إذ يكون قد دخل إلي وأكون قد خرجت من نفسي، وأنظر نحو بعد حياتي جديد. أعتقد أن هذا الجانب من الوعد، من هذا الواقع القائم على أنه يعطى لي ويخرجني من نفسي إلى الأعالي، هو النقطة الأكثر أهمية. المقصود ليس تسجيل أمور لا نستطيع فهمها، بل أن نسير نحو الجِدة التي تبدأ دوماً من جديد في سر الافخارستيا.

7- سؤال الصحافي روساريو كاريللو – تحت الصليب، يحصل حوار مؤثر بين يسوع وأمه ويوحنا يقول فيه يسوع لمريم: "هذا هو ابنك"، وليوحنا: "هذه هي أمك". في كتابكم الأخير "يسوع الناصري"، توضحون ذلك كـ "مشيئة يسوع الأخيرة". كيف ينبغي علينا أن نفهم هذه الكلمات؟ ما معناها آنذاك وما معناها حالياً؟ وعن الثقة، هل تحرصون على تجديد تكريس للعذراء في مطلع هذه الألفية الثالثة؟

بندكتس السادس عشر – إن كلمات يسوع هذه هي بخاصة فعل بشري جداً. نرى يسوع كإنسان حقيقي يقوم بفعل كإنسان، فعل محبة لوالدته موكلاً أمه إلى الشاب يوحنا لكي تكون في أمان. ففي تلك الحقبة، كان وجود امرأة وحيدة في الشرق أمراً صعباً. لهذا، يعهد بأمه إلى هذا الشاب ويعطيه أمه. يسوع يتصرف على هذا النحو كرجل ذات إحساس بشري عميق. يبدو لي رائعاً ومهماً أن نرى هنا قبل كل لاهوت، البشرية الفعلية، الإنسانية الفعلية ليسوع. ولكن بالطبع، تتخذ هذه البادرة أبعاداً مختلفة ولا تتعلق فقط بهذه الحقبة، بل بالتاريخ كله. فيسوع يوكلنا جميعاً مع يوحنا، والكنيسة جمعاء، وكل تلاميذه المستقبليين، إلى أمه وأمنا. وهذا ما تحقق على مر التاريخ: البشرية والمسيحيون فهموا أكثر أن أم يسوع هي أمهم. وتوكلوا أكثر على أمه: هنا نفكر بالمزارات الكبرى، نفكر في هذا التعبد لمريم حيث يسمع الناس أكثر "هذه هي أمك". وبعض الأشخاص الذين يصعب عليهم بلوغ يسوع في عظمته كابن الله يتوكلون من دون صعوبة على أمه. قد يقال: "وإنما ليس لهذا الأمر أساس بيبلي!". أجيب هنا مع القديس غريغوريوس الكبير الذي قال: "بالقراءة، تنمو كلمات الكتاب المقدس". في الحقيقة، تتطور ضمن الواقع وتنمو، وتتطور هذه الكلمة أكثر في التاريخ. نرى كيف نكون جميعاً شاكرين لأن أمنا موجودة فعلياً، وهي أم أعطيت لنا جميعاً. نستطيع أن نذهب بثقة كبيرة نحو هذه الأم التي هي أم كل مسيحي. من جهة أخرى، تمثل هذه الأم الكنيسة أيضاً. فلا يسعنا أن نكون مسيحيين وحدنا، بمسيحية مبنية بحسب أهوائنا. الأم هي صورة الكنيسة، الكنيسة الأم، ومن خلال اتكالنا على مريم، يجب أن نتكل أيضاً على الكنيسة، ونعيش الكنيسة، ونكون الكنيسة مع مريم. من هنا، أصل إلى نقطة التكريس: البابوات – أكان بيوس الثاني عشر، بولس السادس أو يوحنا بولس الثاني – قاموا بأفعال تكريس عظيمة للعذراء، ويبدو لي أن البادرة مهمة جداً كبادرة أمام البشرية، وأمام مريم بذاتها. أعتقد أنه من المهم حالياً استيعاب هذا الفعل، والسماح بتغلغله وتحققه فينا. لذلك، ذهبت إلى بعض المزارات المريمية الكبيرة في العالم: لورد، فاتيما، تشيستوكوفا، ألتوتينغ…، مفكراً دوماً في تفعيل واستيعاب فعل التكريس هذا ليصبح في الحقيقة فعلنا. وأعتقد أن الفعل العظيم العلني قد تم. لربما ينبغي تكراره يوماً ما، وإنما حالياً أرى من المهم أكثر عيشه وتحقيقه والولوج في هذه الثقة لكي تكون فعلاً خاصتنا. على سبيل المثال، رأيت في فاتيما كيف تعمق الحاضرون في هذه الثقة، وتوكلوا وفعّلوا هذه الثقة فيهم ومن أجلهم. هكذا، تصبح واقعاً في الكنيسة الحية وهكذا أيضاً تنمو الكنيسة. الثقة المشتركة في مريم، السماح بتغلغلها فينا، والولوج في الشركة مع مريم، هي كلها تجعلنا كنيسة، تجعلنا نصبح مع مريم، عروس المسيح. إذاً، لا أنوي حالياً القيام بتكريس علني جديد، وإنما أريد أن أدعوكم أكثر إلى الولوج في هذه الثقة الموجودة مسبقاً لكي تكون واقعاً نعيشه يومياً، ولكي تنمو بالتالي كنيسة مريمية هي أم يسوع وعروسه وابنته.

***

نقلته إلى العربية غرة معيط (Zenit.org)

حقوق الطبع محفوظة لدار النشر الفاتيكانية 2011