ليتورجية الكلمة خلال أمسية 18 أغسطس، عظة بندكتس السادس عشر
مدريد، الجمعة 19 أغسطس 2011 (Zenit.org)
بالمسيح، قال البابا لشباب مدريد والعالم، "يمكننا إعطاء أجنحة لحريتنا".
ننشر في ما يلي العظة التي ألقاها بندكتس السادس عشر خلال أمسية الخميس التي أقيمت في ساحة سيبيليس بمدريد، وتخللتها ليتورجيا الكلمة.
***
أيها الأحباء،
أشكر الممثلين الشباب عن القارات الخمس على الكلمات الحارة التي وجههوها لي. وأحيي بحرارة جميع الشباب المجتمعين هنا والقادمين من أوقيانيا وإفريقيا وأميركا وآسيا وأوروبا، إضافة إلى جميع الذين لم يستطيعوا المجيء. كثيراً ما أفكر فيكم وأصلي من أجلكم. لقد منحني الله نعمة رؤيتكم وسماعكم عن قرب والإصغاء معاً إلى كلمته.
في القراءة التي أعلنت للتو، سمعنا مقطعاً من الإنجيل يتحدث عن قبول كلمات يسوع والعمل بها. هناك كلمات لا تخدم إلا لإجراء محادثة وتمر كالهواء. وأخرى تنمي الذهن بمظاهر عدة. بالمقابل، تملأ كلمات يسوع القلب، وتتجذر فيه وتصوغ حياتنا بأسرها. وإلا، تبقى فارغة وتصبح زائلة. ولا تقربنا منه. وبالتالي، يبقى المسيح بعيداً، كصوت بين الأصوات العديدة التي نسمعها حولنا والتي اعتدنا عليها. إضافة إلى ذلك، إن المعلم الذي يتكلم لا يعلم ما اكتسبه من أشخاص آخرين، بل ما هو على حقيقته، الوحيد الذي يعرف فعلاً درب الإنسان نحو الله، لأنه هو الذي شقها لنا، وخلقها لنتمكن من التوصل إلى الحياة الحقيقية، تلك التي من الجدير دوماً عيشها في كل الظروف والتي لا يستطيع الموت نفسه أن يدمرها. يتابع الإنجيل موضحاً ذلك من خلال الصورة المعبرة لهذا الذي يبني على الصخر المتين، المقاوم لهجمات الشدائد، على عكس ذاك الذي يبني على الرمل، وأحياناً أيضاً في مكان فردوسي، كما يقال اليوم، لكن البناء يتفكك عند أول هبوب للريح ويتحول إلى أنقاض.
أيها الشباب الأعزاء، أصغوا إلى كلمات الرب لكي تصبح فيكم "روحاً وحياة" (يو 6، 63)، جذوراً تغذي كيانكم، قواعد سلوك تجعلنا مشابهين لشخص المسيح، بفقر القلب، والتوق إلى العدالة، والرحمة، بقلب نقي، وبمحبة السلام. افعلوا ذلك يومياً بثبات، كما نفعل مع الصديق الوحيد الذي لا يخيب ظننا والذي نريد أن نتشارك معه درب حياتنا. أنتم تدركون جيداً أننا عندما لا نسير إلى جانب المسيح الذي يرشدنا، نتفرق على دروب أخرى كدرب نزواتنا العمياء والأنانية، درب الاقتراحات الخادعة وإنما المغرية، المضللة والمتقلبة، التي تخلف وراءها الفراغ والحرمان.
استفيدوا من هذه الأيام لتتعرفوا بشكل أفضل إلى المسيح، وكونوا واثقين بأن بتجذركم فيه، سيكون هناك مستقبل أكيد لحماستكم وفرحكم، لرغباتكم في التقدم، وبلوغ ما هو أسمى وصولاً إلى الله، ذلك لأن كمال الحياة قائم فيكم مسبقاً. نمّوه بمعونة النعمة الإلهية، بسخاء ومن دون ضعف، طامحين جدياً إلى غاية القداسة. وأمام نقاط ضعفنا التي تسحقنا أحياناً، فلنعتمد أيضاً على رحمة الرب المستعد دوماً لأن يأخذ مجدداً بيدنا والذي يقدم لنا مغفرته من خلال سر التوبة.
بالبناء على الصخر الوطيد، حياتكم لن تصبح فقط متينة ومستقرة، بل ستسهم أيضاً في عكس نور المسيح على الشباب أترابكم وعلى البشرية جمعاء، بتقديم بديل ملائم لجميع الذين سقطوا في حياتهم، لأن أسس وجودهم كانت متقلبة؛ لجميع الذين يكتفون باتباع تيارات رائجة، الذين يلجأون إلى مصالحهم الفورية، متناسين العدالة الحقيقية، أو الذين يختبئون وراء آرائهم الخاصة بدلاً من السعي إلى الحقيقة البحتة.
أجل، كثيرون هم الذين ظناً منهم أنهم آلهة يعتقدون أنهم ليسوا بحاجة إلى جذور أخرى أو موارد أخرى غير أنفسهم. يريدون أن يقرروا بأنفسهم ما الحقيقي وغير الحقيقي، ما الخير والشر، ما العادل والظالم؛ وأن يقرروا من يستحق العيش أو ربما من يمكن التضحية به لمصلحة أفضليات أخرى؛ ويسيروا من دون تبصر، ومن دون هدف مقرر سلفاً، بهدي غريزة كل لحظة. هذه الإغراءات هي دوماً بالمرصاد. من المهم عدم الاستسلام لها لأنها في الواقع تؤدي إلى شيء فان، كوجود من دون آفاق، وحرية من دون الله. بالمقابل، نحن نعلم جيداً أننا خلقنا أحراراً على صورة الله، تحديداً لأننا أنصار السعي إلى الحقيقة والخير، ومسؤولون عن أعمالنا، وليس مجرد منفذين عميان، ومعاونين مبدعين في مهمتنا القائمة على تنمية وتجميل عمل الخلق. الله يريد محادثاً مسؤولاً يستطيع التحاور معه ومحبته. من خلال المسيح، نستطيع فعلاً أن ننجح في ذلك، وبالتجذر فيه نتمكن من إعطاء أجنحة لحريتنا. أوليست هذه علة فرحنا الكبرى؟ أوليست هنا الأرض المتينة لبناء حضارة المحبة والحياة، القادرة على أنسنة كل البشر؟
أيها الأحباء، احذروا وتحلوا بالحكمة، ابنوا حياتكم على الأساس المتين الذي هو المسيح. هذه الحكمة وهذا الحذر سيرشدان خطواتكم. لن يخيفكم شيء وسيسود السلام في قلوبكم. إذاً، ستكونون سعداء وفرحين، وسينتقل فرحكم إلى الآخرين. سيتساءلون عن سر حياتكم وسيكتشفون أن الصخرة التي تدعم البناء كله والتي يرتكز إليها وجودكم كله هي شخص المسيح، صديقكم، وأخيكم وربكم، ابن الله الذي تأنس، والذي يعطي معنى للكون أجمع. لقد مات من أجلنا وقام لكي نحيا، وحالياً، من عرش الآب، يبقى حياً وقريباً من جميع البشر، معتنياً على الدوام وبمحبة بكل واحد منا.
أوكل ثمار أيام الشبيبة العالمية هذه إلى مريم العذراء التي قبلت مشيئة الله والتي تعلمنا هي وحدها الأمانة لابنها الإلهي الذي تبعته حتى الموت على الصليب. وسنتأمل في كل ذلك بشكل أعمق في مختلف مراحل درب الصليب. فلنصل لكيما على مثالها يكون قبولنا الحالي للمسيح قبولاً غير مشروط لصداقته، في ختام هذا اليوم وطيلة حياتنا.
***
ترجمة وكالة زينيت العالمية (Zenit.org)
حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية 2011