النزول إلى فوق

الاخت سامية صموئيل

من راهبات القلب المقدس

أبريل 2012

 

"من أراد أن يكون فيكم عظيماً، فليكن خادماً. ومن أراد أن يكون فيكم أولاً، فليكن عبداً" (مت20: 26).

 

يقول البابا شنودة في هذا الشأن: « إن السيد المسيح  عندما أخلي ذاته نزل من السماء إلى الأرض، وما أبعد المدي بين الإثنين! ونحن الذين على الأرض إن أردنا أن ننزل منها فإلي أين ننزل، وإلى أين نهبط؟ هل تعلمون إلى أين ننزل وإلى أين نهبط؟ لا شك أننا في هبوطنا، وإنما نهبط من الأرض إلى السماء. وفي نزولنا إنما ننزل من تحت إلى فوق…!!». 

وهكذا نري أن السيد  المسيح قد غير المقاييس البشرية، مقاييس العلو والهبوط… ألغاها ، وغيرها إلى العكس فقال: "من يرفع نفسه يتضع، ومن يضع نفسه يرتفع" (مت23: 12). وقال في نفس المعني: "من أراد أن يكون فيكم عظيماً، فليكن خادماً. ومن أراد أن يكون فيكم أولاً، فليكن عبداً" (مت20: 26). وقال أيضاً: "إذا أراد أحد أن يكون أولاً، فليكن آخر الكل وخادماً للكل" (مر9: 35).

      فالشخص الذي يرفع نفسه، إنما يهبط بمستواها الروحي. كلما انتفخ، ويتضاءل حتى يصبح لا شيء… مثل هذا شبهه القديس أوغسطينوس بالدخان الذي كلما يرتفع، تتسع رقعته. وكلما تتسع رقعته يتلاشى حتى يصبح لا شيء. وقد أخذ القديس أوغسطينوس هذا التشبيه عن داود النبي عندما قال: "لأن الأشرار يهلكون فنوا كالدخان فنوا" (مز37: 20) " كما يذري الدخان تذريهم" (مز68: 2).

       لقد أعطى لنا السيد المسيح درساً في العظمة الحقيقية عندما غسل أرجل تلاميذه ففي إنجيل (يوحنا 13: 1- 10 ) !! نرى الرب يسوع  حاملاً مِغسلاً، مُتزرا بمنشفة، ومنحنيًا ليغسل أرجل تلاميذه. نعم، إن "يسوع" ابن الله، خالق الكون وحامله، هو الذي نراه هنا يضع يديه الطاهرتين على أقدام تلاميذه ليغسلها من كل ما لصق بها من الأقذار، حتى تلك التي لم يشعروا بها. ولو تأملنا في مركز ومجد الشخص القائم بهذا العمل، لتجلَّت أمام عيوننا النعمة الغنية التي انطوى عليها صنيعه هذا. فالمكان الذي أتى منه الرب يسوع لا يوجد أسمى منه، وأقدام البشر القذرة لا يوجد أدنى منها!!  الرب يسوع المسيح وهو يغسل أرجل التلاميذ، لم يكن غائباً عن باله أن الآب قد دفع كل شيء إلى يديه، ولا أنه من عند الله خرج، وإلى الله يمضي، بل كان متثبتًا من ذلك تمامًا ( يو 13: 3،4). فالشخص الذي له كل السلطان في يده، هو نفس الشخص الذي عنده كل المحبة في قلبه. وهكذا حدث أنه بدافع المحبة في قلبه، أخذ، بنفس اليدين، اللتين فيهما كل القوة، أرجل تلاميذه التي اتسخت في الطريق لنتأمل  بعمق في قيمة هذا الأمر حتى نستطيع أن نتبع المثال الذي يقدمه لنا فيه، حيث يقول: «لأني أعطيتكم مثالاً، حتى كما صنعت أنا بكم، تصنعون أنتم أيضًا» ( يو 13: 15 ).

     إن الذين يظنون أنهم يرفعون ذواتهم، إنما (يرفعونها) إلى أسفل، لا إلى فوق وهذا هو ما قصده الرب بقوله: "من يرفع نفسه يتضع"… أما المتواضعون فكلما يهبطون إلى أسفل يرتفعون إلى فوق أو أن صح التعبير يهبطون إلى فوق… هم باستمرار ينزلون إلى الأعالي الكائنة في الأعماق، لأن السيد الرب أعطانا فكرة جديدة عن العلو والعمق، عندما أخلي ذاته.. لقد علمنا أن العلو هو العمق، وأن العلو يوجد تحت لا فوق… وأعطانا مقاييس للعظمة لم تعرفها البشرية من قبل.

      إن المتضعين يرتفعون من قبل في هبوطهم، والمتكبرين يهبطون في صعودهم. (وكل من يريد أن يصعد إلى فوق، ويلتصق بالله، علية أن ينزل إلى الأرض(، ويضع كلمات السيد المسيح أمام عينيه: « تعلموا مني لإني وديع ومتواضع القلب »، وإلهنا الناظر إلى المتواضعات "يقيم المسكين من التراب، ويرفع البائس من المزبلة، ليجلس مع رؤساء شعبه" (مز113: 7).

      يليق بأبناء هذا العالم أن يترأسوا بعضهم على بعض، كل واحد بحسب رُتبته ومكانته الاجتماعية ومركزه العالمي. ولا غرابة في ذلك، لأن هذا من نظام العالم الحاضر «أنتم تعلمون أن رؤساء الأمم يسودونهم والعظماء يتسلطون عليهم» ( مت 20: 25 ). ولكن الرب يسوع أنشأ نظامًا آخر يقتضي أن نتصرف فيه بخلاف روح العالم تمامًا «فلا يكون هكذا فيكم، بل مَنْ أراد أن يكون فيكم عظيمًا، فليكن لكم خادمًا، ومَنْ أراد أن يكون فيكم أولاً، فليكن لكم عبدًا» ( مت 20: 26 ، 27). فيجب أن لا يوجد موضع في كنيسة الله للتسلط العالمي «بل الكبير فيكم ليكن كالأصغر، والمتقدم كالخادم» ( لو 22: 26 )، و«بالمحبة اخدموا بعضكم بعضًا» (غل 5: 13) . لنطلب من السيد المسيح في هذه الأيام المباركة أن يعلمنا معنى العظمة الحقيقية ، ومعنى العلو والنزول إلى فوق حيث يوجد هو ، ليقودنا بروحه القدوس ويرشدنا الطريق الذي يريده منا.