المرض الثاني عشر: عمى البصيرة

المرض الثاني عشر: عمى البصيرة

بعض الأمراض الشائعة والمخفية

بقلم المونسنيور د. يوأنس لحظي جيد

أولًا تعريف مرض عمى البصيرة

عمى البصيرة ليس مرضًا عضويًا، بل هو حالة نفسية وروحية وإنسانية يتسم صاحبها بفقدان القدرة على رؤية الأمور الواضحة والاعتراف بالحقائق القاطعة، وفهم الأمور بعمق وحيادية، وإدراك العواقب المحتملة للأفعال والأقوال والمواقف.

إنه شخص يدعي بجهل معرفة كل شيء وعدم حاجته لمشورة أو آراء أو مساعدة الآخرين.

إنه أعمى ولكنه يعتقد أنه أكثر الناس فهما وحكمة وذكاء ومعرفة.

وأخطر ما في الأمر هو أن فاقد البصيرة يتصرف بطريقة تجعل الحُوَار معه صعب وغالبا دون فائدة لأنه يتخذ مجموعة من السلوكيات، مثل:

الإنكار (أيرفض الاعتراف بالأخطاء أو المشاكل)؛

التبرير (أيتقديم أعذار واهية لتبرير السلوكيات الخاطئة.)؛

التحيز (أي رؤية الأمور من زاوية ضيقة، وتجاهل الحقائق التي تتعارض مع المعتقدات الشخصية)؛

الغطرسة (أي الشعور بالتفوق والعظمة، وعدم الاستعداد للاستماع إلى آراء الآخرين)؛

التجاهل (أي عدم الاهتمام بمشاعر الآخرين أو احتياجاتهم).

ثانيًا خطورة عمى البصيرة

تكمن خطورة عمى البصيرة في كونه مرض منتشر وله نتائج مدمرة سواء على فاقد البصيرة أو على المحطين به.

  • على فاقد البصيرة لأنهيؤدي إلى اتخاذ قرارات خاطئة تضر بالشخص نفسه، وتسبب له مشكلات في العلاقات الشخصية والمهنية، وتؤدي به إلى الشعور بالوحدة والعزلة، وتمنعه من النمو والتطور. فاقد البصيرة هو عدو نفسه ويصل بعناده وحماقته إلى الاستمرار في الطريق الخاطئ مهما أثبتت له النتائج والتجارب خطأ اختياراته ومواقفه.
  • على المحيطين له لأن فاقد البصيرة يتصرف غالبا بعنف وعنجهية مسببًا الألم والإحباط للآخرين. إنه يخلق بيئة سامة وغير صحية ويدفع من حوله لتركه وقطع العَلاقة به والنفور منه.

ثالثًا أمثلة من الحياة

  • في المجال الكنسي

القائد الديني: قائد عامة والديني بشكل خاص الفاقد للبصيرة يتخذ قرارات خاطئة تؤدي إلى خسائر فادحة، ولكنه يرفض الاعتراف بأخطائه. إنه كما يقول السيد المسيح: “هُمْ عُمْيَانٌ قَادَةُ عُمْيَانٍ. وَإِنْ كَانَ أَعْمَى يَقُودُ أَعْمَى يَسْقُطَانِ كِلاَهُمَا فِي حُفْرَةٍ” (مت 15: 14). وهو غالبا ما يحلل لنفسه ما يحرمه على الآخرين ولا يرى في ذلك أي عيب. إنه يتصرف تمامًا مثل الكرامين القتلة (متى 21: 33 -43) الذين قتلوا العبيد والمرسلين والابن ليسرقوا الكرمة.

  • في مجال العمل

المسؤول بالعمل: عندما يتصرف المسؤول وبالرغم من كونه بلا رؤية أو هدف بعنجهية وتكبر ويفرض آرائه الخاطئة على الجميع مما يؤدي إلى تدهور النتائج وضياع المجهودات وتخبط القرارات. إنه قائد أعمي يصر على القيادة مهما كانت النتائج. إنه شخص يرفض حتى الاعتراف بأخطائه في العمل، ويلقي اللوم على الآخرين. المسؤول فاقد البصيرة هو قنبلة موقوتة ستنفجر عاجلا أم أجلا في نفسه وفي المحيطين به.

  • في العلاقات الزوجية

الزوج أو الزوجة: عندما يصاب أحد الزوجين بعمى البصيرة تجده يتجاهل مشاعر الطرف الثاني، ويعتقد أنه دائمًا على حق، ويضرب بعرض الحائط خير الأسرة والأبناء. يتصرف بحماقة وإصرار ويغلق أذانه أمام كل النصائح. يقود سفينة الأسرة للغرق بإصرار وغباء وعدم تقدير حتى لإنقاذ نفسه. إنه يستخدم قول “علي وعلى أعدائي” دون أن يدرك أن غرق السفينة يعني موت الجميع. 

  • في القضاء

القاضي الظالم: أي القاضي الذي يستخدم القانون لظلم الناس ويرى العالم بواسطة عدسة ضيقة، ولا يتقبل آراء الآخرين. إنه يطبق القانون فقط على الضعفاء ويظلم الفقراء ويقبل الرشوة ويتملق للأقوياء والأغنياء.

رابعا أمثلة من الكتاب المقدس

  • فرعون مصر: الذي رفض الاعتراف بقوة الله، وعاند رب الجنود معتقدًا أنه سينتصر فجلب الشر على نفسه وعلى شعبه وعانى من عواقب عناده.
  • القضاة الظلمة: يذكر الكتاب المقدس قصة سوزانا والقاضيين الظلمين وكيف استطاع دانيال فضحهما امام الشعب وإنقاذ سوزانا من ظلمهما (را. دا 13).
  • شعب إسرائيل: الشعب الذي أخرجه الله بيد قادرة من أرض العبودية وقطع معه عهدا أبديًا ولكنه سرعان ما نسي الرب وخان العهد لدرجة أن النبي ارميا عاتبه قائلًا: “اِسْمَعْ هذَا أَيُّهَا الشَّعْبُ الْجَاهِلُ وَالْعَدِيمُ الْفَهْمِ، الَّذِينَ لَهُمْ أَعْيُنٌ وَلاَ يُبْصِرُونَ. لَهُمْ آذَانٌ وَلاَ يَسْمَعُونَ” (إر 5: 21).
  • شاول الطرسوسي قبل اهتدائه: الذي كان يضطهد المسيحيين، ويربطهم بالسلاسل معتقدًا أنه ينفذ شريعة الرب ولكنه كان أعمى عن الحق حتى ظهر له السيد المسيح وحوّله من مضطهد للكنيسة إلى مبشر بالمسيح.

نصائح ختامية

يقول المثل الإيطالي: “لا يوجد إنسان أكثر عمى مِن مَن لا يريد أن يرى” وفاقد البصيرة هو إنسان يملك عيون ولكنه لا يريد أن يرى، ويملك أذان ولكنه أصم. إنه عاجز عن رؤية الحقائق وفهم الأمور بحيادية وموضوعية وتواضع.

إنه يعتقد بغباء وعناد أن استمراره في الخطأ سيثبت أنه على حق. إنه لا يتعلم من تجاربه ويصر على إعادة نفس الخطوات معتقدًا أنه سيحصل على نتائج مختلفة. إنه متعنت ومتصلب ويخلط بين إثبات النفس وإثبات الحق.

إنه يحتاج إلى علاج نفسي وروحي وإنساني كي يستيقظ من الوهم الذي يحي فيه. يحتاج إلى التحلي بالتواضع كي يغير نمط حياته ويُنمِيوعيَّه الذاتي ليفهم دوافع سلوكياته ويتعلم مهارات التواصل الفعال والتعبير عن الاحتياجات بطريقة صحية، ووضع حدود صحية لحماية الذات والآخرين.

إنه يحتاج إلى العمل على زيادة الثقة بالنفس وبالآخرين وبالله. إنه يحتاج إلى يد الله التي تخلع عنه عمى البصيرة كما فعل النبي حنانيا مع شاول: “أَيُّهَا الأَخُ شَاوُلُ، قَدْ أَرْسَلَنِي الرَّبُّ يَسُوعُ الَّذِي ظَهَرَ لَكَ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي جِئْتَ فِيهِ، لِكَيْ تُبْصِرَ وَتَمْتَلِئَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. فلِلْوَقْتِ وَقَعَ مِنْ عَيْنَيْهِ شَيْءٌ كَأَنَّهُ قُشُورٌ، فَأَبْصَرَ فِي الْحَالِ، وَقَامَ وَاعْتَمَدَ” (أع 9).

برغم أن مرض عمى البصيرة هو مرض خطير يدمر الذات والعلاقات ويؤذي الآخرين، إلا أنه، من خلال العلاج النفسي والروحي، وتغيير نمط الحياة، يمكن للفرد أن يتغلب عليه وأن يعيش حياة أكثر صحة وسعادة.

دعونا نتذكر دائمًا أن إدراك وفهم وتقبل المرض هو نصف طريق العلاج.

قمنا في الأسابيع السابقة بالتكلم عن:

أولًا: مرض الإنكار

ثانيًا: مرض الإسقاط

ثالثًا: مرض التظاهر

رابعًا: مرض الكذب والإنكار

خامسًا: مرض تبلد أو موت الضمير

سادسًا: مرض التطفل والحشرية

سابعًا: مرض العناد

ثامنًا مرض الخنوع والعبودية الاختيارية

تاسعًا مرض التطرف

عاشرًا مرض الحصان المَيْت

حادي عشر مرض استغلال الآخرين والتلاعب بهم

سنتناول في الأسابيع القادمة بعض الأمراض الأخرى (للحديث بقية).