بعض الأمراض الشائعة والمخفية
بقلم المونسنيور د. يوأنس لحظي جيد
أولًا: وصف مرض الرياء والتملق
يحكى أنه عندما مات كلب الملك خرجت جميع الشعوب للعزاء والمواساة ولكن عندما مات الملك لم يخرج للجنازة أي فرد، في قصة تلخص حالة من الرياء والزيف يعيشها الفرد والمجتمع ويحاول الجميع تبريرها وكأنها لباقة اجتماعية أو تعبير عن ذكاء ودهاء وفطنة. ونحاول جميعًا تناسي أن الرياء والتملق هما وجهان لعملة واحدة وتعبير عن سلوك مزيف يهدف لإظهار ما ليس في الباطن من أجل تحقيق مكاسب شخصية أو كسب ود الآخرين وتجنب شرهم. إنه مرض منتشر ومدمر لأنه يستهدف الحقيقة والصدق ويقتل الضمير ويبرر الكذب والممالقة والزيف والانحطاط.
وقد سبق وشرحنا في مقال: “موقف السيد المسيح من النفاق والمنافقين” أن المسيح لم يتعامل بقسوة وحزم واستياء كما تعامل مع المرائيين، ولم يَكُن مُعنِفًا لأحد بقدر ما عَنف مِرارًا وتكرارًا الكتبة والفريسيين المنافقين، واصفًا إياهم بأشد الكلمات: “وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُشْبِهُونَ قُبُورًا مُبَيَّضَةً تَظْهَرُ مِنْ خَارِجٍ جَمِيلَةً، وَهِيَ مِنْ دَاخِل مَمْلُوءَةٌ عِظَامَ أَمْوَاتٍ وَكُلَّ نَجَاسَةٍ” (مت 23: 27)، وقد وصفهم المسيح بأنهم كالْحَيَّات أَوْلاَدَ الأَفَاعِي! وصرخ في وجوههم: كَيْفَ تَهْرُبُونَ مِنْ دَيْنُونَةِ جَهَنَّمَ؟
وهنا يجب تأكيد أن هذا المرض لا يتعلق بالمجاملات الاجتماعية الاعتيادية بل بحالة تصيب النفوس وتحولها إلى العيش بزيف وازدواجية وكذب وتبرير كل هذا بأريحية وعدم الشعور حتى بتأنيب الضمير. إنه مرض خطير لأنه يبدأ بمجاملة بسيطة ليتحول بشكل تدريجي إلى نمط حياة يصعب التحرر منه. إنه مرض يصيب الانسان البسيط كما يصيب المسؤولين الذين يبحثون ليلا نهارا عن المدح والزيف والتصفيق كي يُخفوا حقيقة فشلهم واخفاقهم وعجزهم.
يختلف الرياء عن التملق في أن الرياء هو التظاهر بالخير والصلاح على عكس الباطن، أي بالفضيلة والتقوى والإخلاص – كما يفعل الكثيرون من المتدينين الذي يهتمون فقط بالمظهر – بينما التملق هو المبالغة في الثناء والمدح لشخص ما، غالبًا بطريقة مفرطة وغير صادقة، بهدف كسب رضاه أو مصلحة منه. كلاهما ينبعان من عدم الأصالة والزيف والكذب والبحث عن قبول مزور وتحقيق مكاسب ظالمة وغير مستحقة.
الرياء (Hypocrisy) هو مرض قد يصيب الجميع ولكن بصفة خاصة أصحاب المسؤولية فيجعلهم يتظاهرون بصفات حميدة وطيبة ويتكلمون بمبادئ معينة، غالبًا ما لا يؤمنون هم بها حقيقة، ولا يطبقونها في حياتهم الخاصة. فالمرائي يرتدي قناعًا من الفضيلة لإبهار الآخرين ونيل مكانة اجتماعية أو دينية أو مادية. تكمن خطورة الرياء في الانفصال بين الظاهر والباطن، بين ما يقوله الشخص وما يفعله أو يعتقده. فالمرائي يعظ الناس عن أهمية الفقر ويعيش في الرغد والبذخ، يتكلم عن الفضيلة والعفة والطهارة والشفافية ويسرق مال الارامل والأيتام، يُدّرِس أهمية التحلي بالتواضع والرضى ولكنه يبحث عن مزيد من المجد والمال واللذة.
التملق (Flattery) هو مرض يصب غالبًا الباحثين عن مكانة وعن نجاح سهل وعن وساطة تجعلهم يحصلون على منافع بلا تعب ونجاحات بلا جهد. فالمتملق يُفرِط في التعبير عن الإعجاب أو المدح لشخص ما، غالبًا بطرق غير صادقة أو مبالغ فيها، بهدف كسب رضاه أو الحصول على منفعة شخصية (مثل ترقية، أو مكافأة، أو نفوذ أو مكاسب مالية). المتملق لا يهتم بصدق ما يقوله بقدر اهتمامه بالنتيجة المرجوة من كلامه.
يمكن تخليص الأعراض الأساسية لهذا المرض في الازدواجية أي التناقض الصارخ بين السلوك العام والسلوك الخاص؛ والبحث عن المديح والتصفيق، أيالحاجة المرضية لسماع المديح والثناء من الآخرين؛ والتصرف وفقًا للحضور، أي تغيير السلوك والمبادئ بناءً على وجود أشخاص معينين؛ واستغلال الأشخاص والعلاقات، أي استخدام الآخرين من أجل تحقيق أهداف شخصية دون مراعاة لمشاعرهم؛ والزيف وعدم الأصالة، وأي افتقاد الصدق في التعبيرات والمشاعر والنوايا؛ والغيرة والتنافسية، أي الرغبة في التفوق على الآخرين أو إقصائهم.
ثانيًا: خطورة المرض
تتجاوز خطورة الرياء والتملق الضرر الذي يلحق بالعلاقات الفردية لتمتد إلى تآكل الثقة في المجتمعات بأسرها.
يدمر الرياء الشخص المتملق ويُصيبه بـ:
- فقدان احترام الذات: يعيش المرائي والمتملق في حالة دائمة من التظاهر، مما يفقده الاتصال بذاته الحقيقية ويؤدي إلى شعور عميق بالفراغ والضياع وفقدان الهوية الذاتية.
- القلق والتوتر: يعيش المتملق في خوف دائم من انكشاف حقيقته، مما يسبب له قلقًا وإجهادًا نفسيًا مستمرين.
- علاقات سطحية: لا يستطيع المتملق بناء علاقات حقيقية وعميقة تقوم على الثقة والصدق، مما يؤدي إلى الوحدة والعزلة الداخلية.
- تآكل وموت الضمير: بمرور الوقت، يصبح الكذب والتظاهر أمرًا طبيعيًا، مما يؤدي إلى تبلد الضمير وفقدان القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ.
- السقوط المدوي: عندما تُكشف حقيقة المرائي/المتملق، يفقد كل ما بناه من سمعة ومكانة، ويسقط من أعين الناس.
- عدم الرضا الداخلي: حتى لو حقق مكاسب ظاهرية، فإنها لا تجلب له الرضا الحقيقي لأنه يعلم أنها مبنية على الزيف.
على المحيطين بالشخص المصاب:
- خلق بيئة سامة: في بيئة العمل أو الدراسة أو حتى داخل الأسرة، يؤدي هذا المرض إلى انتشار الرياء والتملق فتسود أجواء من المنافسة غير الشريفة، والشك، وعدم الأمان.
- فقدان الثقة: يؤدي سلوك الرياء والتملق إلى اهتزاز الثقة بين الأفراد في العلاقات الاجتماعية والمهنية وحتى الأسرية، مما يجعل التعامل مع الآخرين محفوفًا بالشك والريبة.
- الشعور بالاستغلال: يشعر من يتعامل مع المرائي/المتملق بالاستغلال والتلاعب عندما تنكشف حقيقته. فيدمر هذا السلوك أركان الصداقات والشراكات والعلاقات الأسرية، لأنها لا يمكن أن تزدهر في بيئة مليئة بالزيف.
- انتشار الظلم وتبريره: يمكن أن يؤدي تملق المرؤوسين للرؤساء إلى اتخاذ قرارات خاطئة أو ظالمة لأن المعلومات لا تصل بصدق.
ثالثًا: أمثلة من الحياة والكتاب المقدس
الحياة اليومية:
- الموظف المتملق: يمدح رئيسه بكلمات مبالغ فيها أمام الآخرين، ويظهر الولاء المطلق، بينما يتحدث عنه بسوء في غيابه، كل ذلك بهدف الحصول على ترقية أو مكافأة. والموظف المتملق غالبًا ما يتكلم بالسوء عن زملائه في غيابهم.
- صديق المصلحة (الانتهازي): يظهر اهتمامًا مبالغًا فيه ومحبة لصديق له مركز أو مال، ويقدم له الخدمات ويجامله، لكنه يختفي أو يقلل من اهتمامه بمجرد حصوله على المصلحة أو بمجرد أن يترك صديقه موقعه أو يصل لسن التقاعد.
- المتظاهر بالورع: أي الشخص الذي يتظاهر بالتدين ويؤدي الطقوس والشعائر أمام الناس بحرص شديد، لكن سلوكه في الخفاء يتنافى تمامًا مع ما يدعيه من تدين.
- المسؤول الضعيف: يتحدث بحرارة عن قضايا المجتمع ويعد بالحلول أمام الكاميرات، لكنه في الواقع لا يبذل أي جهد حقيقي لتحقيق ذلك. إنه يعد بتغير الأوضاع ولكنه لا يفعل شيئا في الحقيقة.
- الطالب المتملق لأستاذه: يبالغ في إظهار الإعجاب بالمعلم أو المادة الدراسية، ويقدم له الهدايا أو يمدحه بشكل مفرط، بهدف الحصول على درجات أفضل.
من الكتاب المقدس:
- شاول الملك وسلوكه أمام صموئيل (1 صم 15): بعد عصيانه لأمر الرب، حاول شاول تبرير أفعاله والتظاهر بالبر والحرص على تقديم ذبائح للرب، بدلاً من الاعتراف الصادق بخطئه. لقد سعى لإرضاء صموئيل والناس بدلاً من إرضاء الرب.
- أبشالوم وتملقه لشعب إسرائيل (2 صم 15): تملق أبشالوم لشعب إسرائيل لكسب قلوبهم وتولي العرش بدلاً من أبيه داود. كان يستقبل الناس ويستمع إلى شكواهم ويتظاهر بالاهتمام بهم ليزيد من شعبيته.
- الكتبة والفريسيون: يصفهم يسوع بأنهم “مراؤون” لأنهم كانوا يفعلون أعمالهم الصالحة “ليُرى من الناس”. كانوا يصلون في زوايا الشوارع ويصومون بوجه عابس ليظهروا للناس أنهم صائمون، ويعطون الصدقات ليرى الناس سخاءهم (مت 6: 1-6، 16-18؛ متى 23). لقد وبخهم يسوع بشدة قائلاً: “ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون! لأنكم تغلقون ملكوت السماوات قدام الناس، فلا تدخلون أنتم ولا تدعون الداخلين يدخلون” (مت 23: 13).
- السامري الصالح (لوقا 10: 29-37): يمكن أن تُفهم سلوكيات الكاهن واللاوي اللذين تجاهلا الجريح على أنها شكل من أشكال الرياء، حيث فضلا الحفاظ على نقائهما الديني الظاهري بدلاً من ممارسة الرحمة الحقيقية التي يدعيانها.
رابعًا: طرق علاج مرض الرياء والتملق
يتطلب علاج هذا المرض الشفاء على مستويات متعددة، بدءًا من الوعي الذاتي ووصولًا إلى التغيير الجذري في القيم والسلوك.
يحتاج المريض إلىتحديد الأفكار والأسباب التي تدفعه إلى الرياء والتملق (مثل الخوف من الرفض، الحاجة المفرطة للقبول، انعدام الأمان). يحتاج إلى اكتشاف الجذور العميقة لهذه السلوكيات، مثل تجارب الطفولة التي شكلت الحاجة إلى التظاهر أو البحث عن الإعجاب. يحتاج إلى تنمية الوعي الذاتي والأصالة والتركيز على بناء ثقة داخلية حقيقية بدلاً من السعي للقبول الخارجي. لا علاج بدون تعلم مهارات التواصل الصادق والتدرب على التعبير عن المشاعر والآراء بصدق واحترام، حتى لو كانت مختلفة عن آراء الآخرين. والعمل على تقبل حقيقة أن عدم إرضاء الجميع أمر طبيعي، وأن الصدق قد يؤدي أحيانًا إلى رفض من بعض الأشخاص، ولكن هذا الثمن يستحق الأصالة.
من الناحية الروحية يحتاج المريض إلى ممارسة سرالتوبة والاعتراف والسعي لإرضاء الله بدلاً من الناس لبناء الضمير الصالح. يحتاج لتعلم التواضع وفهم أن كل ما يمتلكه الإنسان هو عطية من الله، وأن المجد الحقيقي يأتي من التواضع وخدمة الآخرين، وليس من التباهي والغطرسة. يحتاج لتنمية الضمير الحي واليقظ والاستماع إلى صوت الضمير وتنميته من خلال الصلاة والتأمل وقراءة النصوص المقدسة. يحتاج إلى المحاسبة الذاتية ومراجعة الأفعال والدوافع بشكل منتظم، ومواجهة الذات بصدق.
الخلاصة:
لنتذكر أن السيد المسيح رفض سلوك الكتبة والفريسين المرائيين وحذر سامعيه منهم بل ولعن بالويلات تصرفاتهم، فقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: “احْذَرُوا مِنَ الْكَتَبَةِ الَّذِينَ يَرْغَبُونَ الْمَشْيَ بِالطَّيَالِسَةِ، وَيُحِبُّونَ التَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ، وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ، وَالْمُتَّكَآتِ الأُولَى فِي الْوَلاَئِمِ. اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ بُيُوتَ الأَرَامِلِ، وَلِعِلَّةٍ يُطِيلُونَ الصَّلَوَاتِ. هؤُلاَءِ يَأْخُذُونَ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ!” (لو 45، 20-47 + مت 23 + مر 38، 12-40).
إن مرض الرياء والنفاق هو مشكلة خطرة تُصيب الأشخاص والمجتمع والكنيسة، انه آفة خطيرة يتعرض لها الجميع حتى المكرسين. وتكمن خطورة الرياء والنفاق في أنه مرض يدمر صاحبه ويساهم في نشر الظلم والزيف بين الناس ولا يمكن التحرر منه بدون التدرب على الصدق في الأمور الصغيرة والبدء بقول الحقيقة في المواقف اليومية البسيطة، حتى لو كان ذلك غير مريح في البداية. وتجنب المبالغة في المدح والتملق الأعمى.
فالإنسان السوي يبحث عن التحدي لا عن الإطراء ويسعى لتحسين الذات من خلال التدريب والتعلم من الأخطاء بدلاً من البحث عن المديح المستمر.
قمنا في الأسابيع السابقة بالتكلم عن:
أولًا: مرض الإنكار
ثانيًا: مرض الإسقاط
ثالثًا: مرض التظاهر
رابعًا: مرض الكذب والإنكار
خامسًا: مرض تبلد أو موت الضمير
سادسًا: مرض التطفل والحشرية
سابعًا: مرض العناد
ثامنًا: مرض الخنوع والعبودية الاختيارية
تاسعًا: مرض التطرف
عاشرًا: مرض الحصان المَيْت
حادي عشر: مرض استغلال الآخرين والتلاعب بهم
ثاني عشر: مرض عمى البصيرة
ثالث عشر: مرض القطيع أو التحجج بالأغلبية
رابع عشر: المراهقة المستمرة وعدم النضج
خامس عشر: مرض الخيانة
سادس عشر: مرض لعب دور الضحية
سابع عشر: مرض الفساد الروحي والأخلاقي والعاطفي والمالي
ثامن عشر: مرض تضخيم صورة الذات
سنتناول في الأسابيع القادمة بعض الأمراض الأخرى (للحديث بقية).