ماهية حرّية الإنسان
الحرّية ليست اختياراً بل توجيه الإمكانات نحو الخير العام ، فهي ليست إمكانية التصرّف الخارج بل عمق الاحترام الداخلي. وهي استعمال القيود وتوظيفها لبناء الحرّية الشخصية ، التي هي شرط أساسي لمجانية الحبّ.
مظاهرها : تختلف مظاهرُ الحرّية باختلاف الناس ولكن هناك حرّيات أساسية مشتركة بين جميع الناس .(ميثاق حقوق الإنسان )
خصائصها : لا تنمو إلاّ بممارستها ولا تنضج إلاّ بالتجربة ( الابن الضال ). وتَفتَرضُ تبني مبادئ ونظم و عقائد وأسلوب تفكير وتفترض أيضا تحدّي القيود وتوظيفها لبناء الحرّية الشخصية .
حدودها : حرّية الإنسان حرّية مخلوقة ،و نسبية ، لذا فهي محدودة و مرتبطة بـ : { الظروف الشخصية ، الأحداث اليومية ، الحالة الصحية والنفسية ، العوامل الوراثية ، الثقافة المحلية ، التراث الوطني ، قوانين الدولة ، الأسرة وطريقة التربية .} ويميل الفكر الشرقي إلى أن يطلق خطأً على هذه الحدود تعبير القضاء و القدر الذي يشير إلى أن الإنسان خاضع في مسيرة حياته لقوة غاشمة تعبث بمصيره من لحظة مولده إلى يوم مماته فكل شيء مكتوب ، ولا مجال للتحرر منه أو مخالفته .وهذا يعني انتفاء الحرّية عني تماماً ، وهذا المفهوم غير صحيح، فأنا حرّ في : { ضميري ، معتقداتي ، تفكيري ،قراراتي المصيرية ( مهنة ،زواج ، تكريس ) ، التزاماتي ، ممتلكاتي، سلوكي اليومي ( ملبس ، مأكل ،…إلخ ) } .
أنواعها : حرّية الضمير ، حرّية العبادة ، حرّية الرأي ، حرّية اختيار الطريق ( زواج ، تبتّل )
الحرّية في الكتاب المقدّس :
ما يوحي به أوّلاً الكتاب المقدس ليس هو الإله الخالق ، بل هو الإله المحرّر . ما هو في قلب الكتاب المقدّس هو حدث الخروج من مصر ، أي سرّ تحرير إسرائيل . وما هو في قلب الإيمان المسيحي هو بلوغنا حرّية الله نفسـها ( أن نتأله ) . فنحن على الأرض لنصير بالمشاركة ما هو الله بالطبيعة . وفي الكتاب المقدّس ، لا نسمع الله يقول أوّلاً للشعب العبراني :” أنا خلقتك ” ، بل يقول ولا شك : ” أنا حرّرتك ، أنا أخرجتك من عبوديّة مصر .” و لم يطرح اليهودُ السؤالَ على أنفسهم إلاّ في وقت متأخر جداً . لذلك يجب قراءة الكتاب المقدّس إطلاقاً من الاختبار الذي كان في نشأة الكتاب و الذي هو اختبار شعب إسرائيل _الاختبار الحقيقي و الملموس و الواقعي بخلاف التصوّري و المجرّد ، فمثلاً القيام باختبار تفاحة هو أكلها لا وصفها بكلمات .
الحرّية من وجهة نظر مسيحية :
1. تقبل الحرّية أن تكون محدودة و خاضعة لعدد كبير من الإرغامات و الالتزامات الفردية و الجماعية .
2. يبني الإنسان حرّيته من خلال خيارات شخصية و ليس حسب الظروف و الفرص ، ولا يحمينا ذلك من الوقوع في الخطأ و الفشل أحياناً .( الحرية خطر لا بد منه )
3. إن الحرّيـة لا تكون خيارا مكتسـبا ثابتا ، لأنها مهددة بالضغوط و التكيّفات و الصراعات . ( الحرّية أفق نسعى إليه باستمرار .)
4. الحرية الفرديّة تتسق مع حرّية الآخرين ، وتمارس داخل مجموعات مثل: { الأسرة ، المدرسة ،المدينة ، الدولة ، العمل ، النادي ،…إلخ .}
5. تتجاوز الحرّيةُ نطاق المجالات التي تمارس فيها ، فالحرية أصلاً ميزة داخلية في الإنسان ، فهي أساس إقامة العلاقات مع آخرين، ولا تزدهر حريتنا إلاّ في خدمة الآخرين ( مت 20/28 ).
6. الحرّية نعمـة من لدن الله وكل نعمة تحمل في طبيعتها و اجب والتزام ، تنم بالاسـتعمال الجيد وتتحقق في التصرّف بوعي ومسؤولية في القرارات المستقلّة ،لذا فهي خير روحي شخصي مهم .
7. التطهير المستمر لحرية الإرادة مسؤولية الإنسان (غلا5) وهذا التطهير يتطلب انفتاحــاً على نعمة الله وكلمة الحق (يو8/31-47).
كيف يمارس الإنسان حرّيته في علاقتها مع الله ؟
إن كانت حرّيته قد خطئت تجاه الله منذ البداية ، فكيف تتعامل مع مشيئة الله التي تنكشف له في واقع حياته ؟لننطلق من نماذج كتابية مختلفة تبيّن لنا حرّيات مختلفة أمام مشيئة الله التي هي دائما خير ، كما أنها لا تُفرض على الإنسان وإنما تُعرض عليه .
قبول حرّ لمشيئة الله : مريم العذراء التي تجاوبت تجاوباً حرّا تاماً .
الشك في مشيئة الله : زكريا الذي شك في بشـارة الملاك بأن أليصابات ستلد ابناً :” …ولم تؤمن بأقوالي ” وأضاف الملاك:
” وهي ستتم في أوانها “(لو1/20) .أي ستتحقق مشيئة الله .
قبول غير حر لمشيئة الله : الابن الأكبر فأجاب وقال لأبيه :” ها أنا أخدمك سنين هذا عددها ولم أتجاوز وصيتك وجدياً لم تعطيني لأفرح مع أصدقائي ” (لو15/29). وهنا الابن الأكبر يتجاوب مع مشيئة أبيه في أن يخدمه ولا يعصي له أمراً، ولكن خدمته ليست خدمة الابن الحرّ بل خدمة العبد . لذلك لم يفهم أبدا قول أبيه الرحيم :” يا ابني أنت معي دائما أبدا ، وجميع ما هو لي فهو لك “(لو15/30).
رفض مشيئة الله : الشاب الغني الذي رفض رفضا حرّا ، فلقد دعاه يسوع دعوة حرّة ” إذا أردت ” – فأجاب الشاب إجابة حرّة – ” وانصرف حزينا “ (مت 16/19).
الحرية والحقيقة : لهذه الحرّية حرّرنا المسيح ( غلا 5/1)
المسيحي يؤمن والكنيسة تعلم أن الحرية الخاضعة للحقيقة هي التي توصل الشخص البشري إلى خيره الحقيقي ” إن هذه العلاقة الأساسية بين الحق والخير والحرّية مهملة إلى حدٍ بعيد في ثقافة اليوم و واجب الكنيسة و رسالتها أن تحث الإنسان علي أن يكتشفها من جديد ، لأجل خلاص العالم . إن سؤال بيلاطس : ما هو الحق ؟ ينبع من حيرة الإنسان البائس . إنّه لا يعرف في الغالب من هو ومن أين هو آت والي أين هو ماض “[1]. ويكشف لنا يسوع كل ما يقدر عليه الإنسان في أبسط أنماط الحياة ، شرط أن يكون في الحقيقة ابن إله هو أب . ولذلك لنحذر أن نقرّب لله نوعًا من التخلي قد نظنه طاعة . فما يجب أن نقرّبه لله هو بناء حرّيتنا يومًا بعد يوم ، لكي تكون في الحقيقة لا حرّية العبيد بل حرّية الأبناء .ويقتصر دور يسوع على كشف أنفسنا لأنفسنا، مظهرًا لنا عظمة حريتنا و منتزعًا الأقنعة التي صنعناها لأنفسنا بأيدينا ، عن خوف وأنانية . وهو يقول لنا : ” أنت أكثر قيمة مما تظن ، وعظمتك فوق ما تدرك ، فلتكن حياتك مطابقة لهذه العظمة .و بقدر ما تقوم باختبار هذه الحياة ، تشعر أنك عظيم و أ ن هذه العظمة مطلب لا بد منه ، وتكتشف إلى أين تبلغ بك حريتك فترفض التجمّل (المكياجات ). لقد حررنا المسيح
من عبودية الخطيئة (رو 8/3)؛
من عبودية الموت ( 1كو 15 )؛
من عبودية الشريعة ( رو 6/15 ).
إعداد / أسامة شفيق
[1] كلمة للبابا يوحنا بولس الثاني ألقاها على أعضاء المؤتمر العالمي للاهوت الأدبي ، أبريل 1986 .