الرجل السائر على طريق المعلم

البطريرك الكاردينال اسطفانوس الثاني

الأب انطونيوس عدلي اللعازري – مصر

 

تمهيد

كل منا، في حياته اليومية، يتقابل مع أشخاص عديدين، الكثير منهم، يمر دون أن يترك اي اثر. مرات قليلة جداً، تمنحنا العناية الإلهية فرصة اللقاء مع شخص أو أكثر نقابله.. نسمعه.. نتفحصه.. نراقبه ونتأمله، عندئذ ندرك بأنه لن يمر من أمامنا ويسير إلى حال سبيله وانتهى كل شيء. نكتشف بأنه قد نجح في اختراق أعماقنا، دخل وغاص وسكن القلب. وبدأت معه وبه رحلة الطريق، نأنس لوجوده ونطمئن لطلعته، رفيق درب وشريك طريق ونبع حب لا ينضب.

منذ بضع سنوات، كنت اردد على مسامع المؤمنين -عندما يرسل الرب كلمته على لساني وانطق بها– كنت أقول لهم: لقد منحنا الرب نعمة رائعة، لأننا قد عشنا عصر قداسة البابا يوحنا بولس الثاني. هذا السمائي الذي حل على أرضنا، قد رأيناه وسمعناه، تفحصناه وتأملناه، وفي الحقيقة، فإن الرجل قد اخترق أعماقنا وسكن واستقر فينا. نسرع لنقرأ خبراً عنه هنا أو هناك، نشاهده في رحلاته وجولاته التي لم تتوقف، نجلس بهدوء نستمع له، نقف خاشعين أمام وجهه الذي يشع منه النور ويأسرنا إليه، نتأمل ونسجل كلمة كلمة.

من يمكنه، أن يقول بان هذا الرجل قد مات أو رحل أو رقد أو ذهب بغير رجعة؟ لا وألف لا، انه لم يمت، في الحقيقة أن صوره تملأ حوائط حجراتنا وصور أخرى كثيرة داخل صفحات كتب الصلاة والقراءة. أن رجل الله لا يموت، انه يأتي.. يحضر.. يدخل.. يسكن ولا يغادر، يملأ حياتنا بالفرح والسلام، يصبح لإنساننا الضعيف عون وسند في طريق الأيام ورحلة الأرض.

اليوم، استطيع أن اردد مرة أخرى: "لقد منحنا الرب نعم غزيرة، لأننا عشنا عصر قداسة البابا يوحنا بولس الثاني، وأيضا عشنا عصر غبطة البطريرك الكاردينال اسطفانوس الثاني". أحيانا نقول "فرحة واحدة تكفي"، لقد كان الرب معنا كريماً للغاية، إذ منحنا، نحن -أهل الأرض- نعمة أن نلتقي ونرى ونعيش بأولئك الذين أتوا من السماء ليزوروا أرضنا.

في علم الإحصاء، يحدثوننا عن العينة العشوائية، ثم من خلالها نستطيع أن نتصور كيف سيكون الوضع للجماعة كلها. هذان الرجلان، أرسلا لنا من السماء، وكان اللقاء معهما مفرحاً للغاية وملأ قلوبنا بسلام لن ينزع منا. أذاً كان هو حال تلك العينة القادمة من السماء والتي تكشف عن السماء، تخيلوا، اخوتي الأحباء، كم ستكون السماء رائعة لا تدرك… خلابة لا توصف… ملائكية يصعب تصويرها وتخيلها… "فقد ورد في الكتاب: أعد الله للذين يحبونه كل ما لم تره عين، ولا سمعت به أذن ولا خطر على قلب بشر" 1 كور 2/9.

 

وصف الحدث

اليوم، الجمعة 23 من يناير (كانون الثاني) 2009، في الصباح الباكر غادرنا الإسكندرية، متجهين إلى القاهرة لحضور الذبيحة الإلهية وصلاة الجنازة لمثلث الرحمات غبطة البطريرك الكاردينال الأنبا اسطفانوس الثاني، جلسنا في الصف الثاني على يمين الصندوق الزجاجي الذي يحوى جثمان سيدنا، وما هي إلا لحظات، إذ جاء حضرة الأب الفاضل بولس جرس، قائلا: الآباء اللعازريين في الصف الأول. تملكنا بعض الانزعاج، لأن مقاعد الصف الأول قد جلس عليها آباء كهنة أجلاء حضروا مبكرين عنا. تلاشى الانزعاج، وحل مكانه فرح الطفل المتشوق ليجلس في المقدمة، لعله يرى أفضل ويسمع أحسن ويمكنه أن يتابع بسهولة ويسر.

كاتدرائية السيدة العذراء للأقباط الكاثوليك، القائمة بمدينة نصر، ممتلئة تماما، الهدوء الخاشع يملأ ويلف المكان، الصلوات تصدح بورع في بيت الرب، الجسد الطاهر مسجى بالصندوق الزجاجي، وجه صاحبه ملائكي هادئ، يشع منه نوراً يأسرك ويشدك نحو صاحب الجسد المسجى، سمح للمؤمنين ان يتقدموا الواحد تلو الآخر، أفراد الكشافة يطلبون بلطف من الشخص الذي يطيل المشاهدة بأن يسرع ويخلي مكانه للقادم من بعده. كل شيء تم بهدوء تام وهي سمة صاحب الجسد المسجى بالصندوق الزجاجي.

الرجل لم يكن من هواة الظهور والأحاديث الصحفية والفضائية… الرجل لم يكن من عشاق إقامة الولائم والمآدب… الرجل لم يكن من متسولي الشهرة والإضاءة المبهرة… الرجل لم يكن من الباحثين عن الألقاب الكبيرة أو الرنانة… الرجل، كان بسيطاً في كل شيء، ويكفيه فخراً له، بأنه لم يمتلك ولم يرتدى سوى بذلة طقسية واحدة طوال حياته الأسقفية والبطريركية وهي تلك التي دفن بها.

إن رجل الله يضع نصب عينيه شخص المعلم الالهي، يسعى للاقتداء به، فكان على مثال المعلم "فمضى من مكان إلى آخر يعمل الخير" أعمال الرسل 10/38.

يتواصل توافد من نطلق عليهم اسم "الشخصيات المرموقة" ويلتحق كل منهم بمقعده المعد له، فجأة، ضجة أحدثها صوت وحركة إحضار مقاعد إضافية لشخصيات حضرت ولم يوجد لها المقعد المناسب (أكيد أنت في مصر).

في الموعد المحدد، تحرك الموكب المهيب، يتقدمه جمهور الشمامسة -طلبة كلية العلوم اللاهوتية بالمعادي- وهم يرتدون ملابس طقسية جميلة ومتناسقة، أعقبهم أصحاب النيافة الأساقفة الأفاضل ثم صاحب الغبطة الأنبا انطونيوس نجيب، بطريرك الأقباط الكاثوليك. بدأت صلوات الذبيحة الإلهية، الهدوء يلف المكان المبارك، صوت الصلوات ينساب خاشعاً، القراءات جاءت كلماتها معبرة وتنطبق تماما على حياة مثلث الرحمات المسجى أمامنا ونقول، حقا انه الراعي الصالح. أكاد اجزم بأن جميع الحاضرين قد أغلق هواتفهم المحمولة من تلقاء أنفسهم لجلال الحدث والمناسبة. لا أخفى سرا، إذ قلت، بأنه منذ وصولي وأنا أترقب بشغف العظة، التي سيلقيها سيدنا صاحب الغبطة الأنبا انطونيوس نجيب، بطريرك الأقباط الكاثوليك.

 

ذكريات

اعترف، بأنه أثناء صلوات القداس، مر أمام عيناي شريط من الذكريات الجميلة والتي لا تنسى، وأثناء ذلك كنت استطيع أن أتامل صاحب الوجه المعبر، ذلك الوجه هو هو نفسه منذ أن رأيته للمرة الأولى. مذ كنت طفلاً بكنيسة القديسة العذراء مريم – بالحضرة، وكان هو راعينا الطيب. شاباً بجنود مريم، وكان هو مرشدنا. طالباً بمركز الثقافة الدينية، وكان هو مؤسسه. اكليركيا برهبانية الآباء اللعازريين، وقد صار هو أسقفاً لايبارشية الأقصر. شماساً إنجيلياً بيديه المباركتين، وكان هو المدبر الرسولي للطائفة. كاهناً على مذبح الرب، عندما منحني نعمة الكهنوت يوم 27-9-1984، وكان مازال المدبر الرسولي.

بعد عدة سنوات، كنت راعياً لكنيسة سيدة الأيقونة العجائبية بميامي، التابعة للآباء اللعازريين، وجهت له الدعوة وعرضت عليه رغبة مؤمني الرعية بأن يزورهم ويفتقد بيوتهم ونوال بركته، وافق سريعاً وحدد أسبوعاً كاملاً لتلك الزيارة، خلالها زار كل الشعب ولم يضع أية شروط او قيود. طوال زياراته كان رائعاً بسيطاً، يسأل ويستفسر، يصلي ويبارك، حقاً انه رجل الله السائر على طريق المعلم الالهى "فمضى من مكان إلى آخر يعمل الخير" أعمال الرسل 10/38.

 

عظة بليغة.. وصية صادقة

جلس الجميع يستمعون باهتمام بالغ لغبطة البطريرك الأنبا انطونيوس نجيب، عظة بليغة صادقة معبرة معدة باتقان بالغ وبمهارة تليق بكاتبها الكبير. عظة جمعت من الكتاب المقدس تلك الآية الشهيرة للقديس بولس رسول الامم، جاءت تلخص حياة وجهاد سيدنا المحب والمحبوب "جاهدتُ الجهادَ الحسن، وأتممتُ شوطي، وحافظتُ على الإيمان. والآن ينتظرني إكليلُ البر، الذي سيكافئني به الربُ الديّانُ العادل" (2 تيموثاوس 4: 7-8).

أن ذلك الشاهد الدليل جاء معبراً وصادقاً لحياة مثلث الرحمات سيدنا البطريرك الكاردينال. "ساعدني الله في كل حقبات حياتي بنعم جزيلة.. سعيتُ قدرَ استطاعتي أن أحبَ الجميع وأخدمَ الجميع، دون تفرقة، مطارنة وكهنة ورهباناً وراهبات وأفرادَ الشعب. وإن كان صدر مني عفوا كلمة، أو أسأت إلى احد منهم، فأطلبُ الصفح منه، وكلُ مَن ظنَّ فيَّ سوءاً أو تكلم في حقي، أصفح لهم جميعاً". (من الوصية الروحية لمثلث الرحمات سيدنا البطريرك الكاردينال).

عندما استمعت الى هذا الجزء، تذكرت كلمات المعلم الالهي وهو معلقاً على خشبة الصليب "يا أبت أغفر لهم، لأنهم لا يدركون ما يفعلون" انجيل القديس لوقا 23/34. وأيضا تذكرت كلمات القديس اسطفانس، أول شهداء المسيحية عندما صلى وصفح لراجميه "ثم جثا وصاح بأعلى صوته: رب، لا تحسب عليهم هذه الخطيئة" سفر أعمال الرسل 7/10.

والآن، جاء دور رجل الله، مثلث الرحمات، إذ كتب منذ بعض الوقت وصيته الروحية وأعلنت أجزاء منها أثناء صلوات الجنازة "فأطلبُ الصفح منه…. أصفح لهم جميعاً".

إن فضائل رجال الله مشتركة، جميعهم ينهل من مثال المعلم الالهي القائل "فقد جعلت لكم من نفسي قدوة لتصنعوا ما صنعت إليكم" انجيل القديس يوحنا 13/14.

 

كلمة نافعة

وُلِدتُ فقيراً وعشت فقيراً وسوف أموت فقيراً، زاهداً العالمَ وما فيه لخير الفقراء. وأصرّح بأن كل ما لي أو أمتلكه أو مكتوب باسمي، ليس لي بل للبطريركية"… عاش زاهداً، متجرّداً، مكتفياً بالقليل، مقتدياً بالقديس بولس الرسول القائل: "تعلّمت أن اقنعَ بما أنا عليه، فأنا أعرف أن أعيش في الضيقة، كما أعرف أن أعيش في السِعة" (فيلبي 4: 11-12). من الوصية الروحية لمثلث الرحمات.

تملكنا نحن الحضور وأولئك الذين يتابعون عبر الفضائية اللبنانية مشاعر الفخر والإعجاب برجل الله، ولم تكن تلك المشاعر وليدة اللحظة، فالجميع يعلمون عنه كل شيء ويعرفونه كامل المعرفة، ليعطنا الرب ان نغرف من حياة رجل الله ولتكن حياته مثالاً نقتدي به ومنه.

 

خاتمة

ليس هناك من خاتمة، أفضل من تلك التي خطها قلم غبطة الأنبا انطونيوس نجيب:

"يا أبانا البار، نعدك أن نعملَ بوصية الكتاب المقدّس القائلة: "أذكروا مرشديكم الذين خاطبوكم بكلام الله، واعتبروا بحياتهم وموتهم، واقتدوا بإيمانهم" (عبرانيين 13: 7)… إننا نرافقك بالصلاة والحب والوفاء، إلى عرش رب القيامة والمجد. نبتهل إليه أن يمنحك الراحة الأبدية، مع الأبرار والقدّيسين، ومع كل من سبقوك إلى الأمجاد السمائية… ليتقبّلك الرب يسوع مع الرسل الأطهار. لتتقبّلك أمنا العذراء مريم البتول. ليتقبّلك شفيعك القدّيس اسطفانوس أولُ الشهداء، والقدّيس منصور دي بول، الذي اخترتَ أن تكونَ له تلميذاً، واقتديت بتقواه وتجرّده وحبّه للفقراء، واحتفلنا أمس بعيده… أذكرنا لدى عرش المسيح. له المجد، الآن وإلى الأبد. آمين".

nagmiami1@yahoo.com

عن موقع ابونا