عـــذراً … حديث عن ما بعد السينودس

 

 

        المونسنيور بيوس قاشا

في الرابع والعشرين من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، اختُتمت أعمال الجمعية الخاصة من أجل الشرق الأوسط لسينودس الأساقفة "شركة وشهادة"… وقد عُقد السينودس برئاسة قداسة البابا بندكتس السادس عشر وبحضور عدد كبير من أساقفة الشرق الأوسط، بل كلهم، في هدف من أجل تثبيت المسيحيين

وتقويمهم في هويتهم، والبحث في إنعاش الشركة الكنسية بين الكنائس ذات الشرع الخاص من أجل شهادة حياة فاعلة، وتدعيم أواصر العلاقات بين الكنائس المختلفة، وكذلك الانفتاح على المؤمنين من الديانات الإسلامية واليهودية في إطار الأخوّة الإنسانية والمواطنة العالمية… وهذه كانت فحوى التوصيات للسينودس.

        وفي مقال سابق أدرجتُه على مواقع الانترينت حمل عنواناً "آمالنا في حقائب اساقفتنا الأجلاء"، ومما جاء فيه: إن أبواب السينودس أقفالها في أياديكم يا أساقفتنا الأجلاء. أنتم تحملون اليوم رسالة، فنرجو أن لا تعملوا فقط لكي تكون وثيقة السينودس كتاباً للتاريخ أو ملفاً يوضع _ بعد ختام أعماله _ على رفوف المكتبات. وأيضاً، نحن لسنا بحاجة إلى سينودس نهايته كتاب عديد الصفحات يذكره التاريخ، ولكنه بعيد عن حياة منتسبيه، فنضيع حينذاك في المتاهات والأزقة الضيقة والزواريب الصعبة… فإن قداسته يدعوكم ويدعونا لكي نتفاعل مع التوصيات من أجل تثبيت وتقوية الهوية المسيحية… فأنتم قادة لقطيع الله، وواجبكم أن تكونوا رعاة أمناء يبذلون حياتهم من أجل الخراف (يو11:10).

        نعم، صدرت توصيات السينودس، ونُقلت إلينا عبر المواقع الإلكترونية، ولم تُعلَن عبر منبر الكنيسة لإخبار وإفهام المؤمنين ليكونوا في تواصل مستمر. بل كما قلتُ، تصفّحناها عبر الحاسوب، فبعض منا اهتمّ للأمر، والأغلبية لم تهتم _ من رجال الدنيا كانوا أم الدين _ وكأن الأمر لا يمتّ إليهم بصلة من بعيد أو قريب، وكأن الحدث مرّ مرور الكرام، حيث عُقد السينودس، وأصدر توصيات، وخُتم وانتهى كما هو شأن الكثير من المؤتمرات والاجتماعات واللقاءات، حيث تُحمَل في بدايتها لافتات ويافطات وإعلانات ودعوات، وفي ختامها تُمزَّق وتُتلَف وكأن الحدث لم يكن.

        نعم، لقد جاء السينودس في وقت كنّا "نحن" في العراق _ كما في مصر _ ولا زلنا نقولها صراحة، كنّا مهددين بالخوف والفزع واليأس والاضطهاد والرحيل، وكانت حينها مسيرة الأخبار الدولية مخيفة، حتى كنا لا ندري ماذا سيحمل الغد إلينا، وهل صحيح أننا أمسينا وأصبحنا؟، وهل مرّت ساعات النهار والليل؟، وهل لا زلنا نهيء حقائبنا لنرحل في ساعة الهروب خوفاً من الآتي إلينا؟… كما كنا حينها نتساءل: ماذا نعمل؟، إلى أين نتجه؟، أين هم رؤساؤنا؟، وأين هم قادة أحزابنا؟، وأين مكاننا من الإعراب في مسيرة الحكم والسلطة؟، وهل يعني رحيلنا وهجرتنا هو إفراغ كنائسنا التي ستبقى ربما آثاراً من حجر بلا بشر، وستتحول إلى متاحف من الحجارة، فيختفي بذلك قرع النواقيس كل صباح، وإن كانت قد توقفت في كثير من الكنائس لا لسبب إلا… كما السلام الملائكي، وينطفئ نور الإيمان من هذا الشرق إذ أصبحنا في عداد الغائبين والمهجرين؟، وهل ستتوقف حضارة الإنجيل من العطاء والتي حُملت من الشرق إلى أربع اقطار البسيطة؟… ولا زلنا نعيش حتى الساعة هوس الخوف وتهيئة جواز العبور، فالسكون الحالي مخيف، وربما الآتي أفجع وأفزع، وأزادنا خوفاً منذ الخامس والعشرين من كانون الثاني (يناير) الماضي، وما حلّ في دول الأعراب وحتى اليوم، ولا زالت مسيرة الخوف من الآتي مستمرة… وسيبقى السؤال: هل سنراوح في أمكنتنا أم سنتقدم وننظر إلى الوراء فنجدد بذلك ما حصل لإمرأة لوط؟ (تك 29:19).

        نعم، كنتُ من المتابعين لهذا الحدث المقدس، وأقولها: كم كنتُ أتمنى أن أكون من المستمعين الحاضرين، ولكن للرؤوساء قرارات وأوامر وشؤون، فلم تسعفني الدعوة بتواجدي، فلملمتُ جراحاتي وآلامي في داخلي، وواصلتُ الفكر والصلاة استجابةً لرب العلياء… نعم، عُقد السينودس في وقت كان الخوف سيد البسطاء والفقراء هنا وهناك، والمخططون له خلف الستار من أجل أن لا يُثمر السينودس إلا توصيات تملأ الصفحات لتقرأ من بعض الجهات صاحبة الوجوه ليس إلا… وكنتُ أشاهد من خلال الشاشة الصغيرة قناة تلي باشي "Tele Pace" الفاتيكانية أو من على قناة النورسات التي حملت هي أيضاً وريقات من شجرة السينودس، كما كنتُ أرى أساقفتنا يذهبون ويروحون، يجولون هنا وهناك في أروقة الجمعية أو في مساراتها الطويلة، بعضهم لا هَمّ لهم إلا ما يحملون في أياديهم وهذا كان فخرهم، وآخرين سريعي الخُطى وكأنهم يلحقون بنداءٍ ما، وآخرين يمشون الهويدا برفقة حقائبهم أو أحراراً منها، وفي الجانب الآخر كان الصحفيون ينتظرون _ بعدما ألقوا شِباكهم من أجل صيد وفير _ في استراحة المؤتمرين لينقلوا إلينا وجوههم عبر الشاشة… فمرّة وجهاً متفائلاً، وأخرى لابدّ من أن يقول حديثاً وإن كان بعيدَ المنال عن واقع الحياة، حتى لو لم يدفع لكلامه ما قيمته… وكنتُ أسجل ما قيل من كلمات دسمة الفحوى أو هزيلة المعنى في الروح والإيمان _ كما في الاجتماع والحقوق _ لأنقلها لاحقاً لمذكرتي ولفائدة قرّائي البسطاء الذين أكنّ لهم جميعاً احتراماً أميناً بل أبدياً. واكتشفتُ حينها أن أغلب رؤوسائنا في بُعدٍ عن الكلمة الحية، فقد ردّدوا كلماتهم ولم يثبّتوا نصوصهم ولو بآية من دستور المسيح، وإذا ما ذُكرت الآية لم يُذكَر إصحاحها أو رقمها، وقال فيها أحد من أهلهم:"لقد غلبت عليّ فكرة بأننا قد ابتعدنا عن الكلمة ولم نعد نتغذى بنورها، وربما أطفأنا نورها في دروب الرجاء عبر العائلة ككنيسة بيتية، أليست هي ينبوع مشرقنا الأصيل؟"… كما اكتشفتُ أن الكثيرين خافوا من أن يُظهروا تقلص الوجود المسيحي بفعل تراجع الإيمان بسبب تغلغل الكثير من الغرباء، وزاد خوفهم إذ كانوا بعيدين عن إدراك كيف أن أبناءهم يتركون كنائسهم ومعابدهم ويلجأون إلى أخرى، كما لم يعودوا يدركون أين هو السبيل إلى إنعاش إيمان أولادنا الأصلاء كونهم هم لم يعودوا يؤمنون بما يقولون أو يعيشونه، وربما صحّ المَثَل القائل: إذا كان الراعي قديساً، فكل ابناء الكنيسة هم قديسون. فإذا ابتعد الراعي عن الخراف فقد ضاع القطيع، وكأن الترتيلة اللبنانية قد جسّدت قولها:"إذا ضاع القطيع، الحقيقة بتضيع. وإذا ضاع الراعي، بيضيع القطيع. أجراس بدّق أجراس، ولكن وين الراعي، وين القطيع" (الأب جوزف سويد).

        نعم، الخوف لا زال حتى الساعة، وكثير من أبناء بلدي هيأوا جوازاتهم للرحيل حتى لأتفه الأمور، بعد أن أدركوا أنهم أصبحوا عبيداً لأناس دفعتهم النزعة السلطوية لإحتلالهم وتدميرهم وسرقة مواهبهم من أجل أنانيات ومخططات، وبانوا لهم أنهم يهدرون الكثير من الوقت في الخوض في مسائل سياسية بدل أن يندوا اهتماماً أكبر في عيش الكلمة وإنجيل الخلاص، فشعبنا ملتزم بإيمانه وعيشه بصورة تجعله أن يكون لهم مثالاً.

        كنتُ متفائلاً دائماً، إذ كنتُ أردد أن السينودس ما هو إلا عنصرة جديدة في ألفية جديدة، وكنتُ أرجو إننا سنجني ثماراً خيّرة ووافرة لمستقبل كنائسنا ومسيرة مؤمنينا، ووددْتُ حينها أن يعودوا إلينا رؤوساؤنا بخير وفير وروح جديدة من أجل رسالة مستديمة للإنطلاق من جديد في مستقبل واعد… وإنهم سيواصلون الأمانة للدعوة في التقديم _ لمسيحيي بلداننا _ معنى حضورهم من أجل تثبيتهم في مهمتهم، كما تقول توصيات السينودس، كي يضلّوا شهوداً أصليين للمسيح القائم من الأموات (متى 6:28)، وكلٌّ في بلده كتجسد حيّ للكنيسة، وكوسيلة فعلية لعمل الروح القدس الذي أصبحنا نتفاعل معه كأنه غائب عنا ولا يهمّنا وجوده أو عمله، إنما نحن وعملنا وتدبيرنا، ولا يجوز أن يحضر بيننا إلا متى نشاء وليس متى يشاء.

        نعم، صدرت التوصيات، وخُتم السينودس بقداس إلهي ترأسه قداسة البابا بندكتس السادس عشر في ساحة بازيليك القديس بطرس بالفاتيكان، ومنح الجميع بركته الأبوية، وأوصى أن تُنقَل هذه البركة إلى شعوب الكنائس الشرقية بمذاهبها وطوائفها وأبنائها… وما أقدسها من وصية… وابتدأوا يتفرقون، والمشكلة إنهم لم يعودوا إلينا بل شدّوا الرحال إلى حيث الأماني في أقطار البسيطة المختلفة. ولما انتهت أمانيهم، عادوا إلينا وأية عودة!!، فقد نسوا أو تناسوا لا أعلم، بل ما أعلمه لم نسمع أحداً روى لنا قصة لقائه مع قداسة البابا والحديث الأبوي الذي دار بينهم وبين قداسته، كما لم أسمع أحداً منهم روى لنا كيف ولماذا عُقد السينودس، وما هو المطلوب من رجال الدين والدنيا أن يعملوا، وكيف يحملون توصياته في أفئدتهم كما على ألسنتهم، ولم نجد في حقائبهم ما يُشبع جوعنا ويروي عطشنا ويزيل فتورنا ويقوّي حبّنا لوطننا وتربتنا، ويؤكد لنا إننا أبناء هذه الأرض، وإن الله يريدنا شهوداً وشهداءَ فيها لرسالة سامية. كما لم نجد أحداً عاد إلينا ليشجع مسيرةَ إيماننا وأسلوب حياتنا… ويا للأسف، فقد كنا قد علّقنا آمالاً كبيرة على هذا السينودس رغم تحديات العصر، ولكن لا زالت الضبابية مسيطرة على تواصل الكنائس الشرقية، بل ما زال سطحياً، بل حتى أحياناً سلبياً. فكل كنيسة تبدو وكأنها مهتمة بتحقيق مكاسب أكثر من غيرها، بينما عليها أن تتطلّع إلى الخير المسيحي العام، والمشاركة في حمل هذا الخير ومن جميع الأطراف، وعدم تحقيق هذه المشاركة ينمّ بالتأكيد عن ضعفنا وعدم وحدتنا.

        نعم، عادوا إلينا هكذا، كونهم لم يجتمعوا مع صغارهم وأبناءهم، ولم يسمعوا لا إلى اقتراحاتهم وآمالهم ومتطلباتهم، ولا حتى إلى صلواتهم، فلا أحد من الأبناء كان له دور يُذكَر في هذا المسار. وكونهم لم يحملوا شيئاً من هذا، فقد عادوا كما رحلوا، ولم تحلّ البركة البابوية علينا… لا أعلم هل فقدناها أم تأخرت في نقاط التفتيش أم ضاعت بين الأسلاك الشائكة… لا أعلم، ولا زال الوضع كما كان قبل رحيلهم… ولكن بعد عودتهم أصابنا ما أصابنا، وما ذلك إلا علامات للأزمنة… علامات للتوبة… فكارثة سيدة النجاة كارثة قاسية ومُرّة، ثم الهجوم على كنيسة القديسَيْن، كل هذه أظهرت جلياً أن ما يحصل يدعونا إلى التوبة، بعد تحصين الكنائس بالكونكريت والأسلاك الشائكة كسجون للأبرياء، وعلينا أن نبني سفينة نوح الجديدة لنحتمي فيها، وتقودنا إلى حيث الخلاص.

        ثم واصلت الهجرة مسارها، حتى بدأنا نشعر أن كنائسنا قد أُفرغت من مؤمنيها، ولم نعد تصلّي إلا مع المؤمنين القليلين الأوفياء والفقراء، كون الأغنياء قد حلّوا منذ سنين في بلدان الغربة، وما ذلك إلا علامة لهزال في رسالة الخلاص… وأخاف أن يكون يوماً شرقنا نعشاً، فيه ندفن إنجيلنا ورسالة خلاصنا، كوننا نعيش إنجيلنا بطريقة فاترة وبعيدة عن عمق الإيمان، حيث نجد المؤمنين في حيرة من عقيدتهم كونهم يرون كنيستهم ترفض الغفران من داخلها وفي داخلها، ففي ذلك أظنّ أن الوقت قد حان، بل أتت الساعة كي لا نكثر الكلام والخطابات عن آلامنا ومشاكلنا ومسيحيينا، إنما عن أنفسنا. ونسألها: إلى أي حد نحن جاهزون لتبنّي الرسالة التي سلّمها إلينا الإنجيل في محبة الأعداء… كما تدعونا الحاجة اليوم إلى أن نؤنجل مؤمنينا في إعادة تبشيرهم كما كان الحال في القرون المسيحية الأولى، فتلك الأيام شبيهة بأيامنا، وهي تدعونا أن نكون منارة تنير الدرب وتضيء السبيل الذي يجب أن نسلكه من أجل حياة الإيمان والشهادة المسيحية بين المؤمنين المختلفين لكي نكون "قلباً واحداً ونفساً واحدة" (أع 32:4)… أليس كذلك!!. فبالإمكان تدمير الإنسان، ولكن من المستحيل هزيمته (هكذا يقول الصحفي أرنست همنغواي).

        ختاماً، ما أعرفه أن قداسة البابا جعل هدف السينودس رعائياً بامتياز وتحت إرشاد الروح القدس… وما أعرفه أننا كلنا معنيون بتعميق شهادتنا المسيحية في الشرق الأوسط النابعة من الشركة الروحية… وما أعرفه أيضاً أن البابا دعا المسيحيين لعدم الخوف والإحباط وعيش الحقيقة الإيمانية وليس المصالح الأنانية، لأنه في هذا الإطار يردّد المسيح رسالته على مسامعهم بالقول:"توبوا وآمنوا بالإنجيل" (مر 15:1).

فماذا لو باركتمونا يا آباءنا الأجلاء بالبركة الأبوية البابوية؟… وماذا لو تركتم الروح يعمل فينا وفيكم؟… وماذا لو مشينا وأنتم في هَدْيه من أجل الحقيقة، حقيقة المسيح المخلّص؟… ففي ذلك يكون السينودس عنصرة جديدة لأبناء الشرق، وهذا ما كان يجب أن يُحمَل إلينا ليس إلا!!.

        سَلِمْتُم يا أبانا، يا قداسة البابا بندكتس السادس عشر (المالك سعيداً)… فشكراً لكم، وللبركة التي حلّت علينا عبر الروح!!… وعذراً.