من ثمار الإرشاد… التكريس لسيدة العباد

من ثمار الإرشاد… التكريس لسيدة العباد

بمناسبة تكريس لبنان والشرق الأوسط لقلب مريم الطاهر

    المونسنيور بيوس قاشا 

    في البدء                                                                                                  

مَن منّا لا يتذكر الأيام المقدسة والإيمانية التي عشناها منذ إعلان انعقاد سينودس كنائس الشرق الأوسط “شركة وشهادة” في تشرين الأول عام 2010، ثم المسيرة السينودسية حتى مجيء قداسة البابا بندكتس السادس عشر للفترة 14-16 أيلول عام 2012 إلى بيروت كي يسلّم وثيقة الإرشاد لآباء الكنيسة المغبوطين. حلّ الزائر الأبيض حينها على أرض بيروت القديسين، وحينها رتّلنا “جاء فسكن بيننا” (يو14:1) و”مبروك الآتي باسم الرب” (لو35:13). جاء ليقول لنا: أنا آتٍ إليكم حاملاً عطية السلام كي أعطيكموه… إنه سلام الرب وباسمه (يو13:12).

    حج شراكة وشهادة

اقولها، وقد قلتُها مراراً عديدة، إن البابا بندكتس السادس عشر قد أحسن قراءة تاريخ مسيحيتنا في الشرق وقضية وجودنا فيه، واستدرك أن الآتي ربما يكون خطة ممنهجة لإفراغ شرقنا المقدس من سكانه المسيحيين الأصليين والأصيلين. نعم، قرر قداسته الحج إلى بيروت ولم يكن سهلاً في زمن ارتعشت أصوات الصخب والعولمة المزيَّفة من أجل عدم المجيء، ولكن بابا الإيمان، بابا الشهادة والشركة، حمل مسيحية مؤمنينا صامتاً شجاعاً بكل وداعة وحلم وتواضع ليعلن حرصه على مساندة الشرق بقادته ورؤسائه الروحيين والمدنيين، ومعلناً أن هذا الشرق وطنكم، ومسؤوليته تعود إليكم، وخلاص مسيحييه يأتي من وحدتكم وشراكتكم وشهادتكم، وليس اللهو والضياع في تفاصيل صغيرة، ومناهج كبريائية، ومصالح أنانية، وغايات زمنية. كانت هذه نظرة البابا، ونظرته هذه لم تكن إلا نظرة استراتيجية فيها كل البُعد المسيحي المشرقي، وكل التبشير الإيماني، وكل الأهمية، وإنْ لم تظهر أمام عيون الحواس بل رآها البابا بعيون الإيمان، إن المسيح الذي انطلق من الشرق يجب أن يكون في الشرق منتصراً، ملكاً على القلوب وفيها.

    الإرشاد… ونحن

وها قد مرّ على وثيقة الإرشاد الرسولي “شركة وشهادة” عاماً بالتمام والكمال بعد تسليمها إلى رؤساء كنائسنا الأجلاء، هل بإمكاني أن أسأل نفسي أنا أولاً قبل أن أسأل الآخرين: أين محله من مسيرة الحياة والتقديس والحس الإيماني والشهادة لأرض الشرق؟… هل وضعناه على رفوف المكتبة ليأخذ مكانه ويصمت ربما زمناً وربما دائماً؟… هل جعلناه لنا كخارطة طريق تقودنا إلى حمل رسالة الكنيسة في شرقنا العزيز إلى المختلف عنا إيمانياً؟… هل جعلناه أداة حوار وتحاور، سبيلاً نحو الآخر وقبوله؟… هل عمل فينا الإرشاد ما يريده الروح وما يقوله وما يكلمه في داخلنا لنا ولكنائسنا، أم بقينا نحن في أماكننا نراوح دون أن ننزع عنا ثوب السقم والبؤس والحقد والكراهية والأنانية بدلاً من ثوب الانفتاح والتضحية والحب والمسامحة؟… من المؤسف أن أجده كثوب العرس، نخلعه بعد الاحتفال، فنعود إلى إنساننا القديم، والرب أوصانا ببولس الرسول:”أن نخلع القديم من أجل الإنسان الجديد” (أفسس24:4). نعم، لنسأل أنفسنا كي نعطي الحقيقة بجوابها وإنْ كانت الحقيقة تُشيَّع اليوم من قبل كبار الزمن بدوران الأيام والتفاف الأفكار، فنجعل من أنفسنا أمراء مصالح وإنْ كانت في أسواق شعبية، المهم أن يكون كما أريد وليس كما يريد الرب أو يقول الكتاب أو يرسم الإرشاد، ففي هذا يكون الرب أنا، والكتاب أنا، والإرشاد… إن ذلك ما هو إلا زيف الحياة، ولكن الحقيقة تبقى ناصعة مهما غُلِّفَت وشُوِّهت، وما علامتها إلا براءة الصمت وحقيقة الإيمان.

    بذرة وثمار

نعم، ها قد تمت المسيرة… زُرعت البذرة في الفاتيكان، ونمت في قبرص وأورقت، وفي بيروت أثمرت ، وها نحن نقطع ونجني ثمارها بالمسيح الذي عزّز شرقنا ومجّد كرامته (متى 16:7)، إذ بدون المسيح لا يمكن أن نعطي ثماراً (متى17:7). نعم، لقد سُلِّمت إلينا وثيقة الإرشاد ليكون لنا وليس لفئة “قلباً واحداً ونفساً واحداً” (أع32:4)… إنه دعوة، نعم، لنا نحن بسطاء الشرق، فالله لا يخاف من البسطاء فهم أبرياء، وإنْ صاحوا يوماً “اصلبه، أصلبه”، فالصياح ما هو إلا مخطط الكبار لحقدهم وحبهم  لمصالحهم، إنه شأن هيرودس،  وفي هذا يقول البابا:”الشرق أرضكم”، إنه يتنبأ، وهذا لا يعني أن نترك… استوقفني الحادث… إنها الحقيقة.

    نحو سيدة السماء

في السادس عشر من حزيران يونيو الماضي كرّس كاردينال الشرق المغبوط الراعي والبطريرك مع الآباء المغبوطين الأجلاء لمختلف الكنائس ودور العبادة كرّسوا لبنان والشرق لقلب مريم الطاهر معلنين تحقيقاً لِمَا أراده البابا بندكتس السادس عشر في تكريس الشرق بأهله وجيرانه، بطوله وعرضه، بشرقه وغربه، بسهوله وودديانه وجباله وتلاله، بمؤمنيه وإكليروسه، برهبانه وراهباته، بأطفاله وشيوخه ونسائه، وكما كان الحال مع توبة أهل نينوى… هكذا الكل كان في فكر الراعي من أجل كلمة البابا، لمناجاة قلب الحب الطاهر، قلب قديسة فاتيما وسيدة السماء، سيدة العباد، سيدة بلاد القديسين، سيدة بيروت والشرق… يعلنون تكريسهم للملكة، للسيدة، للقديسة، لقلبها الطاهر… وما القلب إلا علامة الحقيقة والحياة، فهي التي أحبّت بقلبها، وأعلنت حقيقة رسالتها، أنْ صلّوا ورديّتي، توبوا، كي يبطل النبي هلاك الأرض… إنها السيدة التي قال عنها البابا بندكتس السادس عشر، مريم، نعم ملكة أكثر من أي مخلوق آخر بسبب سموّ نفسها، والعطايا المميزة التي حظيت بها، وهي لم تتوقف قط في تقديم كل كنوز حبها وحنانها للبشرية، وملوكيتها علامة العلاقة الوثيقة بين تمجيدها بجسدها وروحها إلى جانب ابنها، وهذا ما جعلها الرب لملكه العالمي حتى تكون أكثر متشابهة لابنها (نور الأمم؛ 59).

ملوكية مريم مستمرة من أمومتها، هي أمّ الرب وملك الملوك (إشعيا 1:9-6)، ورسالتها تحملنا وتدلّنا على يسوع الذي هو الحياة والخلاص والرجاء. فقد أشار البابا بولس السادس في الإرشاد الرسولي “التقوى المريمية” قائلاً:”كل ما في العذراء مرتبط بالمسيح، وكل شيء يعتمد عليه، فله اختارها الله الآب منذ الأزل كأمّ كلية القداسة، وزيّنها بمواهب الروح القدس التي لم تُمنَح لأي شخص آخر” (رقم 52).

    مريم ملكتنا

فمريم أن تكون ملكة _ يقول قداسة البابا بندكتس السادس عشر _ يعني أنه ليس فقط لقب كغيره من الألقاب، بل نتيجة اتحادها مع ابنها لوجودها في السماء، أي في شركة مع الله. فهي تشارك الله مسؤولية حبه للعالم في ملوكية يسوع عبر التواضع والخدمة والمحبة، وليس شأن ملوكية أشخاص سلطويين وأصحاب الثروات، فيسوع أُعلن ملكاً على الصليب “ملك اليهود” (مرقس 26:15). إنه ملك، ولكنه على الصليب يشاركنا معاناتنا وحَمْلِها عنا حتى النهاية… إنها ملوكية لخدمة العبيد، وهذا الشيء عينه ينطبق على مريم، فهي ملكة بالخدمة من أجل البشرية… ملكة المحبة التي سلّمت أمرها لله في مشروع خلاص الإنسان (لو 38:1). فبحبّها لنا أصبحت ملكة، وبمساعدتها لنا في جميع احتياجاتنا هي أختنا الخادمة والمتواضعة.

    نحن لقلب مريم الطاهر

ولكي ندخل في صلب الموضوع، لماذا نكرّس؟، لأننا نؤمن بأنها ستسهر علينا عندما نناجيها بالصلاة لشكرها ولطلب حمايتها الوالدية ومساعدتها السماوية بعد أن ضللنا الطريق، وعانينا الألم ولا زلنا، والقلق الساكن فينا بسبب الأحداث المؤسفة التي تغيّر مجرى حياتنا وصفاء وجودنا، أو في ظلمته، وفي هذا نتوجه إلى مريم واثقين بشفاعتها، لكي ترافقنا في مسيرتنا على دروب العالم، ومن خلال مريم نتوجه واثقين إلى الذي يحكم العالم ويحمل بين يديه قدر الكون، فهي التي أُعلنت منذ قرون كملكة للسماء… وهذا ما نردده في دعائنا إليها كسلطانة الملائكة والآباء والأنبياء والرسل والشهداء والمعترفين والعذارى وجميع القديسين والعائلات… هذه وصلوات مريمية أخرى تساعدنا على أن نفهم بأن العذراء مريم أمّنا التي هي بجانب ابنها يسوع في مجد السماء، هي دائماً معنا في سياق حياتنا اليومية.

لذلك فملوكية مريم العذراء هي لنا لقب ثقة وفرح ومحبة، ونحن نعلم بأن التي في يديها مصير العالم هي طيبة وتحبنا وتساعدنا في الصعوبات التي نواجهها. لذا علينا ألا ننسى أن نتوجه إليها بثقة بصلاتنا، لن تتردد مريم بالتوسط لنا عند ابنها. علينا بالتأمل بها أن نتمثل بإيمانها وبوهب الذات لمشروع الله، واستقبالها ليسوع برحابة. فلنتعلم من مريم كيف نحيا… مريم هي ملكة السماء، قريبة من الله ولكنها أيضاً أمّنا، قريبة من كل واحد منا وهي تحبنا وتسمع صوتنا (البابا بندكتس السادس عشر :ملكة الكون 29 آب 2012).

    أمّي وملكتي

نعم، ما قام به غبطة البطريرك الراعي وبمعيته رؤساؤنا المغبوطين الأجلاء ما هو إلا حدث إيماني يتجدد بروح الحياة التي مُنحت لنا “فكانت نوراً لنا” (يو9:1). ففي تكريسنا للقديسة الملكة عبر قلبها الطاهر ما هو إلا حقيقة إيماننا وقوة شفاعتها وسند مسيرتنا… إنه حدث بامتياز بل يوم بامتياز طالما حلمنا به وناشدناه وقصدناه وتعلّقنا به وسمّيناه عيداً سماوياً تجسد في قلوبنا وأصبحنا مُلكاً لأمّ هي ملكتنا، وما هي إلا سيدتنا وما نحن لها إلا أبناؤها، وفي ظل جلبابها احتمينا، وبعشّ حنانها رضعنا، وفي مدرستها وتحت قدميها تعلّمنا… فها هي تعطينا يديها، وتلقي نظرتها علينا من فوق… فما لنا أن نقدم لها إلا وروداً وقوارير طيب، فهي لنا البلسم الشافي… فتكريسنا لِحَجَرِنا قادنا إلى تكريس بَشَرِنا… هذا هو صوت الإرشاد… وهذا هو صوت الشركة والشهادة. فالإرشاد يقول… المسيحي قبل كل شيء شاهد، والشهادة لا تتطلب فقط تنشئة مسيحية ملائمة لفهم حقائق الإيمان، بل تنشد أيضاً حياة متوافقة مع هذا الإيمان نفسه للردّ على متطلبات أناس زمننا (الإرشاد 66)، لأن الأوضاع البشرية المؤلمة، الناجمة عن الأنانية والقلق والرغبة الجامحة في السلطة، قد تلد الإحباط وفقدان العزيمة، لذلك يوصي المسيح بالمداومة على الصلاة (الإرشاد 82).

والكنيسة الكاثوليكية جمعاء في الشرق الأوسط، مدعوّة مع الكنيسة الجامعة للالتزام بالبشارة ذاتها، مع الأخذ في الاعتبار دعوة لتبشر نفسها مجدَّداً من خلال اللقاء مع المسيح، كما يقول البابا بولس السادس (الإرشاد الرسولي الخاص “إعلان الإنجيل”؛ 8 كانون الأول 1975):”إن مَن تلقّى البشارة، عليه أن يبشر. هذا هو برهان الحقيقة وحجر زاوية البشارة. فلا يُعقَل أن إنساناً قد قبل الكلمة وأعطى نفسه للملكوت بدون أن يصبح شخصاً بدوره يشهد ويبشر”، وهذا ما أدركته أمنا مريم أولاً.

    الخاتمة

اليوم، كلنا مدعوون إلى التوقف قليلاً والتفكير مليّاً بكل ما نعمل. نعم، إن الكنيسة تدعونا في هذا الشرق إلى الصلاة اليومية في العائلة لكي يظلّ لها مكاناً في حياتنا. فاقبلي يا مريم مسبحاتنا التي صلّيناها، والتطوافات التي أقمناها، والزياحات والشموع التي أضأناها، والنذورات. واجعلينا نشهد للحقيقة… فكل منا يدّعي الحق… فكم نحن بحاجة اليوم إلى كلمة حق، وخاصة نحن نتكلم في هذه الظروف القاسية التي يتخبط فيها العالم ومنطقتنا بالخصوص، وما يتكلم عنه شرعة حقوق الأنسان ،  والشعارات والكلمات المهمة، أين هو الحق؟… إنه رسالتنا… إنه إيماننا… هو هذه البشرى السارة أن ربنا يحبنا وافتدانا بدمه الكريم، وعلينا أن نقبل هذه البشرى، وأن يسكن الروح القدس ويتحول إلى شاهد حقيقي التي هي بشرى الحياة. فكلنا مدعوون للاتجاه نحو سيدة العباد كي نكون طلاباً في مدرستها، ونتوّجها ملكة على نفوسنا… إنها الشاهد الحقيقي لمسيرة إيماننا بابنها يسوع، كما إنها حامية الإرشاد ليكون شهادة وشركة ليس إلا، تلك رسالة راعينا بشارة وإبائنا المغبوطين. وسأبقى أناجي أمّنا، يا أمّنا يا أمّنا، يا مريم العذراء، مهما صعق الدهر بي وأفسد الزمان مسيرتي في الإيمان، ومحبتي مع جميعكم في المسيح يسوع، نعم وآمين!.