بعض الأمراض الشائعة والمخفية
بقلم المونسنيور د. يوأنس لحظي جيد
أولًا: وصف مرض الفساد الشامل
“مرض الفساد الشامل” هو مصطلح يصف حالة من التدهور والتلوث الذي تصيب جوانب متعددة في حياة الفرد والمجتمع. الفساد كالسرطان يبدأ بسيطًا وصغيرًا ليلتهم وبسرعة كافة الجوانب الأخرى. إن مرض الفساد هو وباء يفتك بالروح والنفس والمجتمع. إنه إمكانية تحيا بداخل كل منا وتنتظر الفرصة للخروج، لذا يعلمنا الكتاب المقدس: “إِذًا مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَائِمٌ، فَلْيَنْظُرْ أَنْ لاَ يَسْقُطَ” (1 كو 10: 12). إنه كأسد يزأر ويلتمس من يبتلعه (1 بط 5: 8).
يشمل هذا الفساد أربعة جوانب رئيسية تتفاعل وتتعاضد فيما بينها:
الفساد الروحي: ويتعلق غالبًا بالذين يدعون التدين ويستخدمون الدين للتحكم في الآخرين وللحصول على منافع وامتيازات شخصية. وبرغم ادعاء التقوى والإيمان إلى أن الشخص الفاسد روحيًا هو في الحقيقة أبعد ما يكون عن القيم والمبادئ الروحية السامية. إنه يتكلم عن الله ولكنه يحيا بعيدا عن أية علاقة حقيقية مع الخالق. إنه فاقد للإحساس بالهدف والمعنى الأسمى للحياة. إنه بلا ضمير حي، وغالبًا ما يتجاهل النداءات الداخلية للخير والحق. إنه منغمس في الأنانية والملذات الحسية العابرة على حساب القيم الروحية الدائمة. إنه فاسد روحيًا برغم اهتمامه بالمظاهر والاصوام والصدقة وأوقات الصلاة والتظاهر أمام الناس.
الفساد الأخلاقي: يتعلق الفساد الأخلاقي بالعيش بطريقة بعيدة عن المعايير الأخلاقية والقيم الإنسانية النبيلة. فالفاسد أخلاقيا يتبنى الكذب، والخداع، والغش، والخيانة، والظلم، والاستغلال، والعنف، وعدم احترام حقوق الآخرين وكرامتهم. إنه فاقد للبوصلة الأخلاقية ويسعى دائما لتبرير الأفعال الخاطئة من أجل المصلحة الذاتية أو تحقيق مكاسب دنيوية.
الفساد العاطفي: يقصد بالفساد العاطفي العيش بطريقة مشوهة ومبتذلة تعتمد على استغلال مشاعر الآخرين واللعب بمشاعرهم والتنقل من علاقة عاطفية إلى أخرى دون مراعاة أو اهتمام بمشاعر الآخرين. الفاسد عاطفيا يتميز بالأنانية في الحب، وعدم القدرة على التعاطف الحقيقي مع الآخرين، والاستغلال العاطفي، والغيرة المرضية، والكراهية، والحقد، وعدم القدرة على بناء علاقات صحية ومستدامة قائمة على الاحترام المتبادل والمودة الصادقة. إنه مرض يتجلى في قسوة القلب، واللامبالاة بمشاعر الآخرين، وتحويل العلاقات إلى أدوات لتحقيق الذات.
الفساد المالي: يعتبر فاسد ماليًا كل إنسان يتعامل مع المال والاشياء المادية بانحراف وبدوننزاهة وأمانة وإخلاص وشفافية. يمارس الفاسد ماليًا السرقة، والاختلاس، والرشوة، والتزوير، والاحتيال، واستغلال النفوذ لتحقيق مكاسب غير مشروعة. وهو شخص يسيطر عليه الطمع والجشع، وتفضيل الثروة المادية على القيم الأخلاقية والروحية، وعدم الاكتراث بحقوق الآخرين ومصالحهم في السعي وراء المال.
هذه الجوانب الأربعة من الفساد تتداخل وتغذي بعضها البعض. فالفساد الروحي يضعف الضمير الأخلاقي، مما يسهل الانزلاق إلى الفساد العاطفي والمالي. وبالمثل، فإن الانغماس في الملذات المادية والجشع المالي يمكن أن يعمي القلب عن الحقائق الروحية ويشوه العلاقات العاطفية.
من المستحيل أن تجد إنسانا فاسدًا في جانب وقديسا في بقية الجوانب الأخرى.
ثانيًا: خطورة مرض الفساد
يعتبر هذا المرض خطرًا جسيمًا وخطيرًا جدًا على الفرد والمجتمع:
خطورة الفساد على الشخص المصاب:
غالبًا ما يخسر الفاسد كل شيء اثناء سعيه الجشع لكسب كل شيء، فعلى المستوى الشخصي نجد الفاسد يفقد الاتصال بالذات الحقيقية، فهو منفصل عن قيمه الأساسية وروحه النقية، ويعيش حياة سطحية فارغة من المعنى الحقيقي. وغالبًا ما تدهور صحته النفسية، فيعيش الحياة غارقا في الشعور بالذنب، والقلق، واليأس، والفراغ الروحي إلى تفاقم المشاكل النفسية مثل الاكتئاب والقلق واضطرابات الشخصية. ويؤدي الفساد إلى تدمير العلاقات الشخصية، فيفقد الفاسد ثقة الآخرين واحترامهم بسبب سلوكياته المنحرفة، مما يؤدي إلى العزلة والوحدة.
يؤدي الفساد بصاحبه إلى فقدان الفرص الحقيقية للسعادة لأن الفاسد منشغل بالسعي وراء ملذات زائفة ومكاسب دنيوية عابرة، لدرجة نسيان أن جوهر السعادة الحقيقية ينبع من القيم الروحية والعلاقات الصادقة. أخيرا يقود الفساد صاحبه إلى الابتعاد عن طريق الحق والخير والغرق في الشك والريبة. إنه غالبًا يرى جميع الناس فاسدين ولا يثق بأحد وبالتالي يعيش في سجن صنعه بيديه وأمام مرآة لا يرى فيها سوى قباحته.
خطورة الفساد على المحيطين بالشخص المصاب والمجتمع ككل:
يؤدي الفساد إلى انتشار الظلم والاستغلال والانحلال الأخلاقي والمالي وتآكل العدالة والمساواة وانتشار الظلم والاستغلال بين الناس. ويقود إلى تفكك الروابط الاجتماعية وإضعاف الثقة والتعاون والاحترام المتبادل بين أفراد المجتمع، وبالتالي إلى تفكك الروابط الاجتماعية.
يؤدي الفساد إلى تدهور المؤسسات سواء من الناحية المالية أو الإدارية أو التنظيمية أو الإنتاجية، إنه يقود إلى ضياع الموارد وإهدار الطاقات واستنزافالموارد العامة ويحولها إلى مصالح شخصية، مما يعيق التنمية والتقدم. إنه يغذي انتشار اليأس والإحباط في المجتمع ويجعل الناس يشعرون بأن الفساد مستشرٍ ولا يوجد أمل في التغيير، مما ينشر اليأس والإحباط ويضعف الانتماء والولاء للمجتمع.
ثالثًا: أمثال على الفساد الشامل من الحياة اليومية
الفساد الروحي والأخلاقي:
رجل الدين الفاسد: يرتدي عباءة الدين ويتظاهر بالتقوى والفضيلة أمام الناس، ولكنه يمارس في الخفاء سلوكيات منافية للأخلاق والقيم الروحية. إنه مرائي ومنافق يعظ الناس وينهب بيوتهم، يتكلم عن العفة وهو زاني، وعن الرحمة وهو بطاش، وعن الغفران وهو كاره، وعن الحكمة وهو أحمق، وعن الفقر وهو ثري، وعن الآخرة لينهب الناس الدنيا، وعن الله ليخدر الناس ويُخرسهم. إنه بلا ضمير وبلا ايمان وبلا إنسانية.
المسؤول الفاسد: هو إنسان يتكلم طيلة الوقت عن النزاهة والشفافية ولكنه يستغل منصبه لتحقيق مصالح شخصية غير مشروعة، ويبرر الرشاوى والتلاعب بالحسابات وبضمائر الآخرين. إنه شخص يكذب ويغش في تعاملاته اليومية دون الشعور بأي تأنيب للضمير. إنه فاسد ومفسد لكل من حوله لأنه يعتقد بأن عمومية الفساد ستحميه من العقاب وستقلل من شعوره بالذنب.
الفساد العاطفي:
الشريك الفاسد: أي الزوجة أو الزوج الذي يستغل الطرف الآخر عاطفيًا لتحقيق احتياجاته الأنانية دون الاهتمام بمشاعر الشريك. إنه لا يفكر إلا في نفسه واحتياجاته ورغباته. إنه خائن ويتهم الطرف الآخر بالخيانة وغالبًا ما يمارس اشد أنواع الغيرة في علاقته لأنه يشك في نفسه وفي الآخرين.
الصديق الفاسد: إنه الصديق الي يأكل في بيتك وتأتمنه على نفسك وعلى اسرتك وأموالك ويتظاهر بالود والمحبة ولكنه يحسد صديقه ويتمنى له الشر في الخفاء، وغالبًا ما يسعى لمعرفة المزيد كي يضرب صديقه في مقتل. إنه خسيس يتظاهر بالأمانة والصدق ويردد لك دائما أجمل العبارات كي يخدر صديقه ويخونه.
الزاني: أي الشخص الذي لا يفكر سوى في الجنس ويسعى دائما لإقامة علاقات عابرة لإشباع رغباته الأنانية دون الاكتراث بمشاعر الطرف الآخر. إنه يختلس النظرات ويعيش في عالم افتراضي لا شيء فيه سوى الجنس والممارسات الجسدية.
الفساد المالي:
المرتشي: كل موظف يتقاضى رشوة لتسهيل معاملات غير قانونية أو حتى قانونية هو فاسد ماليًا وغالبًا ما يبرر فساده بفساد النظام والحكومة والدولة والنظام الاقتصادي الدولي.
اللص: مثل رجل الأعمال الذي يتلاعب بالقوانين ويتهرب من الضرائب لتحقيق ثروة غير مشروعة.
المختلس: كل مسؤول يختلس الأموال العامة ويستغل منصبه لإثراء نفسه وأقاربه.
رابعًا: طرق علاج مرض الفساد الشامل النفسية والروحية
يتطلب علاج مرض الفساد أولا اعترافا بالمرض وثانية رغبة حقيقية في الشفاء منه وثالثًا مجهودا كبيرًا ومخلصًا للتحرر منه على المستويات الفردية والمجتمعية.
تشمل الجوانب النفسية والروحية العلاج النفسي مثل العلاج السلوكي المعرفي (CBT) لتحديد الأفكار والسلوكيات الفاسدة وتغييرها بأنماط أكثر صحية وأخلاقية. والعلاج بالقبول والالتزام (ACT) والذي يركز على قبول المشاعر السلبية المصاحبة للفساد والالتزام بالعيش وفقًا للقيم الروحية والأخلاقية. كما يحتاج إلى العلاج المرتكز على المعنى (Logotherapy) لمساعدة الشخص على اكتشاف معنى وهدف أسمى لحياته يتجاوز الملذات المادية والمكاسب الأنانية. كما قد يلجأ المعالج إلى العلاج بالتعاطف لتطوير القدرة على فهم ومشاركة مشاعر الآخرين، مما يعزز السلوكيات الأخلاقية والإيجابية في العلاقات.
يحتاج العلاج إلى جهود مجتمعية مثل تعزيز التعليم والقيم الأخلاقية والروحية في المناهج الدراسية ووسائل الإعلام والمؤسسات الدينية. وتطبيق القانون بصرامة ومحاربة الفساد المؤسسي لضمان العدالة والنزاهة في المجتمع. وتشجيع الشفافية والمساءلة في جميع جوانب الحياة العامة والخاصة. ودعم المبادرات التي تعزز القيم الإيجابية في المجتمع وتشجيع المشاركة المدنية.
أما بخصول العلاج الروحي فالفاسد يحتاج إلى التوبة والرجوع إلى الله والاعتراف بالأخطاء والذنوب والخطايا وطلب المغفرة والسعي للتغيير والالتزام بالقيم الروحية. يحتاج إلى تقوية العلاقة مع الله من خلال الصلاة، والتأمل، وقراءة النصوص المقدسة، وممارسة الأسرار الكنسية والطقوس التي تعزز القيم الروحية والأخلاقية. يحتاج لتنمية الوعي الروحي والأخلاقي من خلال التفكر في معاني الحياة، والتمييز بين الحق والباطل، وتنمية الضمير الحي. يحتاج أيضا إلى ممارسة الفضائل والقيم الروحية والأخلاقية، مثل الصدق، والأمانة، والعدل، والإحسان، والتسامح، والتعاطف، والتواضع. وطلب الإرشاد الروحي والتحدث مع مرشد روحي للحصول على الدعم والتوجيه في رحلة التطهير الروحي والأخلاقي. من المفيد كذلك الانخراط في مجتمعات روحية وأخلاقية إيجابية لتعزيز القيم الصحيحة وتقديم الدعم والمساءلة.
الخلاصة:
مرض الفساد هو وباء يفتك بالروح والنفس والمجتمع، ويهدم الإنسان من الداخل ويقوض أسس الحضارة الإنسانية. إنه كالإدمان يبدأ بمزحة وبتكرار عبارة “وإن فسد الجميع سأبقى صحيحًا”، ليكتشف الانسان فيما بعد، وغالبًا بعد فوات الأوان، أنه أصبح عبدًا لفساده وأن أصبح ضحية لذلك الوحش الذي رباه فالتهمه.
يتطلب علاج الفساد جهدًا وجهودًا فردية ومجتمعية متكاملة تركز على تطهير الروح، وتقوية الأخلاق، وتنمية المشاعر الإيجابية، وتعزيز النزاهة الروحية والمالية والعاطفية والإنسانية. يتطلب العودة إلى القيم الروحية والأخلاقية الأصيلة، والالتزام بالحق والخير، والسعي نحو مجتمع يسوده العدل والمحبة والتعاون. إن السبيل الوحيد لمكافحة هذا المرض المدمر هو الاعتراف بخطورته والكف عن التقليل منه أو إنكاره والعمل بإخلاص للتحرر منه مهما كان الثمن.
قمنا في الأسابيع السابقة بالتكلم عن:
أولًا: مرض الإنكار
ثانيًا: مرض الإسقاط
ثالثًا: مرض التظاهر
رابعًا: مرض الكذب والإنكار
خامسًا: مرض تبلد أو موت الضمير
سادسًا: مرض التطفل والحشرية
سابعًا: مرض العناد
ثامنًا: مرض الخنوع والعبودية الاختيارية
تاسعًا: مرض التطرف
عاشرًا: مرض الحصان المَيْت
حادي عشر: مرض استغلال الآخرين والتلاعب بهم
ثاني عشر: مرض عمى البصيرة
ثالث عشر: مرض القطيع أو التحجج بالأغلبية
رابع عشر: المراهقة المستمرة وعدم النضج
خامس عشر: مرض الخيانة، يهوذا الساكن فينا
سادس عشر: مرض لعب دور الضحية
سنتناول في الأسابيع القادمة بعض الأمراض الأخرى (للحديث بقية).
