الخبز والألعاب : كرة القدم في نسختها المسيحيّة

بقلم الأب بيار نجم المريمي*

باريس، الأربعاء 16 يونيو 2010 (zenit.org

 "الخبز والألعاب" (Panem et circenses): هذه العبارة اللاّتينيّة هي أصدق تعبير عن حياة الشعب الرومانّي في فترة الإنحطاط. بحسب ساسة الأمّة، الخبز والألعاب هما حاجة المجتمع ووسيلة كسب رضاه، وطريقة إلهائه عن حياة المدينة السياسيّة وعن القرارات المصيريّة التي كان على مجلس الشيوخ اتّخاذها، دون حسيب أو رقيب: فالشعب ملهوّ بالخبز الموزّع مجّاناً، وبالألعاب الدائرة في حلبات الرياضة الرومانيّة. من هنا قول الأديب الرّوماني جوفينال: "منذ أيّام طوال، منذ أن بعنا أصواتنا الى من هم لا أحد، تخلّى الشعب عن واجباته: الشعب الّذى كان يعطي في ما مضى الأوامر العسكريّة، ويشغل أعلى المناصب المدنيّة، ويقود الألوية، قد قلّص ذاته الآن، وحصر كلّ أمله بأمرين فقط: الخبز والألعاب.".

الخبز والألعاب، حاجتان تختزلان أدنى درجات الوجود الإنسانيّ: الخبز لسدّ الجوع وللإستمرار في حياة كلّ يوم، والألعاب لملء الفراغ الوجوديّ. هما الوسيلة الأنجع لجعل الشعب يبتعد عن التفتيش عن الحقيقة وعن معنى أعمق  لوجوده. الخبز والألعاب استطاعا إبعاد شبح الثورة عن السلطة الرومانيّة لعقود طويلة، قبل أن تتآكل الإمبراطوريّة من الداخل، ويؤدّي سقوطها الأخلاقيّ داخليّاً الى سقوطها العسكريّ في وجه الأعداء. يكفي أن يملأ الشعب بطنه بالخبز ووقته بالألعاب ليكفّ عن طرح السؤال حول معنى السعادة الحقّة.

ولكن إذا غادرنا الأمبراطورّية الرومانيّة، وعدنا بالزمن الى الوراء، وانتقلنا من روما الى أثينا، إذا تسلّقنا جبل الأولمب، الجبل الأعلى في الأرخبيل اليونانيّ، (وارتفاعه يكسبه بعداً رمزيّاً، لأنّ مكان ترك الحياة الإعتياديّة والإرتقاء الى حالةأسمى)، نجد منطقاً يختلف تماماً عن المنطق الرومانيّ:

جبل الأولمب هو في الميثولوجيا الإغريقيّة مسكن الآلهة، وتريد الأسطورة أن يكون هرقل ابن الإله زوس، هو من شيّد الملاعب الأولمبيّة حول مسكن والده إكراماً له. إن كان الرومان قد ربطوا أهميّة الألعاب بتسليّة الشعب وإلهائه عن الحياة السياسيّة، فإن المنطق اليونانيّ ربط الألعاب بالبعد الرّوحيّ وبالحياة الأخلاقيّة: الألعاب قد نشأت لإكرام الإله، هدفها حفظ القيم الإنسانيّة والمزايا الأدبيّة الحميدة. ومنذ ٣٣٨ ق.م. صار المشاركون مجبرين على أداء قسم قبل قبولهم كمشاركين في المباريات، قسماً من أربعة عشر بنداً، أبرزها:

– أن يكون المشارك يونانيّاً حرّاً لا عبداً (لمنع استغلال العبيد والإستفادة من قوى الخادم في سبيل شهرة السيّد ونفعه الشخصيّ).

– أن لا يكون المشترك محكوماً سابقاً بجرم، وألاّ يكون ذا صيت سييء من الناحيّة الأخلاقية.

– يمنع في المباريات قتل الغريم أو حتّى محاولة قتله.

– يمنع على المشاركين استعمال القوّة غير المبرّرة وتخطّي الحدود في درجة العنف.

– يمنع التهديد والتخويف.

– يعاقب بالجلد من يحاول رشوة الحكم أو الخصم.

– يمنع على المشاركين إهانة الحكم أو الحضور.

– يعاقب الحكم في حال الغشّ.

– يمنع على من هو في لجنة التحكيم المشاركة في الألعاب.

إن الفوارق بين المنطقين، اليونانيّ والرومانّي، عديدة:

فبعكس منطق "الخبز والألعاب"، نجد في عالم الألعاب اليونانيّ منطقاً أخلاقيّاً مبنّياً على الصدق، العدالة وعدم العنف.

والفارق كبير من ناحية نوعيّة الألعاب أيضاً: دموّية في روما، تقوم على العنف، يشكّل مشهد الدم المراق ميزة أساسيّة فيها، يُستعمل العبيد في سبيل التسليّة، إذ يرمون غالباً في معارك مستحيلة ضدّ عدّة مقاتلين أو ضد حيوانات مفترسة، معارك لا تنتهي إلاّ بموت واحد من الخصوم. من الناحيّة الإجتماعيّة السياسيّة، يصبح الدّم وسيلة إطفاء شهوة الشعب للثورة ولتغيير مجتمع سياسيّ فاسد، ويصبح المقاتلون وسيلة تنفيس للغضب الكامن في القلوب. أمّا في اليونان، فالعبيد لا يشاركون، لئلاّ يساء استعمالهم؛ العنف ممنوع كما هو ممنوع استعمال أي شكل من أشكال القوّة غير المبرّرة. هي ليست وسيلة إلهاء، بل وسيلة تثقيف واكتشاف للميزات الإنسانيّة، وطريقة تمرّس بالفضائل الأخلاقيّة والأدبيّة: لذلك ربطها اليونانيّون بجبل الأولمب مسكن الآلهة، لأن الرياضة هي وسيلة إكرام لهم، وأدرجوها في لائحة الفنون الجميلة، لأنّها وسيلة تسلية وتثقيف في آن معاً.

في أي من المنطقين يمكننا إدراج كرة القدم اليوم؟ لا سيّما حين نرى العنف يسيطر على المشاهدين كما على اللاعبين؟ حين يتحوّل الخصم من غريم رياضيّ الى عدوّ تنبغى إزالته؟ حين نسمع الإهانات والشتائم، ويطلق الحضور التعليقات العرقيّة المهينة؟ حين تسيطر روح الوصوليّة على الرّوح الرياضيّة، ويتحول عالم الكرة الى سوق تجارة وإعلان، وتقحم المافيا نفسها في عالم المبارزة الشريفة؟ حين تبدأ الرشوة بفعل فعلها، فتتم بيع النتيجة سلفاً، ويخسر فريق ما عمداً في سبيل نفع مادّي أو تحت وطأة الترهيب؟ ندخل عندها في منطق العالم الرومانيّ: "الخبز والألعاب"، وتفقد الرياضة قيمتها الأخلاقيّة الأولمبيّة الأصليّة.

إذا ما قرأنا شروط الفيفا، نجد أنّها تستمدّ قوانيها من قوانين الألعاب الأولمبيّة الأصلية:

– إلعب بروح رياضيّة،

– إربح لتفوز، واقبل الهزيمة بكرامة،

– حافظ على قواعد اللّعبة،

– إحترم الخصوم، وأعضاء فريقك، والحكّام والإداريّين والمشاهدين،

– أدّ الإحترام لأولئك الّذين يحافظون على سمعة كرة القدم حسنة،

– أرفض الفساد، والمخدّرات، والعنصريّة، والعنف، والمقامرة، وكلّ ما يتسبّب للعبتنا بخطر،

– ساعد الآخرين ليواجهوا ضغوط الرشوة،

– بلّغ عن الّذين يحاولون إن يفقدوا رياضتنا مصداقيّتها،

– استعمل كرة القدم وسيلة لتحسين عالمنا.

إذا ما قارنّا هذه البنود بالبنود الألمبيّة القديمة التي أوردناها سابقاً، نجد أن غاية اللّعبة، اليوم كما في الأمس، هي تحسين المجتمع وبناء الإنسان من خلال رفض الفساد ومحاربته، نبذ العنف والعنصريّة، المحافظة على القيم الإنسانيّة الأخلاقيّة والأدبيّة، في سبيل بناء الإنسان وتحسين المجتمع.

وإذا ما فتّشنا عن جمال الرياضة الإصليّ، وأزلنا عنها أوساخ العنف ورغبة الربح المادّي وشهوة السلطة العنيفة، نكتشف في كرة القدم، كما في سائر الرياضات المعاشة بأخلاقيّتها، مدرسة فضائل أدبيّة وإنسانيّة.

كرة القدم تعلّم التضامن: فلا ربح دون الآخر؛

تعلّم التكاتف: فالفريق هو مصدر الرّبح، حين يضع كلّ لاعب مواهبه وقدراته في خدمة الخير العام المتمثّل في الفريق الّذي ينتمي اليه.

تظهر قيمة الحوار: لا يمكن الوصول الى تسجيل الهدف دون تمرير الكرة، وما الحوار بشخصين ناضجين سوى تمرير أفكار وتبادل آراء، كلّ لاعب يمرّر كرته- كلمته، ويصلان معاً الى هدف مشترك.

تعلّم المثابرة: تسجيل الهدف يتطلّب السعي والركض، أحياناً نفقد الكرة أمام الهدف، فلا بدّ من البدء من جديد.

تعلّمنا محدويّة شخصنا وحاجتنا الى ما هو أكبر منّا، فكما أن اللاّعب على أرض الملعب يدرك أنّه فرد من فريق، وأنّه إزاء فريق آخر، ولا يمكنه أن يربح بمفرده، كذلك نحن، في حياتنا، في عالمنا، في كنيستنا، ندرك أنّنا أصغر من أن نحقّق هدفنا بالإتّكال على قوانا وحدها، فلا بدّ من الإتّكال على الآخرين.

كرة القدم هي أيضاً مدرسة في احترام القوانين، في تدريب الذّات وفي إخضاع النزوات: ردّة الفعل غير المدروسة لا تؤدّي الى نتيجة إيجابيّة أبداً، الغضب يعود بالضرر علي اللاّعب، عدم احترام الحكم يقود المخالف خارج الملعب حتّي ولو كان على حقّ. التسرّع يؤدي باللاّعب الى فقدان فرصة هزّ شباك الخصم كما تؤدّي بنا الى اتّخاذ القرار الخاطئ. أمام شباك الخصم، تتملّك اللاّعب رغبة الإنتصار، رغبة قد تؤدى به الى فقدان الفرصة إن لم يخضع رغبته هذه لمهارته الكرويّة ولحكمه العقلّي، كما يمكن لشهواتنا إن تفقدنا الهدف إن لم نتعلّم ترويضها وإخضاعها لنور العقل والضمير.

كرة القدم تعلّمنا ضرورة عدم السير عكس طبيعة القوانين والحقائق، فلا يمكن تسجيل الهدف بواسطة اليّد، لا يمكن لمس الكرة داخل حدود الملعب، لا يمكن تسجيل الهدف في مرمى الفريق الخاصّ دون إلحاق الأذى بالفريق كلّه. كم من المرّات تتملّكنا الرّغبة بالوصول الى الفوز السّهل، فنفتّش عن أقصر الطرق وعن إسهلها ولو كانت غير جائزة أخلاقيّاً أو غير قانونيّة، كما يفتّش اللاّعب عن إحراز الهدف بأي ثمن، ولو كان على حساب القواعد والعدالة؟ كم من مرّة نرغب بإلحاق الضرر بمن هم الى جانبنا إن لم يوافقوننا الرأي أو لم يقوموا بما نرغب به؟ كم من مرّة ننتقد المؤسّسة التي ننتمي اليها، أو الرعيّة أو راعيها؟ كم من مرّة ننتقد الكنيسة أو خدّامها؟ ننتقد ونجرّح ونهشّم، كما لو أنّنا نسجّل هدفاً في مرمى فريقنا، هدفاً لن يعود علينا سوى بالخسارة: إن خسرت كنيستي مصداقيّتها، أخسر معها المباراة كلّها.

ويبقى قانون التسللّ واحد من أصعب قواعد لعبة كرة القدم: لا يمكن للّاعب الإفادة من كرة إنطلقت نحوه من واحد من أفراد فريقه بينما هو كامن وحده أمام حارس مرمى الخصم دون أي مدافع بينهما. هي أيضاً قاعدة صعبة في حياتنا اليوميّة: حتى الخصم له الحقّ في الدفاع عن نفسه، ولا يحقّ لي الإفادة من مكانة مميّزة أتمتّع بها لإلحق الخسارة بخصم مستفرد لا عضد له لأستفيد من ضعفه وأحقّق هدفي. لا يحقّ لي في حياتي اليوميّة أن أنكر عن أخصامي حقّ الدفاع، ولا أن أتسلّل دون حقّ في حياة الآخرين، في ملعب حياتهم، دون رقيب ولا حسيب، فقط من أجل إحراز أهدافي.

 وأن كانت قاعدة عدم التسلّل هي الأكثر تعقيداً، فإن ضربة الجزاء هي الإكثر خطورة، يترتّب عليها مسؤوليّات جمّة: هي قاعدة رياضيّة تظهر لي أن خطأً قمت به أنا أو واحد من فريقي عمداً، لا يمكن أن يمرّ دون عقاب. يعلمّني هذا الجزاء أن أخطائي المتعمّدة والقاسيّة تطال فريقي، جماعتي، شركتي، رعّيتي وكنيستي، حتى ولو لم يكن للآخرين علاقة بها: في الحياة الجماعيّة، يتحوّل النجاح الشخصّي الى نجاح جماعيّ، كما يتحوّل الفشل الخاص الى فشل جماعىّ. ومن ناحية أخرى، يظهر قانون ضربة الجزاء أن فوز الفريق متعلّق بركلتي وبتسديدي هدفاً داخل الشباك: هو اختبار نحياه في حياتنا العامّة من خلال ما ندعوه بحسّ المسؤوليّة. هذه المسؤولية الملقاة على كاهل واحد من الفريق، مدعو لإحراز هدف لفريقه، يمكنها أن تكون سبب خوف وعدم قدرة على التسديد إذا ما سمحنا للخوف بالتملّك فيه، كما يمكنها أن تكون سبب انتصار إذا ما تمالك أعصابه، واستبدل الخوف بالفطنة والهدوء. والأمر عينه ينطلي على حارس المرمى الخصم الّذي يحاول الدفاع عن شباك فريقه بسبب خطأ لم يقترفه هو شخصيّاً. هنا تعلّمنا كرة القدم أن الخوف المبالغ به يصبح عائقاً أمام تحقيق الهدف، والحلّ يكون بالهدوء، وبالإيمان بمهاراتنا وبالقدرات التّي أعطانا إياها الله، لنقوم بما يمكننا القيام به، حتى ولو كانت النتيجة سلبية.

لعبة تنتهي في تسعين دقيقة، وما الدقائق القليلة الإضافيّة سوى محاولة استدراك لخسارة فادحة، أو محاولة حفاظ علي انتصار ما. لعبة تشبه حياتنا، محصورة في الزمان والمكان، على أساسها ننتصر أو ننهزم، ولا مجال للتعويض في ما بعد. هي مختصر قصّتنا نحن، نسعى للفوز، نتألّم، نسقط، نسجّل أهدافا أو نرى شباك حياتنا تهتزّ، نحيا في فريق، نفوز إذا ما عرفنا كيف "نلعب" مع الآخرين، وننهزم إذا ما قرّرنا الإنغلاق على أنانيّتنا. نكافح ونتعب قبل سماع صفارة الختام، عندها لا مجال للإستمرار، فعندها سوف نحصد ما قد زرعناه.

إذا ما عرفنا كيف نستفيد، وحافظنا على أخلاقية لعبة كرة القدم ومعناها الرّياضيّ، نتجنّب السقوط في منطق "الخبز والألعاب" الرومانيّ، ونسمو بالكرة الى معناها الحضاريّ، التعليميّ الأخلاقيّ، فتصبح اليوم، كما كانت عليه أيّام اليونانيّين على جبل الأولمب "فنّاً جميلاً"، "يكرّم الإله"، ويقدر على جعلنا نكتسب الصفات الأدبيّة والأخلاقيّة التي تنمّي إنسانيّتنا.

"من الممكن أن نتعلّم كيف نحيا بروح رياضيّة، لأنّ حرّية الإنسان تنمو أيضاً من القواعد ومن النظام الشخصيّ المكتسب. في كلّ الأحوال، إن مشهد عالم يتفاعل مع هذه اللّعبة يجب إن نستفيد منه لأكثر من مجرّد اللّهو: فإذا غصنا في عمق الموضوع، نجد أن اللعبة ترينا مفهوماً مختلفاً لمعنى حياتنا" (البابا بندكتوس السادس عشر، Mitarbeiter der Warhreit).

– – –

* مدير موقع شريعة المحبة (lexamoris.com)