تقديم وتعريب الأب د. يوأنس لحظي جيد
رئيس تحرير موقع كنيسة الإسكندرية الكاثوليكي
مقدمة للمترجم
إن موضوع الحملات الصليبية هو موضوع شائك تحاط حوله الكثير من المبالغات والأكاذيب والأساطير التي لا أساس تاريخي لها والتي تنبع غالبا من ثقافة "تحقير الآخر" والتشنيع به والتحجج بأنه السبب في كل المصائب التي نحياها، كوسيلة للتهرب من المسئولية الذاتية في مواجهة وتقويم الأوضاع الخاطئة، وقبل كل شيء في مواجهة الحقيقة التاريخية. فكان من الطبيعي أن تخضع الحملات الصليبية لذات الثقافة الغارقة في عقلية المؤامرة. وقد تعلمنا في مدارسنا كثيرا من القصص والحكايات التي تصور الصليبين كالوحوش الكاسرة التي هجمت بدون سبب على الحملان الضعيفة المسالمة لتسلبها أرضيها وخيراتها وخيرها، ولا يخلوا كتاب تاريخ عربي من وصف هذه الحملات بأبشع الأوصاف. ولازلنا حتى يومنا هذا نسمع تعبير "الحروب الصليبية" لاسيما من المتطرفين والإرهابيين الذين يتخذون الدين إما ذريعة لإرهابهم وإما تأكيدا لمواقفهم. فأين الحقيقة؟ وهل كانت الحملات الصليبية حروباً دينية، أي بأمر الدين المسيحي؟ ولماذا لم يطلب البابا الصفح عنها؟ وكيف تختلف الحملات الصليبية عن الجهاد الإسلامي أو غيرها من الحروب الدينية؟
كلها أسئلة يجاوب عنها الأستاذ الجامعي توماس مادن، عميد التاريخ في جامعة سانت لويس (ميسوري)، بطريقة مبسطة وواضحة ودون تحيز أو تقويل أو تهوين أو تضخيم متبعا المنهج والحقيقة التاريخية ومعريا كثير من الأكاذيب التي حيكت حول الصليبين. وقد جاءت هذه الإجابات بالتعاون مع وكالة زينيت الأخبارية العالمية.
ومن الجدير باذكر أن قداسة البابا الحالي بندكتوس السادس عشر قد أكد مرارا وتكرارا أنه "لا وجود لحروب مقدسة" وأنه "لايمكن قبول القتل باسم الله" لأنه يستحيل الربط بين "الله والعنف" لأن العنف يتعارض كليا مع طبيعة الله القدوس، أي أن كل عنف وقتل وإرهاب باسم الله هو تشويه وتزيف واسقاط بشري على طبيعة الله "محب البشر"، الذي يريد خلاص البشر لا هلاكهم.
المترجم
بداية المقال
لم يكن الصليبيون أناسا يهاجمون الآخرين بلا سبب، ولم يكونوا لصوصا جشعين أو مستعمرين القرون الوسطى، كما ورد في بعض كتب التاريخ.
يؤكد توماس مادن، أستاذ مشارك وعميد التاريخ في جامعة سانت لويس (ميسوري)، ومؤلف كتاب "تاريخ موجز للحملات الصليبية"، أن الصليبيين كانوا "قوة دفاعية" لا تهدف إلى الربح عن طريق كسب ثروات الأرض أو تحقيق مكاسب إقليمية. وقد رسم الأستاذ مادن مع زينيت صورة تاريخية متعرضا لأكثر الأساطير انتشارا فيما يتعلق بالصليبيين، موضحا أن أغلبها لا أساس له.
ما هي الأخطاء الأكثر شيوعا في تأريخ الحملات الصليبية، وعن الذين شاركوا فيها؟
مادن: بعض الأساطير الأكثر شيوعا وحقيقة أنها لا تمت للحقيقة بصلة هي على النحو التالي :
الأسطورة الأولى: إن الحملات الصليبية كانت حروبا عدوانية ضد العالم الإسلامي المسالم بدون مبرر.
يعتبر هذا التأكيد من أكثر الأقاويل خطاءً. فمن وقت محمد، كان المسلمون يحاولون غزو العالم المسيحي. وقد حققوا بالفعل نجاحا كبيرا. فبعد عدة قرون من الغزوات المستمرة، نجحت الجيوش الإسلامية في احتلال كامل لشمال أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا الصغرى، وجزءا كبيرا من إسبانيا.
وبعبارة أخرى، يمكننا تأكيد أنه بحلول نهاية القرن الحادي عشر، كانت القوات الاسلامية قد احتلت ثلثي العالم المسيحي: فلسطين، موطن يسوع، مصر، مهد الرهبنة المسيحية، وآسيا الصغرى، حيث زرع القديس بولس بذور الجماعات المسيحية الأولى – (وأيضا دول شمال أفريقيا) وهذه المناطق لم تكن هامشية بالنسبة للمسيحية، بل كانت قلب العالم المسيحي الحقيقي. ومن الأكيد أن الإمبراطورية الإسلامية لا تكن تريد أن تتوقف عند هذا الحد، بل استمرت في الدفع غربا نحو القسطنطينية، حتى الوصول إلى حدود أوروبا ذاتها. وهذا يؤكد أن العدوان غير المبرر كان من جانب المسلمين، في ذاك الوقت، لم يترك أمام المتبقي من العالم المسيحي سوى خيار "الدفاع عن ذاته"، لأن الحل البديل كان "الاستسلام" للغزو الإسلامي.
الأسطورة الثانية: الصليبيون كانوا يرتدون الصلبان، ولكنهم في الحقيقة لم يهتموا إلا بكسب الثروات والأراضي، فكانوا يخفون جشعهم ونواياهم الحقيقية تحت غطاء الدين .
اعتقد المؤرخون لزمان طويل أن أوروبا، في أوقات الحملات الصليبية، كانت تمر، من الناحية الديموجرافية بزيادة سكانية، مما أدى إلى وجود عدد كبير جدا من النبلاء، الذين تدربوا على فنون الحرب، يقابلها قلة في الأراضي الإقطاعية التي يمكنهم امتلاكها. فكانت الحملات الصليبية هي "صمام الأمان"، أي الحل الذي دفع هؤلاء الرجال للحرب خارج الحدود الأوروبية، ليحصل كل منهم على الأراضي التي يغزوها.
وهنا يمكننا تأكيد أن التأريخ الحديث قد أسقط هذه الأكذوبة، لاسيما بعد ظهور قواعد البيانات الإلكترونية. فنحن نعلم اليوم بكل يقين أن الذين تجاوبوا مع نداء البابا في عام 1095، وشاركوا لاحقا في الحملات الصليبية كانوا من أبكار أوروبا الذين ذهبوا للمشاركة في الحملات الصليبية متحملين تكاليفها الباهظة. فقد أضطر الرجال، غالبا في ربيع العمر، إلى بيع أو رهن أراضيهم لجمع الأموال اللازمة. وكان معظمهم يعرف أيضا أنه لا مصلحة له في إقامة مملكة أو الحصول على ممتلكات وراء البحار. ولفهم الأمر يمكن تشبيهه بجنود اليوم، فكان الصليبيون أثناء الحملات الصليبية في القرون الوسطى يفتخرون بالقيام بواجبه، ولكنهم أيضا يطوقون بشوق للعودة إلى ديارهم. وما يؤكد هذا أنه بعد النجاحات الباهرة التي حققوها في الحملة الصليبية الأولى، باحتلال القدس ومعظم فلسطين، عاد الصليبيون تقريبا جميعا إلى ديارهم، ولم يتبق سوى جزء بسيط منهم لتوحيد وتنظيم الأراضي الجديدة.
وما حصلوا عليه لم يكن كبيرا. فتَخيُل أن الصليبيين سيجدون ثروات واسعة في المدن الشرقية الفاخرة، غير صحيح لأنهم لم يتمكنوا حتى من استرداد التكاليف التي تكبدوها في بداية. فبالتأكيد لم يكن المال أو الأرض هو الدافع وراء الدخول في الحملات الصليبية. لقد ذهبوا أولا للتكفير عن خطاياهم وللحصول على الخلاص عن طريق الأعمال الجيدة في أراض بعيدة. وقد تحملوا النفقات والمشقة لأنهم آمنوا بأن الهدف هو مساعدة إخوانهم وأخواتهم في الشرق، أي الحصول على الكنز السمائي، حيث لا يصل الصدأ أو العث[1]، واضعين أمام عيونهم كلامات المسيح: "من لا يحمل على عاتقه صليبه كل يوم لا يستحق أن يكون لي تلميذا" ومتذكرين أيضا: "أنه ليس حب أعظم من هذا أن يبذل الإنسان حياته من أجل أصدقائه".
الأسطورة الثالثة: ذبح الصليبيون، في عام 1099، جميع الرجال والنساء والأطفال في المدينة القدس ، لدرجة إغراق الشوارع بالدماء.
هذه هي واحدة من القصص المفضلة لأولئك الذين يريدون إظهار فظاعة وبشاعة الحملات الصليبية.
ومن المؤكد تاريخيا أن العديد من الأشخاص قد لقوا مصرعهم في أورشليم بعد أن استول الصليبيون على المدينة. ولكن يجب أن ينظر إلى الأمر في سياقه الزمني والتاريخي. ففي الحضارة الأوروبية أو الآسيوية في ذلك الوقت، كان من العادي والمقبول أخلاقيا أن المدينة التي قاومت قبل سقوطها بالقوة تكون ملكا للمنتصرين. هذا لا يعني فقط المباني والممتلكات، ولكن أيضا الأشخاص الذين يعيشون فيها. ولهذا السبب فإن كل مدينة أو قلعة كان يجب أن تدرس بعناية خيار مقاومة المحاصرين، وإلا فإن الحكمة تفرض عليها التفاوض حول شروط الاستسلام.
في حالة أورشليم، فإنهم اختاروا الدفاع حتى النهاية، ظنا منهم بأن أسوار المدينة الهائلة ستقاول الصليبيين حتى وصول الجيوش من مصر. ولكنهم كانوا مخطئون. فقد سقطت المدينة وتم الاستيلاء عليها، وقتل كثيرين، وترك أيضا كثيرين أحرارا.
وفقا للمعايير الحديثة قد تبدو هذه وحشية. ولكن فارس القرون الوسطى يمكنه أن يجعلنا نلاحظ أن أعدادا أكبر بكثير من الرجال والنساء والأطفال الأبرياء يقتلوا اليوم على يد تقنيات الحرب الحديثة، بالمقارنة بالأعداد التي يمكن أن تُقتل تحت السيف في يوم واحد أو يومين. وتجدر الإشارة إلى أن المسلمين الذين استسلموا للصليبيين، في تلك المدن، لم يقتلوا وتركوا أحرارا، ولم تصادر ممتلكاتهم، وترك لهم حرية اعتناق وممارسة عقيدتهم[2].
الأسطورة الرابعة: ألم تكن الحملات الصليبية شكلا من أشكال الاستعمار في القرون الوسطى مغطاة بغطاء ديني.
من المهم أن نتذكر أن الغرب في العصور الوسطى لم يكن صاحب ثقافة قوية ومهيمنة بل كان غارقا في البدائية والتخلف. وكان الشرق الإسلامي في ذلك الحين يمثل القوة والثراء والغنى، وبعبارة أخرى، كانت أوروبا هي العالم الثالث آنذاك.
إن الدول الصليبية، التي تأسست بعد الحملة الصليبية الأولى، لم تكن تهدف إلى انتشار الكثلكة في العالم الإسلامي كالاستعمار البريطاني لأميركا، مثلا. لدرجة أن الوجود الكاثوليكي في الدول الصليبية كان دائما صغيرا جدا، عادة أقل من 10 ٪ من إجمالي السكان. وكان دورهم يقتصر على الحكم والقضاء، وبعضهم كان من التجار الإيطاليين أو أعضاء الفرق العسكرية (…).
وهنا نؤكد أنهم لم يكونوا مستعمرين يريدون احتلال الأراضي أو المصانع، كما هو الحال بالنسبة للهند، مثلا التي ينطبق عليه تسمية "مستعمرة". فالهدف الأول والنهائي للدول الصليبية كان الدفاع عن الأماكن المقدسة في فلسطين وخصوصا في أورشليم، وتوفير بيئة آمنة للحجاج المسيحيين لزيارة تلك الأماكن.
يجب أيضا ملاحظة لأنه لم يكن هناك بلد مرجعية للدول الصليبية، للحفاظ على علاقات تجارية، أو للحصول على فوائد اقتصادية للدول الأوروبية. في المقابل، كانت تكاليف الحملات الصليبية تثقل بشكل كبير موارد أوروبا. أي تكاليف الاحتفاظ بقوة عسكرية. فإلي حين كانوا المسلمون يتقاتلون فيما بينهم، كانت الدول الصليبية آمنة، ولكن عندما توحد المسلمون أصبحوا قادرين على إسقاط التحصينات، والاستيلاء على المدينة في 1291 وطرد جميع المسيحيين.
الأسطورة الخامسة: أن الحملات الصليبية كانت ضد اليهود أيضا.
من اليقين التاريخي أنه لا يوجد أي بابا قد دعى إلى حملة صليبية ضد اليهود. إلا أنه أثناء الحملة الصليبية الأولى، قامت مجموعة كبيرة من المنحرفين، لا علاقة لها بالجيش الرئيسي، بسرقة وقتل اليهود الذين يعيشون في بلدان منطقة الراين. والسبب في ذاك يرجع لا فقط إلى الجشع المحض، بل أيضا إلى التصور الخاطئ بأن اليهود مسئولون عن صلب المسيح، وبالتالي فهم أهداف مشروعة للحرب.
وقد أدان بشدة البابا أوربان الثاني، والباباوات اللاحقين، هذه الاعتداءات على اليهود. وقد حاول كذلك الأساقفة المحليين ورجال الدين والعلمانيين الدفاع عن اليهود، ولكن مع نجاح محدود. وبالمثل، ففي خلال المرحلة الأولى من الحملة الصليبية الثانية، قامت مجموعة من المارقين بقتل العديد من المسيحيين في ألمانيا، قبل أن يصل إليهم القديس برناردو ويمنعهم.
وكانت هذه هي حقا الجوانب المؤسف والناتجة عن حماس الصليبين، لكنها لم تكن أبدا الهدف من الحملات الصليبية. ولاستخدام القياس الحديث، فخلال الحرب العالمية الثانية قام بعض الجنود الأميركيين بارتكاب جرائم أثناء تحريرهم للبلدان المستعمرة. وقد ألقي القبض عليهم ومعاقبتهم على هذه الجرائم، مع التأكيد على أن هدف دخولهم الحرب لم يكن مطلقا ارتكاب تلك الجرائم[3].
هل تعتقد أن الصراعات بين الغرب والعالم الإسلامي هي إلى حد ما رد فعل على الحملات الصليبية؟
مادن: إن إجابتي هي "لا"، وقد تبدو إجابة غريبة بالنظر إلى أن أسامة بن لادن وأخرين من الإسلاميين كثيرا ما يشبهون الأميركيين بـ"الصليبيين". ومع ذلك، فمن المهم أن نتذكر أنه خلال العصور الوسطى كان – وحتى أواخر القرن السادس عشر- كانت القوة العظمى في يد الإسلام. فالدول الإسلامية كانت هي الغنية والمتطورة والقوية جدا. في حين كان الغرب ضعيفا نسبيا، ومتراجعا.
ومن المهم أيضا ملاحظة أنه باستثناء الحملة الصليبية الأولى، كل الحملات الأخرى – والتي تُعد بالمئات – لم تكلل بالنجاح. قد تكون الحملات الصليبية قد أبطأت الزحف الإسلامي ولكنها لم تتسبب في ايقافه على الإطلاق. فقد أكملت الإمبراطوريات الإسلامية التوسع في الأراضي المسيحية وغزو منطقة البلقان، والكثير من أوروبا الشرقية، بما في ذلك القسطنطينية، أكبر مدينة في العالم المسيحي. في ذلك الوقت، لم تعتبر الحملات الصليبية في عيون المسلمين ذات أهمية كبيرة. والناس في العالم الإسلامي حتى القرن الثامن عشر، لم يكونوا يعرفون الكثير عن الحملات الصليبية. فقد كانت مهمة أكثر بالنسبة للأوروبيين، لأنها مثلت بعض النجاحات، في وقت اتسم بالفشل.
وقد بدأت "التفسيرات التاريخية" للحمالات الصليبية خلال القرن التاسع عشر، عندما بدأ الأوروبيون يقهرون ويستعمرون الشرق الأوسط، فقام العديد من المؤرخين – لاسيما بعض الكتاب الفرنسيين المنتميين للاتجاهين الوطني والملكي – بالنظر إلى الحملات الصليبية كالمحاولة الأوروبية الأولى للاستعمار والتصدير المباشر لتجارة الفواكه بين الحضارة الغربية والعالم الإسلامي. وبعبارة أخرى، فقط في ذلك القرن تحولت الحملات الصليبية إلى حمالات امبريالية (استعمارية).
وقد تم نشر هذه التفسيرات التاريخية في المدارس الاستعمارية[4] وأصبح نهج مقبول في منطقة الشرق الأوسط وما وراءها. وعندما فقدت الإمبريالية مصداقيتها، في أوائل القرن العشرين، قام بعض القوميين العرب والإسلاميين لاحقا وانطلاقا من الاستعمار بقراءة الحملات الصليبية جاعلين من الغرب المسؤول عن أزماتهم بسبب نهبه لثروات العالم الإسلامي منذ عهد الحملات الصليبية.
وكثيرا ما يقال إن الناس في العصور الوسطى كان لديهم ذاكرة قوية، وهذا صحيح. ولكن في حالة الحملات الصليبية، فقد تشكلت وجمعت بطريقة خاطئة عن طريق الغزاة الأوروبيين أنفسهم.
هل هناك بعض التشابه بين الحملات الصليبية والحرب على الإرهاب اليوم؟
مادن: أنا لا أرى أي تشابه بين الحملات الصليبية في العصور الوسطى والحرب على الإرهاب بخلاف أن ما يدفع دائما الجنود إلى خوض أي حرب هو "الرغبة في خدمة شيء أعظم من أنفسهم"، يريدون تحقيقه، ويرغبون في العودة إلى ديارهم في أقرب وقت عند تحقيقه. مع التأكيد على أن "الأهداف" الخاصة بالمجتمع العلماني الحالي "بعد التنوير" هي مختلفة تماما عن تلك التي كانت في العالم في العصور الوسطى.
كيف تختلف الحملات الصليبية عن الجهاد الإسلامي أو غيرها من الحروب الدينية؟
مادن: إن الهدف الأساسي من الجهاد هو نشر دار الإسلام في دار حرب. وبعبارة أخرى، هدف الجهاد هو نشر الإسلام عن طريق غزو غير المسلمين وجعلهم تحت حكم المسلمين. فأولئك الذين يلقى القبض عليهم تعطى لهم بدائل بسيطة: للذين لا ينتمون إلى "أهل الكتاب" – غير المسيحيين أو غير اليهود – الخيار هو اعتناق الإسلام أو الموت؛ وبالنسبة لأولئك الذين ينتمون إلى "أهل الكتاب"، أي المسيحيين و اليهود، فلهم الخيار بين اعتناق الإسلام، أو العيش تحت الحكم الإسلامي والشريعة الإسلامية (الجزية) أو السيف. ويرتبط التوسع في الإسلام مباشرة بالنجاح العسكري لحركة الجهاد.
أما الحملات الصليبية فكانت شيئا مختلفا تماما. ففي المسيحية، منذ بدايتها، يحظر دائما الإيمان القسري بأي طريقة. ولهذا فإنّ إدخال الآخرين بالسيف للمسيحية مستحيلا. وخلافا للجهاد، لم يكن الغرض من الحملات الصليبية هو توسيع نطاق أراضي العالم المسيحي، أو نشر المسيحية من خلال الإجبار بالقوة. فلا يجب أن ننسى أن الحملات الصليبية كانت رد مباشر، في وقت متأخر نوعا ما، وبعد قرون من الغزوات الإسلامية في الأراضي المسيحية. والدليل هو أن الحدث الذي تلى مباشرة الحملة الصليبية الأولى هو الغزو التركي لأسيا الصغرى خلال عقدين 1070-1090. إن الحملات الصليبية الأولى انطلقت من البابا أوربان الثاني عام 1095 واستجابة لنداء عاجل من الإمبراطور البيزنطي في القسطنطينية للحصول على مساعدات. فقام أوربان الثاني بدعوة فرسان العالم المسيحي لمساعدة أخوتهم في الشرق.
كانت آسيا الصغرى مسيحية: فقد بشر القديس بولس هذا الجزء من الإمبراطورية البيزنطية. وكان القديس بطرس أول أسقف لإنطاكية، وقد كتب القديس بولس رسائله الشهيرة إلى المسيحيين في أفسس. وقد وضع قانون الإيمان في نيقية… كل هذه الأماكن في آسيا الصغرى. وعندما توسل الإمبراطور البيزنطي المسيحيين من الغرب لمساعدته على استعادة الأراضي وطرد الأتراك، كانت الحملات الصليبية هي هذه المساعدة. حتى وإن كان هدفها، لم يكن فقط استعادة آسيا الصغرى، ولكن استعادة الأراضي المسيحية الأخرى التي أحتلت سابقا بسبب الجهاد الإسلامي، بما في ذلك الأرض المقدسة.
وبعبارة واحدة: إن الفرق الرئيسي بين الحملات الصليبية والجهاد هو أن الأولى كانت لصد الثانية، أي من أجل الدفاع وليس الهجوم. فكل تاريخ الحملات الصليبية الشرقية هو تاريخ رد على العدوان الإسلامي.
هل نجح الصليبيون ولو بشكل ما في تحويل العالم الإسلامي (إلى الدين المسيحي)؟
مادن: في القرن الثاني عشر بدأ بعض الفرنسيسكان في الشرق الأوسط محاولة لتبشير المسلمين بالمسيحية. ولكنها محاولات بائت بالفشل لأن القوانين الإسلامية تمنع تغير الدين وتعاقب عليه بالإعدام. وقد نُفذت هذه المحاولات من خلال وسائل سلمية للإقناع، وبشكل منفصل تماما عن الحملات الصليبية، التي لم تكن تهدف إطلاقا إلى تغير الدين.
كيف تقبل العالم المسيحي هزيمته في الحملات الصليبية؟ فالصليبيون أنفسهم قد هزموا؟
مادن: لقد فعلوا تماما كما فعل اليهود في العهد القديم. أي اعتقدوا أن الله لم يمنح الانتصار لشعبه لأنه كان في حالة الخطيئة. مما خلق حركة توبة قوية على نطاق واسع في أوروبا، بهدف تنقية وتطهير المجتمع المسيحي من آثامه.
في الواقع لقد اعتذر البابا يوحنا بولس الثاني، عن الحملات الصليبية، ولكن هل أدانها؟…
مادن: يعد هذا الأمر أمرا محيرا، فبالنظر إلى الانتقادات التي وجهت للبابا لأنه لم يقدم اعتذرا صريحا عن الحملات الصليبية، خلال طلبة "المغفرة" من جميع الذين تأذوا ظلما من بعض تصرفات المسيحيين في التاريخ. فأن قداسة البابا لم يدن أو يعتذر عنها صراحة. بل أنه اعتذر عن خطايا الكاثوليك. ومؤخرا يُذكر بشكل كبير أن البابا يوحنا بولس الثاني قد اعتذر للبطريرك القسطنطينية عن الغزو الصليبي للقسطنطينية في 1204.
وفي الحقيقة لم يفعل البابا سوى تكرير ما قد قام به سلفه البابا إنوسنت الثاني سنة (1198-1216)، أي الاعتذار عن غزو القسطنطينية. وكان هذا الحدث مثالا مأساويا لهجوم فاشل، قد سعى البابا إنوسنت الثاني نفسه بكل وسيلة لتجنبه. وقد اعتذر (البابا) عن خطايا بعض الكاثوليك الذين شاركوا في الحملات الصليبية، ولكنه لم يعتذر عن الحملات الصليبية نفسها أو عن نتائجها.
24 أكتوبر 2004
قام بالترجمة عن الإيطالية
الأب د. يوأنس لحظي جيد
رئيس تحرير موقع كنيسة الإسكندرية الكاثوليكي
حقوق الطبع والنشر محفوظة لوكالة زينيت العالمية
——————————————————————————–
[1] راجع: "لا تكنزوا لكم كنوزاً على الأرض حيث يفسد السوس والصدأُ وحيث ينقب السارقون ويسرقون. بل اكنزوا لكم كنوزاً في السماء حيث لا يفسد سوسٌ ولا صدأٌ وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون. لأنهُ حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضاً" مت 6 (المترجم).
[2] كانت هذه هي النُظم المتبعة في ذلك الزمان، فعلى سبيل المثال ما حدث مع يهود بنى النضير من حرق وقطع البساتين واستحواذ على الغنيمة وقتل للأعداء الذين قاوموا. وما حدث بعد غزوة بنى قريظة من قتل للأسرى وكانوا سبعمائة قتلوا جميعا، وكذلك ضد يهود خيبر وضد بني القنيقاع (المترجم).
[3] هذا ما يحدث في أغلب الحروب التي تنطلق غالبا من أجل سبب مقبول وأحيانا عادل ولكنها تنساق وريدا رويدا إلى ارتكاب الجرائم التي لا تمت بصلة بهدفها الأساسي، والتي تنبع غالبا من تصرفات بعض الجنود الذين يستسلمون لرغباتهم الدنيئة وفي غمرة نشوتهم وحماسهم يرتكبون الفظائع، ولهذا يجب دائما التفرقة بين: هدف الحرب وتصرفات بعض الجنود. ولهذا ترفض الكنيسة الكاثوليكية الآن أي شكل من أشكال الحروب انطلاقا من خبرتها التاريخية وإيمانها بأن الهدف لا يبرر الوسيلة، وأن الحرب لا تجلب سوى الدمار والدماء (المترجم).
[4] من الجدير بالذكر أن شعور بالعداء تجاه الكنيسة خاصة، والدين بشكل عام قد ظهر بقوة في الغرب لاسيما بعد "الثورة الفرنسية"، سنة 1789-1799، مما جعل المؤرخين الغربيين يتحاملون على الكنيسة محاولين تقديم الحملات الصليبية كدليل على صدق نظريتهم في أن الكنيسة في العصور الوسطى كانت من أهم أسباب تخلفهم (مما يوضح سبب ظهور التيارات الإلحادية والشيوعية والعلمانية المتطرفة في أوروبا والتي تعتبر الكنيسة الكاثوليكية عدوها الأول). وقد أكدت الدراسات التاريخية الحديثة زيف هذه القراءات مؤكدا أن الكنيسة، وبرغم أخطاء بعض رجالاتها، كانت من أهم أسباب النهضة الأوروبية الحديثة. ومن الطبيعي أن المؤرخين في العالم الإسلامي قد تبنوا بل وضخموا هذه القراءات الاستعمارية التي تتناقض مع الحقيقة التاريخية (المترجم).