الرسالة هي الحضور… مقابلة غير منشورة مع المطران لويجي بادوفيزي

                                                       المطران الشهيد لويجي بادوفيزي

مركز الواحة – البندقية

كان ذلك منتصف تشرين الأوّل من العام الماضي. إذ كان المونسنيور لويجي بادوفيزي، وهو راهب كبّوشي، والنائب الرسولي في الأناضول ورئيس مجلس الأساقفة في تركيا، موجوداً في البندقية بناءً على دعوة من بطريرك المدينة لتقديم شهادته حول حياة المسيحيّين في تركيا، وحول تجربته الخاصّة كراعٍ في ذاك البلد الكبير الذي يجعل من العلمانيّة عنصراً أساسياً له والذي يُشكِّل فيه المسيحيّون أقليّة صغيرة. التقتهُ الواحة على هامش هذا المؤتمر الكنسي العامّ لتبادل الآراء في محادثة ودّية. يُعرض مضمون هذا اللقاء (الذي سبق وذكرته جريدة الأوسّيرفاتوري رومانو في 3 تموز الماضي) لأوّل مرّة، بعد أكثر من شهر على جريمة قتله، كي نتذكّر الأسقف الإيطاليّ وندعم صوت مسيحيّي تركيا وقيمة وجودهم.

حاورته ماريا لاورا كونتي ومارتينو ديتس بالبندقية، يوم 12 تشرين الأوّل 2009:

 

لقد اختُتمتْ للتوّ السنة البولسيّة. لماذا تبذلون كلّ هذه الطاقات في رعاية المناسبات الثقافيّة حول شخص القدّيس بولس ورحلات الحجّ إلى أماكن حياته على الاراضي التركيّة؟

تنفتح حول بولس فرص لا يمكن تفويتها، وأقول هذا وأنا أفكّر خاصّةً بالمسيحيّين الذين يعيشون في تركيا: فتدفّق الحجّاج على سبيل المثال خلال العام المكرّس له كان كبيراً لدرجة أنّه أثار لدى السلطات التركيّة مزيداً من الانتباه للسياحة الدينيّة. وقد وصلَنا أكثر من 470 وفداً إلى طرسوس، ما مجموعه نحو 29 ألف حاج، ناهيك عن كلّ الذين وصلوا بمفردهم… إنّ إنقاذ ذكرى بولس في المكان الذي وُلد فيه والذي ليس فيه شيء يحفظ ذكراه، لا شيء على الإطلاق، لهو هامّ. ويشكِّل هذا من الأهمّيّة بمكان بالنسبة سواء للجماعة المحليّة، لأنَّ استمرار وجود الحجّاج المسيحيّين يجعل المسيحيّين مرئيّين أكثر، أم بالنسبة للمسيحيّين الذين يُمكنهم أن يفهموا على نحو أفضل جهود بولس وهم يشاهدون هذه الأماكن، وفي الوقت نفسه يدركون ماذا يعني أن نكون رُسلا في هذه الأراضي.

 

وماذا يعني هذا بالنسبة إليكم؟ ماذا يعني أن يكون المرء كاهناً وأسقفاً في تركيا اليوم؟

إنّه لأمرٌ صعب. لسنا قليلين فحسب، بل نحن أيضًا موزّعون بِشكلٍ سيّء بسبب الظروف الحالية. فما عدا أسقفين، يُقيم الأعضاء الخمس الآخرون في مجلس الأساقفة في إسطنبول. والمسافات التي يجب قطعها هائلة. يتركّز معظم عملنا الراعويّ في الأناضول في القسم الجنوبيّ منه؛ أمّا في شماله فهناك جماعتان تضمّان عددًا محدودًا جدًّا من المسيحيّين. ومع ذلك فنحن نحاول البقاء للحفاظ على الوجود المسيحيّ. في طرابزون، حيث اغتيل دون أندريا سانتورو، على سبيل المثال، تعيش جماعة صغيرة جدًّا، ويشارك هناك بعض الأرمن الغريغوريّين والأرثوذكس في الليتورجيا. وذلك أيضًا لأنّ كنائسنا هي الوحيدة التي لا تزال مفتوحة على طول الساحل التركيّ من البحر الأسود.

 

ماذا تقصدون بالقول إنّه من المهمّ البقاء للحفاظ على الحضور؟ ما معنى بقاءكم قليلين ومنعزلين وسط أغلبيّة ساحقة تبدو غير مبالية بكم، إن لم نقُل مُعادية…

المشكلة بالنسبة لمن يأتي إلى تركيا، ما عدا المدن الكبيرة، هي أن يكون حضورًا وشهادة، بنشاط راعويّ مُتقلّص جدًّا، بسبب العدد تحديدًا. الرسالة هي الحضور. ولكن من المفضَّل ألاّ تستخدم كلمة "الرسالة" لأنّ فهمها  يساء بسهولة هنا في تركيا. مَن لا يعرف معناها المسيحيّ يخاف منها. تُدرَك كلمة تبشير بالتركيّة على الفور بمعنى استعماريّ. لا يجب أن ننسى أنّ المسيحيّة تُعتبر هنا ظاهرة غريبة، قد تكون هدّدت في الماضي هويّة البلاد أو فكَّكَتها. لقد تحقّقت الوحدة التركيّة على حساب الأقليّات التي اضطرّت إلى التخلّي عن لغاتها وثقافاتها لصالح الهويّة الوطنيّة التركيّة الواحدة.

 

أين تكمُن المشكلة الرئيسيّة بالنسبة للأقليات؟

المشكلة في التشريع. فالكنيسة الكاثوليكيّة في تركيا، كأقليّة أمر واقع، ليست موجودة من وجهة النظر القانونيّة. بعد معاهدة لوزان عام 1923، وبتفسير نعتبرهُ تعسّفيًّا، تمّ الاعتراف فقط بالأقليّات العرقيّة الدينيّة. وهذا يعني: الروم الأرثوذكس والأرمن والسريان واليهود والبلغار أيضًا. هذه كانت ولم تزل الأقليّات المُعترف بها. وبما أنَّ الكنيسة الكاثوليكية، على عكس الأقليّات الأخرى، ليست أقليّة عرقيّة دينيّة، فإنّها لم تحصل على أيّ اعتراف. لكنّ الكاثوليك اللاتين كانوا موجودين في الواقع على الأرض فتوصّلوا إلى نوع من التسوية أدّت إلى الاعتراف بالممتلكات التي كانت موجودة (الكنائس والكليّات والمدارس وما إلى ذلك من الجمعيّات الخيريّة إلخ). مع ذالك، كأقليّة لم تعترف بنا الدولة أبدًا وما زال الأمر كذلك حتّى اليوم، ما يخلق لنا مشاكل ضخمة، لأنّنا، وبمفارقة ما، موجودون وغير موجودين في الوقت نفسه.

على أيّ حال تتعلّق المشكلة أيضًا بالأقليّات العرقيّة الدينيّة المُعترف بها: فالكهنة والأساقفة يجب أن يكونوا مواطنين أتراك، ولكن بما أنّ المعاهد الإكليريكيّة أُغلقت ولا يمكن إعادة فتحها، تنشأ مشكلة مستقبل هذه الكنائس. كيف يمكنها أن تستمرّ في الوجود إن لم يكن هناك تبديل بين الأجيال داخل البلاد؟ يؤدّي هذا التشريع إلى الموت التدريجيّ للمسيحيّة. المشكلة مستعصية على السريان والأرمن، ولكن أيضًا على الأرثوذكس. كما تعلمون، يجب أن يكون بطريرك القسطنطينية أيضًا من التابعيّة التركيّة، إذ يتمّ اختياره من بين ثلاثة مرشّحين مُحتملين من قِبل المجمع المقدّس، ولكن مَن ينتخب البطريرك في النهاية هو مُحافظ إسطنبول.

باختصار، تضع الدولة القائمة على مفهوم العلمانيّة -الذي أعتبر أنّه يجب إعادة النظر به- تحت وصايتها واقع هذه الأقليّات.

 

ما هو الإسهام الذي يحمله الصعود المتنامي لبعض التيّارات الإسلاميّة في تركيا كونها تناضل من أجل تفسير للعلمانيّة مُختلف عن مفهوم الدولة التركيّة؟ هل يمكن أن تأتي من هذا الجانب أيّ فائدة لصالح حرّيّة أكبر للمسيحيّين؟ 

إنّ العلمانيّة التركيّة في أساس الدولة التركيّة، وقد أعطت شكلاً معيّناً لتركيا، وبعبارة أخرى -وهذا هو فضل أتاتورك- لقد خُلِقت تركيا من دون عوائق الماضي أصبحت كثيرة التمايز بالنسبة للوضع السابق حيث كانت هناك هيمنة كبيرة للسلطة الدينيّة، ومراقبة من جانب الحياة الدينيّة على المجتمع، بما أنّ السلطان كان أيضًا الخليفة، أي أعلى سلطة دينيّة… هذه العلمانيّة جاءت كردّة فعل على الحالة السابقة. كان مثال أتاتورك العلمانيّة على الطريقة الفرنسيّة، أي الفصل الواضح بين الدين والسياسة، ولكن الواقع لم يتطوّر فعلا بهذا الاتّجاه. هذه العلمانيّة هي "شكليّة" لأنّ المذهب السنّي الذي يتبعه 75% من الأتراك هو تحت السيطرة المباشرة للدولة. وبعبارة أخرى، لقد أُنشئت وزارة للديانة، وهناك مدير للشؤون الدينيّة تابع مباشرة لرئيس الوزراء. وبما أنّ العبادة ترتبط بالدولة، فجميع قادة الجماعات –المُفتون- هم موظّفو دولة، وبالتالي تدفع الدولة لهم أجورهم. وبهذه الطريقة تراقب الدولة احترام العلمانيّة، وبالفعل يجري اختيار هؤلاء المسؤولين – وهذا هو النموذج الوحيد على المستوى العالميّ – من بين الأشخاص الذين يهمّهم أمر علمانيّة الدولة ويقومون في الوقت نفسه بوظيفة دينيّة. هذا هو الوضع في تركيا، حيث العلمانيّة تعني مراقبة الدولة للدين.

 

ما هو وجه الإسلام التركي استنادًا إلى خبرتكم؟

الإسلام التركي هو ربّما الإسلام الأكثر تنوّعاً. وكان من بين الخيارات الأولى التي قام بها أتاتورك إلغاء العديد من الطرق الصوفيّة التي كانت موجودة في البلاد، وهي بدأت الآن، رغم كونها غير مُعترف بها، تنبعث من جديد. داخل هذه الطرق هناك عدّة جماعات ذات توجّهات دينيّة مُسالمة -إن أمكننا تسميتها كذلك- تسعى للحوار والاتّصال وتعترف أيضًا بالحضور المسيحيّ باعتباره دربًا للصعود نحو الله، نحو التسامي. لهذا السبب هناك وجود لإسلام معتدل في تركيا، لأنّ هذا الاعتدال هو أيضًا نتيجة التغيير السياسيّ الذي قام به أتاتورك.

 

يبدو أنّكم متفائلون بعض الشيء بشأن المستقبل القريب…

الطريق طويل جدًّا ويجب أن نرى قبل كلّ شيء هل كانت الحقائق ستُطابق الكلام. بالنسبة لي سيكون ذا مغزى للغاية الموقف الرسمي تجاه كنيسة طرسوس، إن كانوا سيعهدونها إلى إدارة المسيحيّين، كما نُطالب، ولكن أيضًا تجاه الأكاديمية اللاهوتيّة للبطريركيّة الأرثوذكسيّة. هناك ضغوط تُمارسها منذ سنوات حتّى من جانب سلطات أجنبيّة تأتي إلى تركيا، وتلتقي البطريرك وتطلب بإعادة فتح هذه الأكاديمية اللاهوتيّة حتى تضمن مستقبلاً لواقع الكنيسة الأرثوذكسيّة التي باتت غير موجودة تقريبًا. ولكننا نتحرّك دائمًا على مستوى الكلام، وليست هناك وقائع ملموسة. 

في تركيا من المهمّ عدم الوثوق كثيرًا بالكلام بل بالحقائق. أفهم أن الوضع صعب، وأنَّه يجب على الحكومة التعامل مع الخصوم السياسيّين الذين هم دائمًا على استعداد لاستغلال بادرة كَتسليم كنيسة للمسيحيّين، ولكنّني أتساءل: هل من الممكن أن تكون حكومة مُنتخبة ديمقراطيًّا، ذات أغلبيّة في البرلمان، غير قادرة على القيام بِبادرة رمزيّة للغاية تتعلّق بالأقليّات؟

 

ألا يُحرِّك شيئاً ما تطلّع تركيا لدخول الاتّحاد الأوروبيّ؟ 

إنّها حالة معقّدة للغاية. لقد نُسيت كلّ مطالبنا ولم نحصل على أيّ ردّ. وكمجلس أساقفة كتبنا في الماضي لرئيس مجلس الوزراء، ومن ثمّ كرؤساء مجالس أساقفة جنوب شرقي أوروبّا، ولكن لم يصلنا أبداً أيّ جواب، ولا حتّى ليقولوا لنا إنّ الرسالة استُلمت. نحن نواجه إزالة كاملة. التقى رئيس الوزراء بممثّلين عن الأقليّات الدينيّة في 15 آب 2009، باستثناء الكنيسة الكاثوليكيّة التي "لا وجود لها"، ولكن ماذا نتج فعلياً عن هذا اللقاء؟ ربّما المزيد من الاهتمام قليلاً، ولكن ماذا في الواقع الملموس؟

 

هل تقع كلّ المسؤوليّة عن هذا الوضع على عاتق السلطات أو أيضاً على عاتق الشعب الذي لا يقوم بردّة فعل؟

أعتقد أنّه يجدر على السلطات القيام بِخيارات أكثر حزمًا لتغيير موقف الشعب أيضًا. هنالك جمود، لذلك وإن كان الناس مُنفتحين تجاهنا، وأنا أتحقّق من هذا شخصيًّا، فإنّنا نواجه بعدئذٍ بيروقراطيّة توقف كلّ شيء…

هل يمكنكم مساعدتنا على فهم مضمون التمييز ضدّ الأقليّات واقعيّاً؟ من الصعب إدراك الأمر من الغرب، أو فلنقُل إنّهم يُفضّلون أحيانًا عدم معرفته…

أطرح مجدّدًا المثال الهام جدًّا لكنيسة طرسوس. إنّها كنيسة صادرتها الدولة. كانت أرمنيّة في الأصل ثمّ استُخدمت في النهاية، وحتّى الثلاثينات والأربعينات، من قبل الأرثوذكس. ما نطلبه هو أن يُعاد المبنى للعبادة، إذ إنّه بالنسبة لنا المسيحيين ذو قيمة رمزيّة عالية، كما حدث لمسجدين من المساجد التابعة للدولة، تمّ تحويلهما إلى متاحف. نحن لا نهتمّ بالملكيّة (التي هي للدولة)، ولكن أن يكون لنا مكان يتمكّن فيه المسيحيّون من الصلاة دون الزعم بأنّنا في متحف. تصوّروا أنَّ رسالة وصلتْنا في نهاية الاحتفال بالسنة البولسيّة من وزارة السياحة والثقافة ومن ثمّ من مدير متحف طرسوس يُحدّد أنَّ البناء هو متحف، ولنتمكّن من الاحتفال، يجب الكتابة قبل ثلاثة أيّام لمدير المتحف للحصول على إذن. خلاصة القول، هناك رغبة واضحة في القول إنَّ هذا المبنى هو متحف…هاكم مثالٌ على التمييز، والتفريغ المستمرّ والعداء الخفيّ تجاه وجودنا.

 

ولكن كيف وصلنا إلى الحالة التي تصفونها؟ على من تقع المسؤوليّة؟

هذا الوضع نتيجة التغييرات التي حصلت في السنوات الأخيرة. لا أتّهم مؤمنينا بعدم إدراك معنى أن نكون مسيحيّين، لأنّه، وبعد عقود من التمييز، لا بل التناقص حتّى درجة التلاشي واختفاء الكهنة وإغلاق الأديرة وأماكن الحياة المكرّسة، أين كان يُمكن للناس أن يغذّوا إيمانهم؟ من الطبيعيّ أنه تمّ تخفيف خبرة الحياة المسيحيّة للبقاء على الأقلّ على قيد الحياة.

ولكن علينا حتمًا أن نطرح سؤالاً: لماذا كان عدد المسيحيّين كبيرا، والآن لا وجود لهم تقريباً؟ هذا أمرٌ لا مجال للجدال فيه ويجب لذلك أن يُعطى تفسيرًا له. يمكنهم أيضاً أن ينكروا التدابير التميّيزيّة، ولكن يجب عليهم على أيّ حال أن يعطوا تفسيرًا لذلك.

 

هل هناك مسيحيّون جدد في هذا الإطار؟

هناك مسيحيّون جدد، أنا عمّدت بعض المُسلمين ولكن بعد فترة طويلة من التحضير الروحيّ، لأنّ هذا الخيار يجب أن يكون ناضجاً جداً، خيار إيمان، ويتطلّب بأن يكون الأشخاص الذين يطلبون منّا اقتبال العماد موضع اختبار. أي أن يُظهروا ليس فقط حماسة أوّلية، بل كذلك مُثابرة.