نجاح باباوي

جريدة الراية القطرية

 

كان من المثير لدهشة العديد من العاملين في وسائل الإعلام ـ في الداخل والخارج ـ أن الزيارة التي أتمها البابا بندكتس السادس عشر للتو إلى بريطانيا حققت نجاحاً مذهلا.

 

وبوصفي رومياً كاثوليكياً، والشخص الذي طلب منه رئيس الوزراء ديفيد كاميرون أن يتولى الإشراف على الترتيبات الحكومية الخاصة بتنظيم زيارة البابا، فقد سرني ذلك النجاح بطبيعة الحال. بيد أنني شعرت بالسرور أيضاً كمواطن بريطاني يكن كرهاً عميقاً لعقلية القطيع.

 

إن وسائل الإعلام تميل إلى التحرك في اتجاه مشاعر السوق. ففي لحظة تكون الساحة العامة عامرة بأنصار الصعود وفي اللحظة التالية تمتلئ نفس الساحة بأنصار الهبوط. ولقد قيل لنا من قبل إن هذه الزيارة لن يبالي الرأي العام البريطاني بها على أقل تقدير أو سوف يكون معادياً لها في أسوأ تقدير. حتى إن البعض في الفاتيكان أعربوا عن تخوفهم من هذه النتيجة. ولكن منذ لحظة وصول البابا إلى اسكتلندا، أحاطت به الحشود المتحمسة، من الكاثوليك وغير الكاثوليك على حد سواء.

 

ولقد قدت سيارتي ضمن الموكب البابوي على طول الطريق السريع من أدنبرة حيث التقى البابا بالملكة إليزابيث، إلى جلاسجو حيث أقام قداساً في الهواء الطلق. وعلى طول الطريق كنا نرى حشوداً من الناس.

 

 ومنذ اليوم الأول أدركت وسائل الإعلام أنها أساءت تقدير المزاج العام إلى حد كبير. فقد تحولت الزيارة من كارثة وشيكة إلى نجاح هائل بين عشية وضحاها. وبهذا يكون عامة الناس قد غرسوا عصاً حادة في عين العاصمة الهازئة، والصحافة برمتها.

 

والواقع أن الرسالة التي نقلها البابا والزعماء الدينيون الذين التقى بهم تتحدى الافتراض المعاصر بأن عامة الناس لا يفهمون أي شيء أكثر تعقيداً من وجبة شهية. وذات يوم قال السياسي الأمريكي الراحل أدلاي ستيفنسون إن الرجل المتوسط (أو المرأة المتوسطة) أفضل كثيراً من المتوسط، ولابد من معاملة الناخبين على قدم المساواة، ولا ينبغي للساسة أبداً أن يتحدثوا بترفع إليهم.

 

ولكن هذا لم يكن كافياً لضمان فوز ستيفنسون بالرئاسة في الخمسينيات. فقد قيل له: "إن كل الأذكياء في البلاد يؤيدونك"، ولكنه أجاب: "هذا لا يكفي. لكي أفوز فأنا في حاجة إلى الأغلبية".

وأظن رغم ذلك أننا عانينا الكثير من السياسة بسبب الشعارات التبسيطية.

 

ولا شك أن تقديم الحجة المتماسكة المقنعة يشكل الوسيلة الأفضل في الأمد البعيد فيما يتصل بمحاولة تعبئة الرضا عن أي مسار عمل. فمما يضفي قدراً عظيما من الاحترام على أي حجة ـ وعلى المتلقين لها ـ أن تكون مدروسة بعناية.

 

وهذا ما يفعله البابا، كما يفعل محاوروه في بريطانيا، رئيس الطائفة الإنجيلية وكبير أساقفة كانتربري روان ويليامز. وكل منهما رجل مثقف ويوجه أسئلته الصعبة بأسلوب هادئ وعلى نحو مدروس بعناية.

 

ولقد قاد هذا ويليامز، بشكل خاص، إلى العديد من الخلافات مع وسائل الإعلام. على سبيل المثال، تعرض لانتقادات واسعة النطاق بسبب محاضرة ألقاها في عام 2008 حيث تحدث عن العلاقة بين الشريعة الإسلامية والنظام القانوني البريطاني. والواقع أن ما قاله كان مثيراً للاهتمام وسليماً في آن، ولكنه انتزع من سياقه السليم، فأدين ويليامز علناً نتيجة لهذا.

 

وكانت الكلمة الرئيسية التي ألقاها البابا موجهة إلى جمهور مؤلف من عظماء الناس وأخيارهم في قاعة وستمنستر، وهي البناية التي يعود تاريخ بنائها إلى القرون الوسطى، والتي كان استخدامها مرتبطاً عبر القرون ارتباطاً وثيقاً ببعض من أعظم الفترات الدرامية في التاريخ البريطاني.

 

 فهنا مثل توماس مور، الذي طوب في وقت لاحق، أمام المحكمة بسبب تحديه لسيده، الملك هنري الثامن. فلم يقبل مور إصرار الملك على ارتفاع مكانته فوق مكانة الكنيسة. ولم يسمح له ضميره بالإذعان لإرادة هنري. وعلى هذا فقد أعدم في برج لندن، واستشهد بسبب ضميره.

 

إن القديس توماس مور يُعَد قديساً راعياً للساسة، وهو أمر فيه كثير من الإطراء بالنسبة للعديد من هؤلاء الذين أشرف على تحقيق مصالحهم الروحانية. فليس كل سياسي يستحق الثناء لأنه يتبع ضميره.

 

ولكن قصة توماس مور، وحقيقة أن النظام القانوني البريطاني تطور في سنواته الأولى تحت العوارض الخشبية العالية التي يقوم عليها سقف قاعة وستمنستر، منحت البابا الفرصة لإلقاء عظة عن أهمية الأخلاق والدين في الحياة العامة.

 

إن العديد من العلمانيين يزعمون أن العقل وحده كان كافياً منذ عصر التنوير لتوجيه الحكم وصنع القرار السياسي، مدعوماً بحكم القانون إذا كان المجتمع محظوظا. ولكن البابا أكد على أهمية الإيمان إلى جانب العقل والقانون في الحفاظ على حضارتنا.

 

إن الأسس التي قامت عليها أوروبا لا تكمن في نظريات أرسطو، والعقل، واليونان الكلاسيكية فحسب، ولا تكمن أيضاً في روما بفهمها لأهمية القانون، ولكنها تكمن أيضاً في القدس والعقائد الإيمانية المنحدرة من إبراهيم أبي الأنبياء ـ المسيحية واليهودية والإسلام. فالعقل من دون الأخلاق لا يكفي لدعم بقاء الحضارة، وهي النقطة التي اكتشفتها ألمانيا، مسقط رأس البابا، في ثلاثينيات القرن العشرين.

 

ولتوضيح وجهة نظره، ذكر البابا أن انهيار النظام المالي الدولي، الذي كان راجعاً في جزء منه إلى جشع لا يشبع، كان سبباً في إثارة المناقشة حول الحاجة إلى أساس أخلاقي للسلوك الاقتصادي. هل نسينا بهذه السهولة الاشمئزاز الذي شعرنا به حين اكتشفنا خيانة الأمانة والبذخ الذي ساعد في تدمير ازدهار الغرب وأهله؟

 

ومن بين الأمثلة الأخرى للعلاقة بين الأخلاق والسياسة تلك الاستجابة التي تصدت بها البلدان الغنية للتفاوت الاجتماعي على مستوى العالم، تلك الإهابة الأخلاقية العميقة لكل من يتمتع ولو بأقل قدر من الضمير والحساسية.

 

 ففي خضم الأزمة الكئيبة المتصلة بالإنفاق العام في بريطانيا، ألزمت الحكومة نفسها بالتعهدات التي قطعتها على نفسها بإنفاق 0,7% من الناتج المحلي الإجمالي على مساعدات التنمية في البلدان الفقيرة. ولنتخيل معاً لو فعل الآخرون نفس الشيء، مثل إيطاليا الغنية التي لا تنفق أكثر من 0,15% من ناتجها المحلي الإجمالي على المعونات في الخارج.

 

لقد أثار البابا مناقشة جادة في بريطانيا وغيرها من بلدان العالم. في أي مجال قد يكون بوسع الدين والأخلاق أن يساهما في حوارنا السياسي، ومتى يتعين عليهما أن يساهما فيه؟ وهي في الواقع قضية مركزية، وليس فقط بالنسبة لأوروبا.