بقلم المونسنيور بيوس قاشا
صدمة كبيرة أبعدتني عن عالم الكتـابة، ألا وهي نكبة مساء الأحد، الحادي والثلاثين من تشرين الأول الماضي… نكبة الهجوم على المصلّين في كنيسة سيدة النجاة… ومن حينها لم أستطع الكتابة حتى الساعة، ولم يرافقني يراعي في مسيرة الحدث، كما ولم أنبس ببنت شفة بسبب هول الفاجعة… إذ ما حصل لم يكن بالبال ولم يكن بالحسبان، كما ولم يكن يفكر كائناً مَن كان أن الإجرام سيصل إلى هذه الدرجة من العنف والبشاعة، وإن الذين خططوا له ونفّذوه ما هم إلا وحوش في غاية العِداء وفي غابة الافتراس، أبرزوا عن أنيابهم من أجل مآرب دنيوية مصلحية شريرة، فحرقوا أجساداً بريئة، وقطعوا أيادٍ مرتفعة نحو ربّ السماء، مصلّية إليه ومبتهلة.
مرّت الأيام، وإيماناً بعطاء الرب لنسمة الحياة لتواصل المسيرة كونه هو الحياة (يو4:1)، ها أنا ذا أعود إلى قلمي، وجدتُه يعاتبني إذ وجد نفسه ضائعاً _ بل مهمَلاً _ بين أوراقٍ ومسودّات وقصاصات، شاكياً حاله إلى عالم التاريخ. فاعتذرتُ وأدركتُ أن الحقيقة أحياناً تدعونا إلى الصمت والتأمل بالآتي، وقبول ما لم يكن بالحسبان أو حسب المشيئة من أجل الحياة… من أجل الحقيقة… هذا هو قول الرب:"قولوا الحق والحق يحرركم" (يو32:8)… وها أنا أعود خاضعاً ومطيعاً لرسالة القلم لأروي قليلاً من كثير عن نكبة الكنيسة وما حلّ فيها وفينا وعن المذبحة، وسقوط الضحايا وشر العنف القاتل، والعقل الشيطاني المخطط لهذه الفاجعة، والمارقين الذين قاموا بتكميل المخطط… والسؤال يبقى: لماذا هذا؟، لماذا بيت الصلاة؟، لماذا الأبرياء المصلّين؟، لماذا المؤمنين المسالمين؟، لماذا باعوا الإنسانية كأخوة يوسف، وكما قتل قائين أخاه؟… لماذا ولماذا؟ وتعددت اللماذات…
كل هـذا والأسئلة تطـول…ومهما كتبتُ وصوّرتُ الفكرة، فلا من جوابٍ وافٍ، كما لا تسع الكتب صور الدماء البريئة، ولا يمكن إدراك سرّ تلك الضيقـة، فقـد أعـادني التاريخ إلى ما حصل في الجيل الثاني من القرن العشرين، يوم ساقوا كهنتنا ومؤمنينا إلى ساحات الإعدام، ونكلوا بهم أبشع التعذيب، وأخذوهم بحدّ السيف، ورموهم أمام أنياب الوحوش، وهدموا الكنائس ودنّسوا الأديرة، وسرقوا ونهبوا، وكل ذلك في فكرهم حلال بل أكثر من حلال، إنها الغنائم _ ولكن أبهذه الطريقة تُجمَع الغنائم _ بالحقيقة لم يُدركوا جيداً أنهم قد شوّهوا وجه الله الذي خلقهم على صورته كمثاله، وإنهم جعلوا من جنة عدن زريبة (حظيرة) للوحوش الضارية، وطارت أرواح الضحايا إلى حيث فردوس السماء… وها هي اليوم تتجدد الأحداث وتعاد المآسي في شرقنا، بل في عراقنا الجريح، وكأن التاريخ يعيد نفسه ولكن بأبشع من سابقاته، وعبر وحوش شطرنجية لغايات ومآرب لا يعلمها إلا راسموها ومخطّطوها… ولكن، "لا من خفي إلا سيظهر ولا مكتوم إلا سيُعلَن" (لو 2:12)… و"كل ما يقال في الخفية سيُعلَن على السطوح" (لو 3:12)، وربما فاعلوها هم أحفاد أولئك.
ولنبدأ فنقول: بينما كنتُ أمنح البركة الختامية لأبناء رعيتي المشاركين في قداس مساء الأحد، قداس ختام شهر الوردية المقدسة، أُعلمتُ بقيام زمرة من الإرهابيين بدخول كنيسة سيدة النجاة في الكرادة عنوة، واقتادوا المصلّين في الكنيسة رهائنَ… منحتُ البركة، ورجوتُ المؤمنين بعدم الوقوف في ساحة الكنيسة وتبادل الأحاديث كون ذلك المساء كان مظلماً بل قاسياً، ودعوتهم إلى الانصراف حالاً إلى بيوتهم بسلام الرب وحِرسِه، وركبتُ السيارة، وكنتُ أنهب الطريق نهباً، وتوجهتُ إلى حيث الحدث، ووصلتُ المكان بسرعة هائلة ولا أعلم كيف وصلتُ وكيف كان ذلك، وما لا أعلمه كيف استطعتُ عبور السيطرات وازدحام الطرق والحواجز،… نعم، لا أعلم… المهم إنني وجدتُ نفسي واقفاً أمام مدخل الكنيسة أتابع الحدث المأسوي المريع وكأنني أمام مشهد تراجيدي رُتِّبَ له مسبقاً، ويمثَّل أمام الملأ.
بدأتُ بالاتصال مع الأبوين الضحايا عبر هاتف الحياة الدنيوية، يرنّ الهاتف ولا من مجيب، إلا مرة واحدة لم أسمع فيها إلا كلمة "هلو" من الأب وسيم… وانتهى كل شيء… فكان الاقتحام ودخول الكنيسة… ومعها كان الألم… وبعد لقائي لبعض الدقائق مع الأحياء الناجين الهلعين من هول الكارثة، والذين خلطوا دموعهم بأصواتهم "أبونا، أبونا"، دخلتُ صحن الكنيسة وكلّي إيماناً وأملاً بمشيئة الرب، ولكن الموبايل كان يزعجني بكثرة دقاته وأسئلته عن الضحايا التي سقطت بسبب تفجير أحزمة ناسفة ورمي رمّانات وإطلاق عيارات نارية، وبدأتُ أقلب الجثث، جثّة جثة، علّني أصل إلى جثث الكهنة.
وبينما الجنود ينقلون الجرحى، بدأتُ أفتش الجثث وأقلبها لأتعرف عليها 1، 2، 3، 4، قلبتُ جثة وكانت منطرحة على وجهها، فوجدتُ الوجه ممخّضاً بدماء جامدة، وتمعّنتُ جيداً فلاحظتُ بطرشيل الغفران في رقبته، عندها أدركتُ أن الضحية هذه هو الأب وسيم حاضناً غفارته القصيرة، فقلبتُه على ظهره وطلبتُ من أحد الجنود مساعدتي في نقله إلى سيارة المحبة _ سيارة الإسعاف _ التي كانت في انتظار الجرحى والضحايا أمام بوابة الكنيسة. وواصلتُ مسيرة الجلجلة ثانية وهي مملوءة شجاعة إيمانية، ولكن كانت أصوات العسكر تناديني بالانتباه وأخذ الحيطة والحذر حيث هناك أسلحة لم تنفجر بعد… وبعد برهة رأيتُ رمانتين غير منفجرتين، وطلبتُ من أحد العساكر معالجتها لكي أواصل أنا اكتشاف ثقل المسيرة، وصعدتُ درجة كرسي الإنجيل، وقلبتُ جثة، ولم أصدق ما أرى… قلبتُها ثانية وثالثة، حينها تأكد لي أنه الأب ثائر بحلّته الكهنوتية _ حيث كانت الإطلاقة قد اخترقت رقبته من الجانب الأيسر _ وهو ممخَّض بالدماء، هو وحلّته، كان رأسه على الدرجة الصغيرة وجسمه ممدَّد عند سطح صحن الكنيسة، فطلبتُ نقله أيضاً إلى حيث سيارة الإسعاف… وكانت المأساة… صعدتُ درجة أخرى من درجات المذبح… جثة أخرى… إنها جثة رائد شقيق الأب ثائر… وهكذا أحصيتُ اثنتين وأربعين جثة. حينها قفزت إلى فكري رؤية أعادتني إلى الماضي السحيق يوم استشهد مار بهنام وأخته سارة ورفاقه الأربعين.
وما هي إلا دقائق وهاهو سائق الإسعاف يخبرني أن المستشفى الأهلي لا يمكنها استقبال جثث الأبوين، مما حدا بي أن أطلب إليه نقلهما إلى مستشفى حكومي ليتسنّى لي في اليوم التالي نقلهما إلى المستشفى القريبة من الكنيسة الشهيدة، كون شهادة الوفاة لا تُنَظَّم إلا في مشفى حكومي… وبينما أنا أتأمل ما حصل، وأجول هنا وهناك حيث قدس الأقداس الملطَّخ بدماء الإرهابي وجسده المقطَّع… إلى غرفة السكرستيا حيث سقط الجرحى والضحايا إلى المحيط حيث الجوانب ملطَّخة بدماء المصلّين الأبرياء الذين قُتلوا عبر العيارات النارية، والذين استُشهدوا بتفجير الإرهابيين لأحزمتهم الناسفة ورميهم للرمانات القاتلة… وبقيتُ أجول وأصول من ركن إلى آخر ومن زاوية إلى أخرى، ولم أكن أتخيّل ما الذي حصل ولماذا بهذه الصورة البشعة وفي أقدس مكان وزمان… وهل للرب شؤون في ذلك!!… يا رب لتكن مشيئتك.
وهكذا واصلتُ التفتيش في كل ركن من أركان الكنيسة وزواياها ومساحة صحنها… أسأل، عن سبب ارتكاب هذا العمل الإجرامي، لماذا هذه البشاعة؟ وأسئلة أخرى كثيرة أوقفت شعرات رأسي القصيرة مستقيمة ومتعجبة… وهل الذي حدث حقيقة أم لا زال خيالاً؟… لا، إنه واقعة أليمة أتى بها الشر والحقد ليس إلا.
وبقيتُ على هذه الحال حتى الثانية بعد منتصف الليل، ثم قفلتُ راجعاً إلى حيث رعيتي في المنصور بعد أن رتّبتُ وضع الجنود والسهر على الكنيسة وحراسة الأبواب حتى الصباح الباكر. وأنا عائد إلى حيث يجب أن أكون، تأملتُ الحدث الذي أعادني إلى الماضي القريب، حيث كان المسيحيون أهدافاً لموجات من الهجمات على كنائسهم وأديرتهم وبيوتهم وأعمالهم وعليهم شخصياً، فقد قُتل المطران بولس فرج رحو، وذبحوا عدداً من الكهنة بدم بارد، وفُجّرت باصات الطلبة وهم في طريقهم لنهل العلم في الجامعات، وأرهبوا عوائل عديدة وقتلوا أغلب أفرادها بعد نهب وسلب وسرقة أموالهم ومجوهراتهم، وكل ذلك في عيونهم حلال حتى دماءهم… هكذا كانوا يقولون، ولا زالوا يقولون!!!.
نعم، تلك الليلة المأسوية لم أغمض فيها جفنيّ ولا عينيّ، فالحدث يمرّ أمامي كمشهد تمثيلي رُتّبت له لغاية في نفس المشاهد. تخيّلتُ صور الضحايا وكيف فتك بهم الأشرار وسقطت أجسادهم البريئة إرباً إرباً هنا وهناك… رأيتُ الجرحى ممخَّضين بدمائهم… حالة الهلع والفزع والخوف لا توصَف… وكنتُ طوال الليل أرسم في مخيّلتي شراسة الحدث وعنف الإنسان، وكيف خلع صورته ولبس صورة المتوحش والكاسر ولم يبالي بالقيم والأعراف، حيث الدنيا جعلته ذئباً أمام حملان… بُرَكٌ من الدماء… أشلاء ملقاة ومبعثرة هنا وهناك… كتب مقدسة مدنَّسة بالدماء ومبعثرة… قربانٌ ملطَّخ بدماء الإرهاب… هيكل الرب قد دُنّس حيث فجّر الإرهابي نفسه وكأنه يكمل ما جاء على لسان عيسى الحي:"وما يعملونه فيكم، إنهم يقدمون قرباناً لله"… وما إن دقت الساعة الرابعة فجراً حتى غيّرتُ ملابسي وأكملتُ صلاتي وقصدتُ الكنيسة فجراً في الخامسة والنصف.
إن ما حصل ما هو إلا شيء محزن ومؤلم وفاجعة وكارثة ومذبحة تلك التي حصلت… التاريخ لم يسجل مثل هذه الكارثة…. إنها أسوأ مذبحة في تاريخ المسيحيين العراقيين منذ الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق… إنه حدث مأسوي. وربما هناك منظمات دولية معروفة تختفي وراء لافتات إنسانية، لكنها في الحقيقة تحاول إفراغ العراق من الطائفة المسيحية، والأسباب غير معروفة بالنسبة لنا.
والحقيقة يجب أن تقال: إن الغزاة ومخططي الإرهاب ليسوا أبرياء من دمائنا ودماء سوانا، غير أن أبرز ما في المسألة أنهم ينظّمون القتل والإرهاب من بعيد ثم ينكفئون تاركين الفرق القاتلة والمميتة ومنظماتها لتُمضي فينا فتكاً وخراباً وتهجير كنائسنا الأصيلة في أرض الرافدين من أجل إبراز وجودها وديمومتها، لتحلّ محلّها وحسب مخططاتهم وإراداتهم الشريرة… نعم أقولها "الأصيلة" كونهم اليوم يقولون عنها أنها شاخت في أيامها وعلينا تغييرها، وما هذا التعبير إلا لغة سخيفة لكسب بسطاء الشعب وأبرياء البلاد فإمّا الخضوع لهذا الشرير، وإمّا قبول الضربات وحالات التهجير، وكأن الزمن هو زمن النهايات لأصلاء الأرض والعقائد الإيمانية الصحيحة لتحلّ محلّها ما يخدم، وما يبشر به وما يُصفَّق له من أجل مصالح بلباس سماوي، وهم من الداخل سياسات منظمة لطوبوغرافية معينة وجيوفزيائية مقيتة!!… إنهم ذئاب خاطفة (لو3:10)… وفي هذه النهايات سيكون مؤمنو كنائسنا ذبيحةً ومذبحاً، قرباناً ومقرَّباً… فعقيدتهم الأصيلة ما هي إلا عقيدة الآباء والأجداد… عقيدة بعيدة عن كل تشويه وتزييف وبدع، لم تشترها الأيام بحلل الزمان، ونِعَمْ المكان، وعطاء السفر والترحال… إنها عقيدة فيها تأصل إيماننا كما تأصلنا في كنائسنا، لذلك فهم يحاولون ضربها بالأكاذيب والعولمة والدعايات، وشراءها بما يملأ البطون، وفتح طرق الرحيل لهم، والذين يدعمونهم ما هم إلا زنادقة القرن الحادي والعشرين.
ومن المؤسف أن نقولها إن الشر ذبحنا بأدواتنا وبإيماننا، وأشرارنا ومنافقينا، فرقصنا أمامهم وغنّينا لهم فكان ما كان إلى أن أصبحنا في هذه الحال، ومنهم تعلّمنا كيف نحمل حقائبنا إلى المنافي ولتستقر حقائبهم في أرض النهرين بل الرافدين وكما يقال في أندلس العرب.
لقد كان العراق مزيجاً رائعاً من المعتقدات والعادات والتقاليد، غير أن الهجوم على الكنيسة وضع حاجزاً جديداً داخل الدولة التي قسمتها الحروب والاحتلال والحرمان، حيث ارتفع الحديث عن الهوية، وتراجع التنوع في المجتمع العراقي. ونمت الهجرة ولكن الهجرة ليست حلاًّ للكارثة
هذه، واستمرارها يمثّل تحدياً صعباً، كما أن خطورة وسخونة هذه المرحلة لا تتقبل أي تهاون أو تقاعس من أي طرف، ولا يجوز أن نكون أحجارَ دومينا أو حصناً شطرنجية.
إن رسالتنا إلى كل واحد يريد أن يلغي وجودنا على الأرض… إلى كل واحد يريد أن يُسكت صوتنا… إلى كل واحد يحس إننا لسنا أبناء هذا الوطن… هي أن تمسكّنا بإيماننا وبكنائسنا يزداد قوة… إن وجودنا مرتبط بأرضنا… نفتخر بعراقيتنا… نفتخر أن دماء شهدائنا بذارٌ تروي هذه الأرض… كفى دماء، فقد جاء وقت البناء… نحن باقون والإرهاب زائل.
يا رب، لتكن الدماء المهدورة نبع سلام وتآخي، اجعل أن يتمكن شرقنا الأوسط العزيز من أن يخرج من نفق التخلف والتعصب والتمييز والكراهية إلى نور المحبة والإخاء والعيش الكريم، فنحن لا ذنب لنا كوننا تلاميذك الذين حملوا السلام ولكنهم ينكرون.
نعم، ذنبنا الوحيد هو تمسكنا بإيماننا وأرض آبائنا وأجدادنا التي هي أرضنا منذ كانت وكانوا ولا زلنا، والذين ضحّوا في خدمتها وازدهارها والدفاع عنها بكل غالٍ ونفيس.
فيا رب، أحلّ السلام والأمان في عوائلنا وفي عائلتنا العراق الجريح، بشفاعة أمّنا مريم سلطانة السلام