الأب خالد عكشة: أن قبول الآخر مفتاح الحوار بين الأديان وغايته

حاوره مصطفى عاشور- إسلام أونلاين

 

منذ أيام أعلن مجمع البحوث الإسلامية في مؤسسة الأزهر في مصر عن تجميد الحوار بين الأزهر والفاتيكان إلى أجل غير مسمى، وأرجع بيان الأزهر ذلك إلى "تكرار تعرض الإسلام بشكل سلبي من قبل الفاتيكان".

  

وتطرق الحوار مع الأب خالد عكشة، رئيس مكتب الحوار مع الإسلام في المجلس البابوي للحوار بين الأديان بالفاتيكان، لموقف الكنيسة من الاضطهاد الذي يتعرض له المسلمون في الغرب، والهجمة المتواصلة على الإسلام، منذ أحداث سبتمبر 2001 مروراً بقضية الرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم، وصولاً لتصريحات البابا بندكتس السادس عشر التي أثارت الكثير من السخط والعتب على الفاتيكان في العالم الإسلامي.

 

الفاتيكان والمسيحيين العرب

 

ما رؤيتكم لأحوال المسيحيين العرب، خاصة في ظل الاهتمام المتزايد من قبل الفاتيكان بالمسيحيين العرب وقضاياهم، والذي تجاوز الكاثوليك إلى المسيحيين بصفة شاملة؟

 

أولاً بشكل عام الكنيسة الكاثوليكية تتكلم باسمها، وتتوجه نحو المسيحيين الكاثوليك، وهذا من باب الاحترام للمرجعيات الدينية، للكنائس والطوائف المسيحية الأخرى، وهناك أحياناً موضوعات تفرض نفسها، بمعنى ضرورة الكلام عن الموضوع بكليته، مع احترام المرجعيات الخاصة بكل كنيسة وبكل طائفة.

 

لكن لماذا هذا الاهتمام بالمسيحيين العرب من قِبل الفاتيكان، وهل الفاتيكان يستشعر وجود خطر عليهم؟

 

ليس جديداً على الفاتيكان الاهتمام بشؤون المسيحيين في أية قارة، أو منطقة من العالم، ونظمت الكنيسة في السابق سنيودس من أجل أوروبا، ومن ثم من أجل إفريقيا، وسنيودس من أجل آسيا، وهناك ظروف تتطلب عقد سنيودسات خاصة مثلاً تم عقد سنيودس خاص بالنسبة للبنان عام 1995.

 

الوضع الحالي للمسيحيين في الشرق الأوسط، فيه شيء من الصعوبة، وفيه تحديات، والتحدي دائماً يحوي مخاطر وآمال، وأود منذ البداية أن أقول إن اهتمام الكنيسة بالمسيحيين في الشرق، يمتد أيضاً إلى الشرق الأقصى، بمعنى أن الكنيسة تنظر إلى وضع المسيحيين في هذه المنطقة من العالم، وأيضاً هي تعي وتهتم بما يجري أيضاً لدى الطوائف الأخرى والكنائس الأخرى، وأيضاً الأديان الأخرى.

 

البابا حدد مجموعة من المشكلات التي يعاني منها المسيحيون العرب، على سبيل المثال: مشكلة الهجرة، مشكلة العلاقة المتوترة بين الكنيسة والدولة، وبين المسيحيين ومجتمعاتهم، مشكلة نمو الإسلام السياسي، ما تقييمكم لهذه المشكلات؟

 

أود أن أتكلم عن المشكلات التي طرحتها، صحيح أن هجرة المسيحيين من الشرق هي موضوع مهم بالنسبة للبابا، وللمسؤولين في الكنائس المختلفة، ولكن أود أيضاً أن أضيف أنها أهم بالنسبة للمسلمين؛ لأن الجميع يعرف ويقر بأن الشرق بدون المسيحيين سيكون شرقاً يفتقر إلى عنصر مهم، وإلى شكل من أشكال التنوع الديني والثقافي التي اغتنى بها طوال أجيال، لاسيما وأن المسيحية ولدت في الشرق.

 

القضية الثانية: تناقص عدد الولادات هي أيضاً مربوطة بثقافة معينة، ومربوطة بأسباب اجتماعية واقتصادية، نأمل أيضاً أن تقدم بعض الحلول للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية، حتى تشعر العائلة المسيحية، كما العائلة المسلمة أيضاً، أو العائلة اليهودية في إسرائيل بالطمأنينة، لمستقبل أبنائها وبناتها، ولا يكون الخوف سداً في وجه الحياة، وفي وجه عائلة أكبر من الموجودة حالياً.

 

وأقول بكل بصراحة إنه ليس من العدل تحميل المسلمين مسؤولية هجرة المسيحيين، إنما هناك أيضاً عناصر يجب أن تؤخذ في الاعتبار من باب الإنصاف وقول الحقيقة، الجميع يعلم بالصحوة الإسلامية، وبمحاولة البعض إقحام الدين في السياسة، وهناك أيضاً لدى البعض هوية دينية استحواذية وإقصائية في نفس الوقت، هذا الكلام عند البعض وليس عند الكل.

 

عودة إلى موضوع الهجرة ومن حالات أعرفها أنا وفي محيطي أيضاً، الموضوع المسيحي الإسلامي غائب تماماً كسبب للهجرة، السبب الأول هو البحث عن مستقبل أفضل.

 

ومن الخطأ ومن الظلم تحميل المسلمين مسؤولية الهجرة، علماً بأن الفهم الخاطئ للإسلام أو محاولة إقحام الدين في السياسة، أو محاولة أسلمة الثقافة بشكل مبالغ فيه، قد يكون من العناصر التي تدفع البعض إلى الهجرة، أو أقله التفكير في الهجرة.

 

الانغلاق على الذات

 

نلاحظ أن مشكلات المسيحيين هي مشكلات مجتمع، لكن محاولة سلخ مشكلات المسيحيين واعتبار أنها نوع من التمييز ضدهم يوتر العلاقات أكثر؟

 

الدساتير كلها تتكلم عن المساواة بين المواطنين، بصرف النظر عن الدين، وعن العرق، وعن الثقافة، وعن التوجه السياسي.

 

المهم جدًّا أن تطبق هذه المساواة على الواقع، فيما يختص بفرص الدراسة، وفرص العمل، وفتح كل مجالات العمل، إن كان العمل السياسي، أو الإعلامي، أو الوظيفي، أو الدبلوماسي.

 

إذن.. إذا شعر المواطن المسيحي إلى جانب المواطن المسلم بهذه المساواة، في التعليم، وفي الفرص، وفي التعامل، وفي الحريات، وفكر بالهجرة فلا يمكن بحال أن يحسب ذلك لا على الإسلام ولا على الدولة، وتكون عند ذلك الهجرة خياراً شخصياً لأسباب شخصية، أو عائلية، طبعاً هناك موضوعات مثل: الحرية الدينية، التي هي أوسع من حرية العبادة، هناك أيضاً موضوع بناء دور العبادة، هناك أيضاً الحدود في المجال الثقافي.

 

ومن الخطأ بنظري تحميل المجتمع، أو تحميل الجانب الإسلامي، كل المسؤولية أو حتى أحياناً المسؤولية فقط، بمعنى من الذي يمنعني دراسة اللغة العربية والأدب العربي، والمطالبة بأن أكون مدرساً للغة العربية في المدرسة أو في الجامعة، إذا تساوت قدراتي مع قدرات غيري، إن كان مسلماً أو غير مسلم، إذن تكافؤ الفرص يكون بناءً على تكافؤ الكفاءات.

 

وعلى المسيحي بنظري أن يتجنب فكرة الانغلاق على نفسه، والهجرة الداخلية، وتجربة "الجيتو" بمعنى العيش في مجتمع يغلقه على نفسه، ولا ينفتح ولا يتكلم، وحتى إذا وجدت تحديات؛ على الإنسان أن تكون عنده الشجاعة والجرأة لكي يقابل التحديات ويتكلم باحترام وبجرأة، ويطالب بحقه، ويثبت أنه كفؤ لهذه الوظيفة، أو لهذا العمل، أو لهذا التطلع.

 

محاولة خلق الأغلبية وسط الأقلية أمر ملاحظ في مجتمع مسيحيي مصر، وهي تجربة يبدو أنها تجربة إنسانية بغض النظر عن الدين، بمعنى المسيحي لا يرى إلا المسيحيين، وهذا يخلق علاقة متوترة مع المجتمع، وهذا لاحظناه في مسلمي الغرب، ما تأثير ذلك على التواصل المجتمعي؟

 

السيد المسيح يقول لنا: "أنتم ملح الأرض، أنتم نور العالم" وهناك صورة أخرى هي صورة الخميرة في العجين، فلا يستطيع الضوء أن يؤدي دوره بالإنارة، إلا إذا وجدت في مكان مرتفع، والملح قليلٌ بطبيعته ولكن يوضع على كثير من الطعام فيحفظه من الفساد، ويعطيه طعمه، وكذلك الخميرة، فقليل من الخميرة تخمر عجيناً كثيراً، فعلى المسيحي أن يتذكر بأن رسالته لا تعتمد على العادات، تعتمد على وعي الرسالة، المسيح حملني رسالة بأن أعيش في هذا المجتمع، وبأن أكون في هذا المجتمع بمثابة النور والخميرة والملح، وكلها تشير إلى القلة كمياً، وإلى دور كبير في نفس الوقت.

 

فالعملية هي أولاً فعلاً عملية وعي، عملية قوى روحية، تأتينا من العلاقة بالله تعالى، من العلاقة بالإيمان، ومن ثم الانفتاح على المجتمع الذي نعيش فيه، والذي هو في حالة الشرق مجتمع أغلبيته مسلمة، نحبه ونتفاعل معه، إذا كان لدينا عتب نتعاتب كأصدقاء، كما يقول المثل "يدوم الود ما دام العتاب"، وإذا كان لنا حق أو نفكر بأن لنا حقا فهناك مساحات للمطالبة بهذه الحقوق، علماً بأنه حتى لو وجد المسيحي في مجتمع ذي أغلبية مسيحية، يواجه هناك أيضاً تحديات نعرفها ولا مجال هنا لذكرها، مثلاً المسيحي الذي يعيش في الغرب سواء كان الغرب أوروبياً أم أمريكياً، يواجه تحديات، وعليه أيضاً أن يكون على مستوى الإجابة على هذه التحديات.

 

الغرب والمسيحيين العرب

 

العلاقة المأزومة بين الإسلام والغرب تجلت في عدة أزمات، أزمة الرسوم، والأزمة التي نتجت عن تصريحات البابا، وأزمة فيلم فتنة، ومجموعة من الأزمات الثقافية والإعلامية، ما مدى تأثر العلاقة بين المسلمين والمسيحيين بهذه الأزمات؟

 

المساواة بين المسيحية والغرب خطأ، الغرب ليس مسيحياً، الغرب فيه مسيحيون، وفيه تراث مسيحي، وتاريخ مسيحي، والدليل على ذلك رفض الغرب للهوية المسيحية حيث رُفض في مشروع الدستور الأوروبي، الاعتراف بالجذور المسيحية لأوروبا.

 

والبعض لسوء الحظ في الشرق يروج لهذه المساواة، فإذ حدث حيفٌ أو ظلمٌ أو اعتداء، من قِبل دولة، أو من قبل قوى عسكرية على بلاد ذات أغلبية إسلامية، أو على مجموعة مسلمة، أو على رمز إسلامي، عند ذلك يحاول البعض في البلاد ذات الأغلبية الإسلامية، بأن يحمل الأمر للمسيحيين الموجودين في الشرق، وهذا ظلم للمسيحيين؛ لأن العدل قيمة أولى في كل الأديان.

 

أنا أميز بين أزمة الرسومات، وأزمة محاولة حرق القرآن في أمريكا، وبين محاضرة البابا؛ فالبابا وأكبر معاونيه قال حينها: "شعرنا بأن مشاعر المسلمين جرحت، ونحن نأسف لهذا، ولكن لم تكن بأي حال، تصريحات البابا بقصد إهانة ديانة المسلمين، أو معتقداتهم".

 

هذا فيما يتعلق بمحاضرة البابا، وبعودة سريعة إلى الموضوع، نجد أن البابا استشهد بهذا النقاش ولم يأخذ على عاتقه محتوى هذا النقاش، الذي جرى بين الإمبراطور وبين عالم مسلم.

 

الآن بالنسبة لأزمة الرسومات أو أزمة محاولة حرق القرآن الكنيسة تستنكرها، هذا واضح، واتخذت موقفاً واضحاً، بمعنى أنه لا يحق لأحد باسم الحرية أن يعتدي على مشاعر الناس، أو على كتبهم التي يعتبرونها مقدسة، أو على الرموز التي يعتبروها مقدسة.. إذن نحن أيضاً ضحايا، ولا سمح الله لسنا شركاء في مثل هذه الاعتداءات، أو محاولة الاعتداء.

 

الإسلاموفوبيا

 

لكن لماذا هذه الأزمات توتر العلاقات المسيحية في الشرق؟

 

تقع هنا المسؤولية على القادة الدينيين، بمعنى إذا حدث مثل هذا الاعتداء، عليهم أن يوضحوا الجهة المسؤولة عنه، فما مسؤولية المسيحي العراقي، أو مسؤولية المسيحي السوداني عن رسام حاول رسم كاريكاتير في الدنمارك!؟ أو عن مخرج أخرج فيلماً عن الديانة الإسلامية في هولندا؟ ما هو الرابط ؟!.

 

إذا اتخذ المسؤولون الدينيون موقفاً واضحاً، وحازماً، فهذا يخفف من الاحتقان، ويضع المسؤولية على أصحابها وليس على الآخرين.

 

التوتر في العلاقات بين بعض الأطراف المسيحية والأطراف المسلمة في بعض المناطق، هل أسهم في تدعيم صورة الإسلاموفوبيا في العالم وفي الغرب وفي أمريكا تحديداً؟

 

قبل أن أجيب على سؤالك يجب أن أشير إلى أنه يوجد -إذا تابعنا الترتيب الزمني- توجد معاداة للسامية، وهناك الإسلاموفوبيا، الترجمة الحرفية هي الخوف من الإسلام، وبنفس الوقت عندنا "كريستانوفوبيا" يعني الخوف من المسيحية.

 

بالنسبة للإسلاموفوبيا فهي ظاهرة موجودة، هناك عناصر تغذيها أو تحاول أن تستفيد من توظيفها سياسياً، وكل نوع من أنواع التوظيف هو خلط أوراق، وظلم، وهو تصرف غير أخلاقي، كلنا ندينه، وبنفس الوقت ندين كل مظاهر "الكريستانو فوبيا" أو الخوف من المسيحية.

 

أياً كان المصدر، وأياً كان التجلي، وأياً كان المكان، لكن نحن علينا مسؤولية كمؤمنين وكرجال دين، في حالة حدوث ظلم أو اعتداء أو تمييز، أو اضطهاد باسم الدين، أن نقول: لا هذا لا يمثل الدين، تماماً كما فعلنا عندما حاول هذا القس حرق القرآن، أو عندما أعلن بأنه سـيفعل ذلك؛ اتخذنا موقفاً واضحاً وأصدرنا بياناً.

 

إذن.. إذا قام المسؤولون الدينيون بأخذ موقف واضح، فهذا يغلق الطريق على من يقول: الدين الإسلامي أو الدين المسيحي يحث على العنف، أو يحث على التعصب، أو يحث على التطرف أو غير ذلك.

 

وأبعد من عملية البيانات هناك عملية التربية، علينا أن نربي الأطفال، والشباب، على مقاربة محترمة للآخر، ولديانة الآخر، ولثقافته ولعرقه، ولحريته، ولكرامته، التي هي أساس كل الحريات.

 

رجال الدين جزء من الأزمة

 

لكن رجال الدين جزء من الأزمة، على الجانب الإسلامي نجد بعض الخطباء والعلماء، يكفرون من يختلف معهم مذهبياً، وليس مسيحياً، وعلى الجانب المسيحي نفس الحال، فبعض رجال الدين هم جزء من الأزمة.

 

نحن في مفهومنا المسيحي مدعوون دائماً إلى التوبة، أي إلى إصلاح الذات، وإلى السعي وراء الأفضل، وبالنسبة لمسؤولية من لهم دور قيادي في جماعاتنا الدينية، نحن تطرقنا إلى الموضوع، وفي أحد المؤتمرات أيضاً تناولنا موضوع مسؤولية القادة الدينيين، وخاصة في زمن الأزمات، مما يشير إلى أهمية الدور الذين يقومون به، وأكرر أولاً في التربية، يعني في إعداد المستقبل، في إعداد الأجيال، ومن ثم في مواجهة الأجيال.

 

ونحن عندما تناولنا موضوع المسؤولين الدينيين، قلنا بأهمية إقامة علاقات معرفة، وصداقة، وتعاون، حتى إذا حدثت أزمات نكون قادرين على التعامل معها، بسرعة، وبوعي، وبحزم كمسؤولين دينيين قبل أن تستفحل الأمور.

 

إذا انتقلنا إلى الجانب المعرفي، البعض يرى أن الآخر هو الجحيم، وهناك من يرى أن الآخر هو تحد معرفي، والتحدي المعرفي يفرض صيغة للتعايش، وإيجاد صيغة حقيقية، تنطلق من الدين، والسؤال هنا كيف ننتقل من التعارف إلى المعروف، إلى العرفان، إلى العرف، وأن تكون صيغة التعايش بيننا قائمة على العرف؟

 

تناول أحد المحاضرين موضوع المعرفة بثلاث كلمات، باللغة الفرنسية connaître معرفة، والمصطلح الثاني Se connaître معرفة الذات ولكن أيضاً المعرفة المتبادلة، والمرحلة الثالثة هي Reconnaître بمعنى الاعتراف المتبادل.

 

إذن الآخر يكون تحدياً بالمعنى الإيجابي، بمعنى أولاً يجب أن أحدد لماذا يختلف عني الآخر؟ وبماذا نتشابه ونتشارك؟ فإذا تم تحديد أوجه التشابه وأوجه الاختلاف نغلق الطريق على أن يصبح الاختلاف خلافاً.

 

ونتكلم دائماً عن إدارة الأزمات، ولكن قبل أن نتكلم عن إدارة الأزمات، علينا أن نتكلم عن إدارة الاختلاف، بمعنى يجب أن أقبل بالآخر المختلف، إن كان الاختلاف عرقياً أو ثقافياً، أو دينياً، أن أقبل بالاختلاف، ومن ثم أحترم الاختلاف وأتعاون مع هذا الاختلاف.

 

وعند ذلك كما قلت نقطع الطريق على أن يصبح كل شكل أو كلاً من أشكال الاختلاف أو كل أشكال الاختلاف طريقاً للخلاف والمنازعات وللصراعات.

 

لكن لماذا تنتشر العصبيات الدينية في هذا الزمن؟ هل تراجع الانتماء للدولة، وبات المرء يبحث عن الأمن والأمان في هذه الانتماءات الدينية، مما ولد نوعاً من نمو العصبيات الإلغائية، الكل يريد أن يلغي الكل؟

 

قد تكون محاولة رفض الآخر، وإلغائه بسبب رفض الإنسان لذاته؛ ولذلك عندما يبلغ الإنسان درجة من الوعي والنضج، ويستوعب نفسه ويقبلها، كفرد وكجماعة، يصبح أكثر قدرة على معرفة الآخر واستيعاب الآخر، وقبوله، والتعامل معه.

 

وعند ذلك يمكن أن نكتشف أيضاً أن التحدي الذي يمثله الآخر، يصبح باب معرفة، وباب اكتشاف للآخر، وبالتالي باب اغتناء، والكل يقر بأن المجتمعات متعددة، متعددة إثنية، ومتعددة دينياً، وثقافياً، وأحياناً لغوياً، وهذه الاختلافات نقبل بها ونتعامل معها، ولا نحاول إلغاءها، ولا نحاول أيضاً الاستعلاء على من يختلف عنا.

 

إذا كان الله تعالى يقبل بهذا الاختلاف، كان الله تعالى ينظر بعين المحبة والرعاية والرضا للجميع، فلماذا لا نقلد هذا الموقف الإلهي؟.

 

أنسنة الدين

 

باعتبارك رجل دين يتعاطى مع الفلسفة، كيف نقوم بعملية أنسنة للدين، لأن الدين ما جاء إلا للإنسان، فالإنسان غايته، كيف نخلق هذه الأنسنة ونحولها إلى فضاء رحمة وتواصل؟

 

المسيحية تؤمن بمركزية الإنسان، ويقول القديس يوحنا بكلمات يلوم بها من لا يحب غيره، "كيف تستطيع أن تحب الله الذي لا تراه، وأنت لا تحب الإنسان الذي تراه" بمعنى أنه يكذب ادعاء من يقول بمحبة الله ولا يحب، أو يكره أخاه الذي يراه، الكنيسة تركز على الإنسان والبابا يوحنا بولس الثاني، قال: الإنسان طريق الكنيسة.

 

ويمكن أن نوسع الكلام بأن نقول الإنسان طريق الأديان، فإذا اتفقنا جميعاً على كرامة الإنسان، وقدسية الحياة البشرية، وضرورة الاعتراف بحقوق الإنسان بدءاً بالحرية الدينية، فنحن نبسط ونسهل الأمور، بمعنى أنه صار بيننا اتفاق بأن المركز هو الإنسان، وبدأ بالإنسان المحتاج، بالجائع، وبالمشرد، وبالمريض، وبالضعيف، وبالذي يعيش أزمة أحياناً مجرد قلة العدد هي أزمة، فإذا بدأنا بالإنسان المحتاج، والضعيف، هناك الفئات القرآنية المعروفة، اليتيم، والأرملة، والغريب، فإذا بدأنا بالإنسان، هذا أولاً يسهل علينا العيش المشترك، ويفتح آفاقنا إلى من هو خالق الإنسان، ورب الإنسان، الله تعالى.

 

بخصوص قضية الإسناد المعرفي سواء في المسيحية أو الإسلام، الملاحظ في الإسناد المعرفي في الفترة الحالية، سواء في بعض النصوص التي يتناقلها بعض الكهنة، أو في بعض الإسنادات المعرفية لبعض المشايخ، الإصرار على الإسناد المعرفي لقضايا عدم التعايش، عدم التواصل، ونفي الآخر، بل وشيطنة الآخر.

 

لا أحد يملك تغيير النصوص التي يعتبرها مقدسة، من هنا تأتي أهمية التفسير، ومن قواعد التفسير، أخذ الكتاب بمجمله، أو أخذ التعليم بمجمله، وعدم التوقف على موضع واحد، أو آية واحدة.

 

بمعنى أنه علينا أن نقرأ النص، لا أن نوظف النص في سبيل أفكارنا ورؤانا، وأيديولوجيتنا، فعندما يحاول المؤمن أياً كان يهودياً، أو مسيحياً، أو مسلماً، أن يأخذ كتابه بين يديه، الكتاب قد يتلخص بطلب الله تعالى من الإنسان، أن يحبه ويعبده، وطلب الله تعالى من الإنسان بأن يكون رؤوفاً رحيماً بأخيه من بني الإنسان.

 

هذا موجز الأديان، إذن إذا توقف الإنسان عند الواعظ أو المدرس الديني، عند موقع أو حدث، وأخرجه من سياقه وأخرجه من كلية الرسالة، عند ذلك يرتكب خطأ في حق الكتاب، وإجحافاً في حق الرسالة، ويظلم نفسه ويظلم الآخرين، ولذلك تأكيد على أهمية التفسير، وعلى أهمية الأمانة نحو الرسالة، التي وضعها الله على كاهل من يحمل مسؤولية في ضمن جماعته الدينية.