بقلم الأب فرنسوا عقل
روما، الثلاثاء 08 فبراير 2011 (Zenit.org)
إنّ المسيحيّين المشرقيّين الذين عرفهم التّاريخ بروّاد النّهضة الفكريّة والوطنيّة في أوطانهم التي أهرقوا دماءهم حبّا بها وأزهقوا أرواحهم من أجل كرامتها، وحملوا فيها قبل غيرهم لواء التّغيير والتقدّم والسّير نحو الأفضل والأكمل والأسمى، كونهم شعب العهد الجديد، وأورشليم الجديدة، والبشرى الجديدة، وأبناء الميلاد والجلجلة والقيامة والعنصرة والرّجاء والتّنوير، تراهم اليوم يهابون التّغيير المجهول الذي تحمل بشائرَه غيومُ النّيل الرّماديّة نحو أفق مَشرق هائج مضطرب، فيما يكاد المهد في فلسطين يفرغ مِن أتباع مَن قدَّسهُ بميلاده، وما انفكّت صلبان الاضطهاد في جلجلة العراق ترتفع وتتكاثر، نازفة استشاهادا وقهرا وخوفا وتهجيرا وتنكيلا، وما زال مسيحيّو بلاد الأرز في تشرذم مستمرّ جرّاء كيديّة بعض آلهة السّياسة الغاضبة؛ إلاّ أنّ أقباط مصر الأحبّاء، -وهم معنيوّن اليوم أكثر من سواهم- بالرّغم من أنّهم جزء لا يتجزّأ من شعب مصر الأبيّ، كأنّي بهم ينظرون إلى ضبابيّة هذه الأيّام العصيبة بحذر كبير، وتفكير عميق يتخلّله خوف صامت من مجهول آتٍ، عبر فوهة بركان ثورة قد تعيد إلى الذّهن كلمات من قال: "وَمَنْ يَكُ ذَا فَضْلٍ فَيَبْخَلْ بِفَضْلِهِ … عَلَى قَوْمِهِ يُسْتَغْنَ عَنْهُ وَيُذْمَمِ".
بالطّبع، إنّ أنماط الحكم السّائدة في الشّرق الأدنى عموما، لا تمتّ إلى الحرّيّة والدّيموقراطيّة بصلة، بل هي بعيدة كلّ البعد عن الأنظمة الحرّة المتقدّمة التي تضمن حقوق الفرد الأساسيّة، وتطبّق مبدأ العدالة والحريّة والمساواة؛ إلاّ أنّ أشكال الحكم هذه، بالرّغم ممّا قيل عنها وما سيقال، وبغضّ النّظر عن توتاليتاريّتها، وأحاديّة فكرها، وصلابة قبضتها الأمنيّة والبوليسيّة، فهي على الأقلّ قد تحاول حماية مسيحيّي بلادها إلى حدّ ما، بسبب ما يربطها من علاقات سياسيّة ودبلوماسيّة بالعالم الغربيّ، ولما تحمله أيضا من إديولوجيّة فكرية وسطيّة، حكم عليها بعض الأصوليّين الجهلة بالكفر والإلحاد.
من حيث المبدأ، لا يمكن لمنطقنا البتّة تأييدَ أنظمة قمع ظالمة تحكم النّاس بالتّخويف والتّهويل والتّرهيب؛ ولكن من حيث الواقع، قد يجدر بنا الإقرار بأنّ هذه الأنظمة، بالرّغم من كلّ شيء، حاولت كحدّ أدنى وما انفكّت تحاول حماية المسيحيّين المتواجدين فيها، ربّما من أجلها لا من أجلهم. لكنّ هذا لا يكفي ولا يرضي أحدا، طالما لم يتساوَ المسيحيّيون بعد، مع شركائهم في تلك الأوطان في جميع الحقوق والامتيازات.
ما يخشاه مسيحيّو المشرق اليوم، جرّاء هذا التّغيير الذي انطلقت شرارته من تونس العلمانيّة، إنّما هو عودة الأصوليّة التّكفيريّة، وإمساكها بزمام الحكم… إذ قد تُعيد مصر وتونس والعراق إلى مرحلة ما قبل القرون الوسطى… وتنشر الخوف والقهر والذمّيّة المذلّة، وتدفع ما تبقّى من مسيحيّي المشرق إلى الهجرة والتّقهقر والشّرذمة.
فتونس، أرض قرطاجةَ أليسار، وحاضنة القديس أغوسطينوس العظيم، لا يجدر بها اليوم أن تتنكّر لحضارتها وعلمانيّتها وانفتاحها ووسطيّتها الدّينيّة المتسامحة.
والعراق الذي هدم الله برج كبريائه في بابل القديمة، قد ابتنى اليوم لنفسه برجا جديدا تختبئ فيه الأصوليّات الدّينيّة الضّالة والمضلّة، حيث تعيث فسادا وجهلا وإرهابا، باعثة الخوف في نفوس المسيحيّين الأعزال، ضاربة عرضَ حائط التّعصّب والتخلّف، بأجيالٍ وفصول من تاريخ التّعياش الحضاريّ، والحوار البّنّاء، والذّهنيّة المنفتحة التي تقدّس الاختلاف بالرّأي، وتحترم جميع الأديان والمذاهب والمعتقدات والثقافات.
أمّا مصر الحبيبة، تلك الأرض التي هُرِّبَ يسوع إليها من وجه سفّاح أصابه داء جنون العظمة والتّشبّث بالحكم فخاف من براءة الأطفال وأحلامهم الجميلة، فلا ينبغي لها اليوم أن يُهرَّبَ أتباع يسوع منها.
آن الآوان باعتقادنا، لا لتغيير بعض الأنظمة الدّيكتاتوريّة فحسب، بل لهدم أهرام الإيديولوجيّات الأصوليّة على مختلف مذاهبها، وتعدّد معتقداتها… وإسقاط نُصُبِ تلك التّيّارات المتوهّمة بامتلاكها الحقيقة التي لا حدّ لها، وهي ترى طيفها من كهف الجهل والوهم وسوء الفهم والشّروحات الخاطئة…
حان الوقت لإقفال تلك المدارس المظلمة التي تبشّر بالقتل والحرب والسّيف وسط عالم يضجّ بالحياة، ويحلم بالسّلام، ويتوق إلى الحبّ، ويتطلّع إلى المزيد من التّقدّم الإنسانيّ والحضاريّ والاجتماعيّ والعلميّ والتّكنلوجيّ والفكريّ والثّقافيّ…
وإن كان لا بدّ من ثورة فعليّة، فيجب عليها بالأحرى أن تضرم نيرانها في صروح فراعنة العصر الحديث، من مشارق الأرض إلى مغاربها، أولئك الذين يسيطرون على مقدّرات العالم برمّته، ويستغلّون فقراءه المساكين، ويلعبون بمصائر الشّعوب كما يحلو لهم، ويحاربون الإيمان في المجتمعات والمؤسّسات التّربويّة، وعبر مختلف الوسائل التّقنيّة المعاصرة، ويدمّرون المبادئ والأخلاق والقيم، عاملين على قتل البراءة في قلوب الأطفال، وهدم الأخلاق في عقول الشّباب، وزرع الإلحاد في أذهان الكهول، وخنق الرّجاء في نفوس الشّيوخ.
أمّا في مشرقنا المتخبّط في معضلاته المزمنة، فربّما الحلّ في هذه الأيّام العصيبة يكمن في تطبيق مقولة العالِم الفرنسيّ أنطوان لافوازييه Antoine Lavoisier: "لا شيء يفنى، لا شيء يُخلق، والكلّ يتحوّل". إذ يتمّ تحوّل أنماط بعض أشكال الحكم المستبدّة، إلى أنظمة، تقوم على الحرّيّة والقوانين الحديثة العادلة، وتفصل بين السّياسة والدّيانة، فلا تكفّر أحدا ولا تُفني ملّة، ولا تُلغي فئة، ولا تتسلّط على رقاب العِباد ومصائرهم وبصائرهم، بل تستفيد من أخطاء التّاريخ وشبهاته، فتنتقل بالمجتمع المدنيّ من الظّلم إلى العدل، ومن الظّلام إلى النّور، ومن الجهل إلى المعرفة، ومن الفكر المتحجّر الذي أكل الدّهر عليه وشرب، إلى فكر نيّر منفتح وخلاّق يؤمن بأن الدّين لله والوطن للجميع.