جريدة الشرق الأوسط – أميل أمين
من بين أهم القضايا الآنية المعاصرة التي باتت تمثل في حقيقة الأمر في العالم العربي تحديدا وتخصيصا حديثا ذا شجون، تأتي قضية حقوق الإنسان وتقاطعاتها وتجاذباتها مع الأديان بمفهومها الشامل.
وفي الوقت الذي ينظر فيه الغرب بشبه مطلقية تامة لذاته نظرة لا تخلو من شوفينية واضحة على أنه المصدر الأول والباعث الحقيقي لفكرة تأصيل وتجذير حقوق البشر، يغيب عن ناظريه ومفكريه أن الأصل في التنظير لهذه القضية المحورية إنما وجد في الشرائع والنواميس الإلهية التي جاءت بها الأديان السماوية، وكانت المنطقة العربية هي مهبط هذا الوحي، والمحرك الأول والرئيسي للبحث في وعن ذات الإنسان العليا.
والمقطوع به أن تناولنا لهذه الإشكالية إنما ينطلق من كون معرفة الإنسان بما له من حقوق وما عليه من واجبات لهو أمر يساعد على خلق مجتمعات صحية، وتكوين إنسان متحضر كما أن الشرائع السماوية كافة قد أكدت على هذه الحقوق والواجبات وأصبح هناك خطاب ديني خاص بالإنسان وعلا صوته على نحو خاص منذ الإعلان العام عن حقوق الإنسان.
غير أننا في هذه السطور سنقصر حديثنا على المسيحية والإسلام اللذين عرفا هذه المنظومة الإنسانية الإيمانية في وقت واحد، دون فصل، وحتى قبل أن تدون في قوانين ومواثيق، على أنه ربما يتعين علينا بادئ بدء محاولة بلورة مفهوم لمنظومة الحقوق الإنسانية وهي حقوق طبيعية يتمتع بها المرء منذ ولادته وحتى تركه الحياة وباجتهاد متواضع يمكن تصنيفها على النحو التالي:
** الحقوق الدينية: فلكل إنسان الحق في اعتناق ما يؤمن به من أفكار ومذاهب ورؤى، وهي تركز على الأخلاق العامة والعلاقة بين الإنسان والخالق سبحانه وتعالى.
** الحقوق الأدبية: وهذه تناقش حق الفرد في اختيارات القيم والجماليات والمثل العليا وما إلى ذلك من انساق ذهنية.
** الحقوق السياسية: وقد اتضحت أخيرا فيما عرف باسم حقوق المواطنة، الحق في ممارسة كافة شعائر الأداء السياسي والمشاركة في أنظمة الحكم.
** الحقوق الثقافية: وتنطوي على حق الإنسان في التعبير عما يؤمن به من أفكار والوصول إلى المعلومات بحرية وعدم وضع حواجز أو فرض قيود عليه في هذا المضمار.
** حقوق الأمن والأمان: وهذه في واقع الأمر هي محصلة لما تقدم من حقوق وإن كانت تتعاطى على نحو خاص من علاقة الفرد بالسلطة وحفظ نوع من التوازنات بين الأنظمة الحاكمة وبين المحكومين.
هل من علاقة ما أو تجذير بعينه لتلك الحقوق الأولية المتقدمة مع الأديان السماوية؟
ظهرت المسيحية في أجواء احتقان إمبراطوري روماني مذل للروح الإنسانية ولمن هو غير روماني ولا يتمتع بجنسية الإمبراطورية العظمي والنظرة التي كانت سائدة هي أن كافة البشر هم خدم للرجل الروماني.
في هذا السياق اختار «يسوع الناصري» لفظة «ابن الإنسان» ليعبر عن هويته ورسالته، وبلور تلك الرسالة في قوله «إن ابن الإنسان جاء لا ليخدم (بضم الياء) بل ليخدم (بفتح الياء)».
كانت المسيحية في منطلقاتها الأولى محاولة للسمو بالإنسان سواء في نظرته إلى نفسه أو في علاقته بالآخرين، وبالتالي علاقته بالمطلق المقدس، وذلك بالدعوة إلى إعلاء قيمة الإنسان والحفاظ على كرامته واحترام حريته، وحب الآخرين ونشر المساواة والعدل بين الناس والعمل من أجل حياة أفضل للخليقة كلها، وقد أجمل السيد المسيح دعوة المسيحية في قوله «جئت لتكون لهم الحياة ولتكون أفضل».
وبالنظر إلى هذه المبادئ ولو في عجالة يدرك المرء أنها تحمل في طياتها جوهر حركة حقوق الإنسان وحتى وإن لم تستخدم المصطلح بعينه.
وقد رأينا في ثمانينات القرن المنصرم اتجاهات لاهوتية ثورية مثل «لاهوت التحرير» الذي ظهر في الكنيسة الكاثوليكية، بشأن دول أميركا اللاتينية، حيث اعتبر القائمون على هذا الفكر ومنهم أساقفة وقساوسة ورهبان وراهبات والعلمانيون أن الصمت في مواجهة تحقير الإنسان من قبل أنظمة فاشية هو أمر يتعارض وروح المسيحية حتى ولو كلف هذا النهج الفكري القائمين عليه التصادم مع التيار المحافظ من رجال الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان في زمن سعيد الذكر البابا يوحنا بولس الثاني الكبير.
والشاهد أن المجال يضيق بنا إذا أردنا الاستطراد في ذكر الشواهد والأدلة التي تقودنا إلى القول أن فكر حقوق الإنسان هو فكر مشرقي ظهر في المسيحية قبل 2000 عام في ربوع فلسطين.. ثم ماذا عن الإسلام؟
لمزيد من التأصيل لفكر حقوق الإنسان في الإسلام نلجأ مباشرة إلى عدد من الآيات والنصوص القرآنية على سبيل المثال وليس الحصر، ففيما يخص أهم حق وهو حق الإنسان في الحياة نختار ثلاث آيات:
** «ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا» – الإسراء 33
** «من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا» – المائدة 32
** «ولا تقتلوا أنفسكم أن الله كان بكم رحيما ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا» – النساء 29 – 30 ولعله في مواجهة كثير من الدعوى الغربية المنحولة التي لا تنفك توجه سهامها لنحر المحتوى الإسلامي المعتدل تجاه حريات الناس وحقهم في الحياة الآمنة والمطمئنة، وبعيدا عن نمذجة ووصم كل ما هو ومن هو مسلم بالإرهاب نختار من النصوص القرآنية ما يلي:
** «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا» – الإسراء 70
** «يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة» النساء 1
** «وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان» – المائدة 2
** «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين» الأنبياء 107
** «خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين» الأعراف 199.
ما الذي يمكن أن يستنتجه المرء من القراءات السريعة المتقدمة إسلاميا ومسيحيا؟
حكما أن الأديان السماوية هي الأصل والمنبع الذي أورد للعالم برمته شرعته على نحوها الآني الحديث، ولهذا فإنه يتوجب على القائمين على العمليتين الإعلامية والتعليمية في العالمين العربي والإسلامي التأكيد على عدد من المعاني والتي تتشابك فيها الخيوط وتتقاطع بينها الخطوط ما بين الدين وحقوق الإنسان من المنظور الحقوقي العربي وفي مقدمتها:
** أن الأديان السماوية بالإجماع تذهب في طريق الاتفاق الكامل والشامل مع جوهر رسالة حقوق الإنسان وأنه لا مكان فيها للتمييز على أساس عنصري من العرق أو اللون أو الثقافة أو أي أساس أخر.
** أن الإسلام على نحو خاص – ومن جراء الاتهامات الموجهة له ولمؤمنيه – دين يؤمن بالعالمية وبوحدة البشر وتنوعها وبالتسامح والمحبة بين الشعوب.. «وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا».
** أن رسالة الإسلام هي الإعمار في الأرض وهي بذلك توطد وترسخ معنى الخلافة والكرامة وأمانة الإنسان في رعايته للحياة بكل صورها وأن كرامة الإنسان هي الأساس الأعمق لحقوق الإنسان وهي رسالة دينية في نفس الوقت.. على أنه في هذا الإطار قد يقول قائل بأن هناك مجالات معينة للتناقض بين التشريع الإسلامي والشرعية الدولية لحقوق الإنسان مثل حقوق المرأة والأقليات والعقوبات البدنية وغيرها.. فماذا عن هذه؟
مؤكد أن هذه قضية قائمة بذاتها وربما سنفرد لها لاحقا حوارا خاصا غير أنه وفي عجالة يمكن القول إن حل هذا التناقض لم يستعص على الجيل الأول من الفقهاء المسلمين العظام في عصر التنوير العربي، أي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، والربع الأول من القرن العشرين، وأن العالم الإسلامي في ردائه العصري مسؤول الآن عن مواصلة جهوده وصولا بالتشريع الإسلامي إلى ذرى الإنسانية والعقلانية وإلى أفضل تجسيد للرسالة العقلانية والأخلاقية للإسلام.
ومما لا شك فيه أن النقد كأفضل أداة تنموية وتطويرية اكتشفها الإنسان على حد قول الفيلسوف الألماني كانط ربما يكون أفضل وسيلة أيضا لمراجعة الذات وما يوجه لنا كعرب ومسلمين على صعيد حركة الحقوق الإنسانية العربية يستدعي ولا شك إعادة قراءة لثلاث قضايا جوهرية، ولا بد وأن نكاشف بها أنفسنا إن أردنا تصويبا ذاتيا وبعيدا عن الأجندات الخارجية المشبوهة وهي:
** ضرورة التزام حتمي بتصحيح أي خطاب كراهية قد نكون وقعنا فيه كرد فعل ميكانيكي للغبن الواقع علينا من قبل القوى الامبريالية بوجهيها القديم والحديث وتنقية الثقافة العربية منه.
**الالتزام بقضايا حقوق الإنسان بشكلها الإنساني الأوسع، بمعنى إظهار التضامن مع كافة القوى الإنسانية المظلومة والمضطهدة ودون أن نقصر الحديث على ذواتنا العربية أو الإسلامية، وهذا يجعلنا جزءا من الكيان الدولي دون تهميش أو إقصاء أو عزل أو إبعاد.
** التأكيد على أننا جزء من العالم، ولا يمكن أن نكون نقيضا له أو لمصالحه الأعمق في الأمن والسلام. وأننا نلتزم بتسوية ما ينشأ من تناقضات بيننا وبين الشعوب الأخرى بالصورة السلمية والبناءة والتي تقوم على الأخوة في الإنسانية والتضامن بين الشعوب والمسؤولية المشتركة للإنسانية.
على أنه وفي هذا الزمن حيث من يقدم الإعلام هو بمثابة من يعطي الشريعة، وقديما كان من يعطي الخبز هو من يعطي الشريعة، فإنه تقع على عاتق الجهات الإعلامية والدبلوماسية في العالمين العربي والإسلامي، إيصال مفاهيم جوهرية للآخر المغاير لنا عرقا ودينا والمشارك لنا في الإخوة الإنسانية بمعناها ومبناها الأوسع، ومن بين تلك المفاهيم على سبيل المثال لا الحصر:
** أننا قوم نرحب بثقافة السلام وبأخلاقيات التسامح ونشارك الآخرين عن وعي وليس عن مصادفة في رفض العدوان وندين الهمجية والبربرية ونسعى في طريق المدينة الفاضلة يدا بيد.
** أن السلام الذي نحن مقتنعون به بشكل مطلق هو سلام قائم على العدل وإحقاق الحقوق وانه سلام يباعد كثيرا بينه وبين الاستسلام أو التفريط، ولذلك فإن أي أحاديث ملتبسة عن شرعة حقوق الإنسان تستخدم كأداة للتهديد أو الوعيد حتى نحيد عن المطالبة بحقوقنا كاملة غير منقوصة هو شأن ينتقص كثيرا من الجوهر الإيجابي لفكرة حقوق الإنسان كحق يراد به باطل.
** إننا نسعى إلى شراكات عالمية نوطد ونعزز من خلالها فكر الحقوق الإنسانية التي تجذر السلام وتعيد الحقوق السليبة لأصحابها وأن على الآخرين إذا أرادوا أن نقتنع بصدق دعواهم الحقوقية وليس بزيفها، أن يطفوا عن سياسة الكيل بمكيالين وأن ينظروا إلينا كما إلى غيرنا بصدق وموضوعية.
هل يتقاطع حديث الأديان وحقوق الإنسان مع إشكالية أخرى ليست أقل أهمية أو سخونة تفرضها الأزمات الراهنة المتعاقبة؟
نعم بكل تأكيد وتحديد هناك قضية الخطاب الديني لا سيما أن إشكاليات أحاديث حقوق الإنسان تحتاج إلى دعم الخطاب الديني الإسلامي والمسيحي في المستقبل، وبخاصة في ظل الحضارة الإنسانية الواحدة التي بات العالم يعيشها ولكن في إطار من مدنيات وثقافات مختلفة ومتعددة.
ماذا عن قضية الخطاب الديني بوصفها واقعا معاشا ينقلنا من مراحل التصادم والفراق إلى جوهر التعايش والتلاقي والاتفاق؟
حتما نحن في حاجة لحديث قادم عن هذه القضية في إطار من حضارة السلام وقانون المحبة.