عظة الكاردينال ترشيزيو برتوني في ساحة القديس بطرس

في قداس الشكر على تطويب يوحنا بولس الثاني

حاضرة الفاتيكان، الثلاثاء 03 مايو 2011 (Zenit.org)

ننشر في ما يلي العظة التي ألقاها الكاردينال ترشيزيو برتوني، أمين سر دولة حاضرة الفاتيكان، خلال قداس الشكر على تطويب يوحنا بولس الثاني الذي أقيم يوم أمس صباحاً في ساحة القديس بطرس.

***

"يا سمعان بن يونا، أتحبني؟ (…) يا رب، أنت تعلم كل شيء. أنت تعلم أني أحبك!" (يو 21، 17). هذا هو الحوار الذي دار بين يسوع القائم من بين الأموات وبطرس. إنه الحوار السابق للوصية: "أطعم خرافي" (يو 21، 17) لكنه حوار يتفحص أولاً حياة الإنسان. ألم يكن هذان ربما السؤال والجواب اللذين ميزا حياة ورسالة الطوباوي يوحنا بولس الثاني؟ هو نفسه قال ذلك في كراكوفيا سنة 1999 مؤكداً: "اليوم أشعر بأنني مدعو بشكل خاص إلى رفع الشكر لهذه الجماعة الألفية من رعاة المسيح، والإكليروس والعلمانيين، لأن شهادة قداستهم، وهذه الأجواء المفعمة بالإيمان التي تشكلت خلال عشرة قرون وما تزال تتشكل في كراكوفيا، سمحت في ختام هذه الألفية، على ضفاف فيستولا عينها، وأمام كاتدرائية فافيل، بوصول إرشاد المسيح: "بطرس، أطعم خرافي" (يو 21، 17). سمحت بأن يجد ضعف الإنسان الدعم في قوة أزلية إيمان هذه البلاد ورجائها ومحبتها، وأن يعطي الجواب التالي: "بالطاعة للإيمان أمام المسيح ربي، وبإيكال نفسي لأم المسيح والكنيسة، وبإدراك الصعوبة الكبيرة، أقبل".

أجل، إن حوار المحبة بين المسيح والإنسان هو الذي ميز حياة كارول فويتيلا كلها وقاده ليس فقط إلى خدمة الكنيسة بأمانة، وإنما أيضاً إلى تفانيه الشخصي والتام لله والبشر الذي اتسمت به درب قداسته.

نحن نتذكر جميعاً كيف أن الريح يوم جنازته وفي وقت معين أغلقت بهدوء صفحات الإنجيل الموضوع على التابوت. فكما لو أن ريح الروح كانت ترغب في ترك بصمة على ختام مغامرة كارول فويتيلا البشرية والروحية، المستنيرة بالكامل بإنجيل المسيح. فمن خلال هذا الكتاب، اكتشف تدابير الله للبشرية، ولنفسه، لكنه بخاصة تعرف إلى المسيح، إلى وجهه ومحبته، مما شكل دوماً بالنسبة إلى كارول دعوة إلى المسؤولية. وعلى ضوء الإنجيل، قرأ تاريخ البشرية وأحداث كل الرجال والنساء الذين وضعهم الرب على دربه. من هنا، نشأ إيمانه، من هذا اللقاء مع المسيح في الإنجيل.

كان رجل إيمان، رجل الله الذي عاش من الله. وكانت حياته صلاة مستمرة ودائمة، صلاة شملت بمحبة كل سكان كوكب الأرض المخلوق على صورة الله ومثاله، والجدير بالتالي بكل الاحترام، المفدي بموت وقيامة المسيح، والمتحول لذلك إلى مجد الله الحي (Gloria Dei vivens homo – القديس إيرينيوس). بفضل الإيمان الذي عبر عنه بخاصة في الصلاة، كان يوحنا بولس الثاني مدافعاً حقيقياً عن كرامة كل إنسان وليس مجرد مقاوم للإيديولوجيات الاجتماعية والسياسية. وبالنسبة إليه، كان كل رجل وكل امرأة إبناً وإبنة لله بغض النظر عن الأعراق وألوان البشرة، والجذور الجغرافية والثقافية، والعقيدة الدينية. وتتلخّص علاقته مع كل إنسان في هذه الجملة الرائعة التي كتبها: "الآخر يخصني".

لكن صلاته كانت أيضاً تشفعاً دائماً للأسرة البشرية جمعاء، للكنيسة، لكل جماعة مؤمنين في الأرض كلها – ربما أكثر فعالية كلما كانت متسمة أكثر بالمعاناة التي تخللت عدة مراحل في حياته. ألم ينشأ ربما من هنا – من الصلاة، من الصلاة المرتبطة بعدة أحداث أليمة متعلقة به وبالآخرين – اهتمامه بالسلام في العالم، بالتعايش السلمي بين الشعوب والأمم؟ لقد سمعنا في القراءة الأولى من النبي أشعيا: "ما أجمل على الجبال أقدام المبشرين (…) الحاملين بشارة الخير" (أشعيا 52، 7).

اليوم، نشكر الرب على إعطائنا راعياً مثله، راعياً تمكن من قراءة علامات حضور الله في التاريخ البشري، وأعلن أعماله العظيمة في العالم أجمع وبمختلف اللغات؛ راعياً رسّخ في ذاته حس الرسالة والالتزام بالكرازة الإنجيلية، بإعلان كلمة الله في كل مكان، وبالهتاف عن الأسطح… "ما أجمل على الجبال أقدام المبشرين (…) الحاملين بشارة الخير والخلاص، القائلين لصهيون: قد ملك إلهك".

اليوم، نشكر الرب على إعطائنا شاهداً مثله بغاية الصدق والشفافية، شاهداً علمنا كيفية عيش الإيمان والدفاع عن القيم المسيحية، والانطلاق في الحياة من دون تعقيدات ومن دون خوف؛ كيفية الشهادة للإيمان بشجاعة وتماسك، مترجمين التطويبات إلى تجربة يومية. إن حياة يوحنا بولس الثاني ومعاناته ووفاته وقداسته هي شهادة على ذلك وإثبات حسي وأكيد.

نشكر الرب على منحنا حبراً أعظم استطاع أن يعطي الكنيسة الكاثوليكية ليس فقط بعداً عالمياً وسلطة أخلاقية على المستوى العالمي، وإنما أيضاً وبخاصة من خلال الاحتفال باليوبيل الكبير لسنة 2000، رؤية أكثر روحانية وبيبلية وأكثر تمحوراً حول كلمة الله. إنها كنيسة تمكنت من تجديد ذاتها، وخاضت "كرازة إنجيلية جديدة" وكثفت علاقاتها المسكونية وفيما بين الأديان، وأعادت اكتشاف دروب الحوار المثمر مع الأجيال الجديدة.

وختاماً، نشكر الرب لأنه وهبنا قديساً مثله. استطعنا جميعاً – البعض عن قرب والبعض الآخر عن بعد – أن نميز كيف كانت بشريته وكلماته وحياته متناغمة. كان إنساناً حقيقياً لأنه كان مرتبطاً به هو الحقيقة بشكل لا ينفصم. باتباعه من هو الطريق، كان إنساناً يسير على الدوام، ويتقدم دوماً نحو خير البشر أجمعين، والكنيسة والعالم، ونحو الغاية التي تتمثل لدى كل إنسان في مجد الآب. كان إنساناً حياً لأنه كان مفعماً بالحياة أي بالمسيح، ومنفتحاً دوماً على نعمته وعلى جميع مواهب الروح القدس.

كيف أثبتت الكلمات التي سمعناها في إنجيل اليوم في حياته: "الحق الحق أقول لك: إنك لما كنت شاباً كنت تربط حزامك على وسطك وتذهب حيث تريد. ولكن عندما تصير شيخاً فإنك تمد يديك، وآخر يربط حزامك ويذهب بك حيث لا تريد!" (يوحنا 21، 18). لقد رأينا جميعاً كيف أُخذ منه كل شيء كان يؤثر بشرياً: القوة الجسدية، تعبير الجسد، إمكانية التحرك، وحتى الكلام. عندها، وأكثر من أي وقت مضى، أوكل حياته ورسالته إلى المسيح، لأن المسيح وحده قادر أن يخلص العالم. لقد أدرك أن ضعفه الجسدي كان يظهر بوضوح أكبر أن المسيح هو الذي يعمل في التاريخ. وبتقديم معاناته له ولكنيسته، أعطانا جميعاً درساً عظيماً أخيراً في الإنسانية والتوكل على الله.

"رنموا للرب ترنيماً جديداً،

رنموا للرب يا جميع الأرض.

رنموا للرب. باركوا اسمه".

فلنرنم للرب ترنيم مجد على منحنا هذا البابا العظيم: رجل الإيمان والصلاة، الراعي والشاهد، المرشد في الرحلة بين الألفيتين. ولينر هذا الترنيم حياتنا لكي لا نكرم الطوباوي الجديد فحسب، بل نتبع تعاليمه ومثاله بمعونة النعمة الإلهية.

إني إذ أفكر بامتنان بالبابا بندكتس السادس عشر الذي رغب في رفع سلفه العظيم على عظمة المذابح، يسرني أن أختتم بالكلمات التي قالها في الذكرى الأولى لوفاة الطوباوي الجديد: "أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، (…) تتجه أفكارنا بانفعال نحو لحظة وفاة الحبر الأعظم الحبيب، وإنما في الوقت عينه، تُجبر قلوبنا على النظر إلى الأمام. ونشعر فيها بأصداء دعواته المتكررة إلى التقدم بلا خوف على درب الأمانة للإنجيل، إلى أن نكون مبشرين بالمسيح وشهوداً له في الألفية الثالثة.

لا يسعنا إلا أن نتذكر إرشاداته التي لا تنقطع إلى التعاون بسخاء في خلق بشرية أكثر عدالة وتضامناً لنكون صانعي سلام وبناة رجاء.

فلتبق أنظارنا شاخصة دوماً نحو المسيح الذي "هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد" (عب 13، 8) والذي يرشد كنيسته بثبات. لقد آمنا بمحبته واللقاء معه هو الذي "يعطي للحياة آفاقاً جديدة واتجاهاً حاسماً" (الله محبة، Deus Caritas Est، رقم 1).

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، فلتكن لكم جميعاً قدرة روح يسوع مصدر سلام وفرح، كما كانت بالنسبة إلى البابا يوحنا بولس الثاني. ولتساعدنا العذراء مريم، أم الكنيسة، لنكون في كل الظروف على مثاله رسلاً مجتهدين لابنها الإلهي وأنبياء محبته الرحيمة. آمين!".

***

نقلته إلى العربية غرة معيط (Zenit.org)

حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية 2011