شبابُ البابا الذين يعرفون كيف يهزون مخاوفنا

 

روما، الخميس 25  أغسطس 2011 (ZENIT.org)

 ننشرُ فيما يلي تأمّلاً كتبه المونسنيور برونو فورتي، رئيس أساقفة كييتي فاستو، ونُشرعلى صفحات جريدة ال سولي فينتكواترو اوري "Il Sole 24 Ore" (الأحد 21 أغسطس 2011).

* * *

بحرٌ من الشباب، أتوا من جميع أنحاء العالم (يُقدّر عددهم لحظة اللقاء مع البابا بندكتس السادس عشر بأكثر من مليون ونصف، من بينهم أكثر من 100 ألف شابٍ إيطالي). حشدٌ سعيد ومحتفل في شوارع مدريد، لوحة جميلة من الألوان والأعلام والقمصان والوجوه، جوقة أصوات من كلّ نوع، نهرٌ من الأناشيد والكلمات والضحكات. ثمّ أولئك الشباب أنفسهم الذين اجتمعوا في صمتٍ طويل في وقت العبادة، منتبهين ومتأمّلين في أوقات التعليم المسيحي، عفويين وأسخياء، مرهقين وسعيدين، مستعدّين دومًا لبدء النهار من جديد بحماس. ونحنُ، أساقفة وكهنة ومربّون ومعلمو التعليم المسيحي، معهم نتقاسمُ الطعام والخبرات، الشهادة والتعب، الإيمان والفرح العميق، منذ أيام ما يسمّى بـ"التوأمة" في مدن اسبانيا الرئيسية. كلّ هذا وأكثر كان اليوم السادس والعشرين العالمي للشبيبة الذي جرى في العاصمة الاسبانية في شهر أغسطس اللهّاب هذا. ألقت بعضُ وسائل الإعلام الضوء على بعض النزاعات الصاخبة لـ"علمانيين" راديكاليين (بالطبع ليسوا "علمانيين" بمعنى مَن يحترم جميع الآراء والهوّيات). إلا أنّ عنفَ بعض المشاكسين الشفوي (وأحيانًا ليس فقط)، وجدَ أفضلَ تكذيبٍ له في جواب الشباب، الصادق والخالي تمامًا من العنف، والذين واصلوا ببساطة الترتيل شاهدين للفرح والصداقة ولروعة وجمال اختيارهم للإيمان. وجودي وسط هؤلاء الشباب، حديثي معهم بثقة وشفافية، إصغائي إليهم ورؤيتي لهم في أوقات عديدة من اللقاء، دفعني لأن اتساءل: أيّة رسالةٍ يمكنُ أن يعطي هؤلاء الشباب لجميعنا ولأوروبا في زمن الأزمة الاقتصادية والأخلاقية. سأحاولُ أن أعطي جوابًا، وما عشته في هذه الأيام في مدريد كان له طاقات حياة ورجاء أكبر بكثير من كلّ ما يظهرُ آنيًا.

أولاً، عرف هؤلاء الشباب كيف يشهدون بأنّ الحريّة والعمل لا يتضاربان ليس فحسب، بل كلٌ منها وجه للأخرى. لو تأمّلنا في التضحيات التي قدّموها (النوم لأيام في أكياسٍ للنوم في ظروفٍ أكثر من مُجهدة، والأكل بطريقةٍ قنوعة إذا أردنا تعريفها بكلماتٍ بسيطة…) وفي الفرح الذي عاشوه، سندرك أن لا أحد كان يمكنه إجبارهم على ذلك سوى الاختيار الحرّ والواعي لكلّ واحدٍ منهم ليكون حاضرًا. وهنا يكمنُ جمالُ مراحل التحضير التي أوصلت هؤلاء الشباب إلى اليوم العالمي للشبيبة، كما تظهرُ أيضًا قدرةُ شبابنا الاستثنائية على الاختيار بوعيٍ ومسؤولية والتزام وتفان. عندما رأيتهم، وردت على بالي عدّة مرات العبارة الخاطفة لبول ريكوير حول العلاقة بين الحريّة والحاجة: “C’est l’amour qui oblige”، "الحبّ هو الذي يُجبرُ فقط". فالحبّ فقط يعملُ بحريّة ذلك الذي لا يقدرُ إكراهٌ خارجي ولا ذهبُ العالم أن يدفعك لعمله. شعورٌ آخر أحسستُ به من خلال هؤلاء الشباب: شفافيتهم وولائهم ووضوح رؤيتهم ونظراتهم وقلوبهم. فوجودهم سوية في جوٍ من الصداقة البسيطة والبهيجة يُظهرُ كيف أنّ كثيرًا من الشباب، حقًا العديد منهم، هم اليوم أفضل بكثير مما يمكنُ لأحدٍ أن يرسمَ صورةً عنهم بالاجماع. أمام المشهد السياسي، ليس ذلك المحلي فحسب والذي يبعثُ غالبًا السخط لا بل حتّى الاشمئزاز في نفوس كثيرين وخاصّةً عندما يُسمع من المسؤولين نداءات التضامن والتنازل لأجل الشأن العام دون أن تُرى نتائج ذلك في الحياة أو في نمط من يطلب هذه التنازلات، يشكّلُ هؤلاء الشباب تحديًا قويًّا يبعثُ على التصديق بأنّ وجودَ عالمٍ مختلف وأفضل ليس ممكنًا فحسب، بل ضروري وملّح. ففي وجه وقلب هؤلاء الشباب يعودُ الرجاء ليكون استباقًا لما سيأتي، حبًّا لما هو ممكن وجميل للجميع، بدايةً لذلك العالم الجديد الذي يجذبُ إلى حاضر البشر شيئًا من جمال المستقبل الذي وعد اللهُ به. 

وفي الختام، إنّ عمق سلوك الشباب في مدريد يجبُ، باعتقادي، أن يكون موضوع تفكيرٍ من قبل الجميع: لقد ذهبوا للإصغاء إلى كلماتٍ قويّة، وليست سهلة على الإطلاق، ككلمات بندكتس السادس عشر التي قالها بذكائه وإيمان قلبه. إصغاؤهم وحماسهم وحّده بهم فوق الاختلافات وحتّى مسافات اللغات والثقافات والظروف الاجتماعية والسياسية، وهذه دلائل واضحة كيف أنّ الإنجيل اليوم، وربما أكثر من أيّ لحظة أخرى من التأريخ، لا زال تلك البشرى السارّة للحبّ والرجاء وبذل الذات من أجل الآخرين. والإنجيلُ هو التحدي والنعمة لعيش ذلك الخروج من الذات دون رجوع، وهنا يكمنُ الحبّ: حبّ أكيد يستحيلُ على قدرات البشر لوحدها، ولكنه يصبحُ ممكنًا بنعمة الله. هذا الحبّ الممكن والمستحيل أعلنه الشبابُ في مدريد والتقوا به: فبدلاً من فراغ القيم وغياب المعنى والهروب الأناني، يوجدُ الحبّ المستحيل، وهو عملُ الحبّ في خدمة الخير العام الذي يدعمه الإيمانُ والحبُّ الذي منحه اللهُ المصلوب للجميع في التأريخ. أتساءلُ فيما إذا لم يرد مقترحٌ من هؤلاء الشباب لجميعنا، مقترح قادر على إثارة مخاوفنا وحساباتنا التقديرية وهروبنا ممّا يخصّنا، مقترحٌ يقولُ بأنّ الله شابٌ أكثر من أي وقتٍ مضى، ومهم في الوقت الحاضر وللجميع، لنعيش ونعطي معنىً وجمالاً للحياة