مداخلة المونسنيور مامبرتي في منظمة الأمم المتحدة: القضية الفلسطينية

 

روما، الجمعة 30 سبتمبر 2011(Zenit.org)

ننشر في ما يلي مداخلة المونسنيور دومينيك مامبرتي، أمين سر علاقات الكرسي الرسولي مع الدول، خلال الدورة السادسة والستين للجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة التي عقدت في نيويورك في 27 سبتمبر. وأبرز ما يتحدث عنه المونسنيور مامبرتي هو طلب الاعتراف بفلسطين كدولة عضو في الأمم المتحدة، الطلب الذي قدمه رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، السيد محمود عباس، في 23 سبتمبر إلى منظمة الأمم المتحدة.

***

نيويورك 27 سبتمبر 2011

سيادة الرئيس،

باسم الكرسي الرسولي، يسرني أن أهنئكم على انتخابكم لرئاسة الدورة السادسة والستين للجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة، وأن أؤكد لكم على تعاون الكرسي الرسولي التام والصادق. كما أهنئ الأمين العام، السيد بان كي مون الذي سيبدأ تفويضه الثاني خلال هذه الدورة في الأول من يناير 2012. كذلك، أرغب في توجيه تحية حارة إلى وفد جنوب السودان الذي أصبح في يوليو الفائت البلد العضو الثالث والتسعين بعد المئة في المنظمة.

سيادة الرئيس،

كما تجري العادة سنوياً، يتيح النقاش العام فرصة مشاطرة وتناول المسائل الأساسية التي تقلق البشرية الساعية إلى مستقبل أفضل للجميع. التحديات التي تواجه الأسرة الدولية كثيرة وصعبة. وهي توضح على الدوام الترابط القائم وسط "أسرة الأمم" التي ترى في منظمة الأمم المتحدة أداة مهمة على الرغم من محدوديتها في تحديد واستخدام حلول للمشاكل الدولية الرئيسية. في هذا السياق، ومن دون استنفاد، ينوي وفدي التوقف عند بعض التحديات الأولوية لكي يتجسد مفهوم "أسرة الأمم" أكثر فأكثر.

التحدي الأول هو ذو طابع إنساني. هو ذاك الذي يدعو الأسرة الدولية جمعاء، أو بالأحرى، "أسرة الأمم" إلى الاعتناء بمكوناتها الأكثر ضعفاً. في بعض أنحاء العالم، مثلاً في القرن الإفريقي، نشهد مع الأسف حالات إنسانية طارئة خطيرة ومأساوية تسبب نزوح ملايين الناس ومعظمهم من النساء والأطفال، وعدد مرتفع من ضحايا الجفاف والجوع وسوء التغذية. يرغب الكرسي الرسولي في تجديد دعوته إلى الأسرة الدولية التي عبر عنها البابا بندكتس السادس عشر مراراً عديدة لتكثيف ودعم السياسات الإنسانية في مناطق مماثلة والتأثير بشكل ملموس على مختلف الأسباب التي تزيد ضعفها.

هذه الحالات الإنسانية الطارئة تحمل على التشديد على ضرورة إيجاد أشكال مبتكرة لاستخدام مبدأ مسؤولية الحماية الذي يوجد في أساسه الاعتراف بوحدة الأسرة البشرية والاهتمام بالكرامة الفطرية لكل رجل وامرأة. وكما نعلم، فإن مبدأ مماثلاً يتعلق بمسؤولية الأسرة الدولية القائمة على التدخل في الظروف التي لا تستطيع فيها الحكومات وحدها أو لا تريد أن تؤدي واجبها الأولي الذي يقضي بأن تحمي شعوبها من الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان، وأيضاً من تداعيات الأزمات الإنسانية. إن كات الدول غير قادرة على ضمان حماية مماثلة، ينبغي على الأسرة الدولية أن تتدخل بالأساليب القانونية المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة ووثائق دولية أخرى.

بالمقابل، لا بد من التذكير بخطر إمكانية اللجوء إلى المبدأ المذكور في ظروف معينة كدافع ملائم لاستخدام القوة العسكرية. وحتى استخدام القوة الموافق لقوانين الأمم المتحدة لا بد من التكرار بأنه يجب أن يكون حلاً محصوراً مع الوقت، تدبيراً يُتخذ في حالة الطوارئ الفعلية ويكون مصحوباً ومتبوعاً بالتزام فعلي لإحلال السلام. وبالتالي، وأمام تحدي "مسؤولية الحماية"، تبرز الحاجة إلى سعي أعمق إلى أساليب لتلافي وإدارة الصراعات، باستخدام كل الأساليب الدبلوماسية الممكنة من خلال التفاوض والحوار البنّاء وبرعاية وتشجيع أضعف علامات الحوار أو الرغبة في المصالحة من قبل الأطراف المعنية. يجب أن تُفهم مسؤولية الحماية ليس فقط كتدخل عسكري يجب أن يكون الملجأ الأخير، وإنما أولاً كأمر يلزم الأسرة الدولية بالاتحاد أمام الأزمات وتأسيس سلطات للمفاوضات الصحيحة والصادقة، لدعم قوة القانون المعنوية، للسعي وراء المصلحة المشتركة وحث الحكومات، المجتمع المدني والرأي العام على إيجاد الأسباب وتقديم الحلول لمختلف أنواع الأزمات، بالعمل في تعاون وتضامن وثيقين مع الشعوب المنكوبة والحرص دوماً وأولاً على تمام وأمن جميع المواطنين. لذا، من المهم أن تشكل مسؤولية الحماية المفهومة بهذا المعنى، المعيار والدافع الموحّدين لعمل الدول ومنظمة الأمم المتحدة على إعادة السلام والأمن وحقوق الإنسان. فضلاً عن ذلك، بإمكان التاريخ الطويل والناجح عامة لعمليات حفظ السلام والمبادرات الأخيرة لبناء السلام أن يقدما تجارب ملائمة لصوغ نماذج تطبيق مسؤولية الحماية مع المراعاة التامة للقانون الدولي والمصالح المشروعة لكل الأطراف المعنية.

سيادة الرئيس،

إن احترام الحرية الدينية هو السبيل الأساسي لبناء السلام، والاعتراف بكرامة الإنسان وصون حقوق الإنسان. هذا هو التحدي الثاني الذي أريد التوقف عنده. مع الأسف، كثيرة هي الظروف التي يتم فيها المساس بالحق في الحرية الدينية أو إنكاره لأتباع ديانات مختلفة؛ مع الأسف، يُلاحظ ازدياد التعصب لدوافع دينية، وللأسف يثبت أن المسيحيين هم حالياً الجماعة الدينية المرتكب بحقها أكبر عدد من الاضطهادات بسبب إيمانها. يشكل انعدام احترام الحرية الدينية تهديداً للأمن والسلام، ويعيق تحقق تنمية بشرية شاملة فعلية. إن الأهمية الاستثنائية لدين محدد في إحدى الأمم يجب ألا تعني أن يتعرض المواطنون المنتمون إلى طوائف أخرى للتمييز في الحياة الاجتماعية أو أسوأ من ذلك أن يُسمح بارتكاب العنف ضدهم. في هذا الصدد، من المهم تشجيع التزام مشترك بالاعتراف بالحرية الدينية لكل فرد وجماعة وبتعزيزها من خلال حوار صادق بين الأديان يرعاه ويستخدمه الممثلون عن مختلف الطوائف الدينية وتدعمه الحكومات والسلطات الدولية. أجدد للسلطات ولزعماء الأديان دعوة الكرسي الرسولي المفعمة بالاهتمام لكي تتخذ تدابير فعالة من أجل حماية الأقليات الدينية حيثما تكون مهدَّدة، ولكي يتمكن أتباع كافة الطوائف في كل مكان من العيش بأمان والاستمرار في تقديم إسهامهم للمجتمع الذي ينتمون إليه. بالتفكير بالوضع في بعض البلدان، أود أن أكرر بخاصة أن المسيحيين هم مواطنون كالآخرين، متعلقون بأمتهم وأمناء لجميع واجباتهم الوطنية. من الطبيعي أن يتمتعوا بكافة حقوق المواطنية، وحرية المعتقد والعبادة، والحرية في مجال التعليم والتربية وفي استخدام وسائل الاتصالات.

من جهة أخرى، في بعض البلدان، وعلى الرغم من إيلاء أهمية كبرى للتعددية والتسامح، إلا أن هناك نزعة إلى اعتبار الدين كعامل غريب عن المجتمع المعاصر أو حتى مقوض للاستقرار، مع السعي بأساليب متنوعة إلى تهميشه ومنع أي تأثير له في الحياة الاجتماعية. ولكن، كيف يتم إنكار إسهام الديانات الكبرى في العالم في تطور الحضارة؟ كما شدد البابا بندكتس السادس عشر، فقد أدى البحث الصادق عن الله إلى مزيد من الاحترام لكرامة الإنسان. على سبيل المثال، قدمت الجماعات المسيحية بإرث القيم والمبادئ الخاص بها إسهاماً كبيراً في إدراك الأفراد والشعوب لهويتهم وكرامتهم، وفي غزو مؤسسات دولة القانون، وإثبات حقوق الإنسان وواجباته المتطابقة. من هنا، من المهم أن يشعر المؤمنون اليوم كما في الأمس بحرية تقديم إسهامهم في تعزيز نظام صحيح للوقائع البشرية ليس فقط بالتزام مسؤول على الصعيد المدني، الاقتصادي والسياسي، وإنما أيضاً بالتعبير عن محبتهم وإيمانهم.

التحدي الثالث الذي يرغب الكرسي الرسولي في لفت انتباه هذه الجلسة إليه يتعلق بامتداد الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية. نعلم جميعاً أن أحد العناصر الأساسية في الأزمة الراهنة هو نقص الأخلاقيات في البنى الاقتصادية. الأخلاقيات ليست عنصراً خارجاً عن الاقتصاد، ولا مستقبل للاقتصاد إن لم يشمل في ذاته العنصر الأخلاقي: بمعنى آخر، البعد الأخلاقي أساسي لمواجهة المشاكل الاقتصادية. الاقتصاد لا يعمل فقط من خلال تنظيم ذاتي للسوق أو باتفاقيات تقتصر على التوفيق بين مصالح الأكثر نفوذاً؛ إنه بحاجة إلى علة وجود أخلاقية، لكي يعمل من أجل الإنسان. إن فكرة إنتاج موارد وخيرات، أي الاقتصاد، وإدارتها بطريقة استراتيجية، أي سياسية، من دون السعي بالأفعال عينها إلى فعل الخير، أي من دون أخلاق، تبينت أنها وهم ساذج أو وقح، فتاك على الدوام. فضلاً عن ذلك، لكل قرار اقتصادي تبعة أخلاقية. الاقتصاد إذاً بحاجة إلى الأخلاقيات لكي يعمل جيداً؛ ليس إلى أخلاقيات عادية بل إلى أخلاقيات متمحورة حول الإنسان وقادرة على تقديم آفاق للأجيال الجديدة. ينبغي على النشاطات الاقتصادية والتجارية الموجهة نحو التنمية أن تكون قادرة على الحد من الفقر وتخفيف معاناة الأكثر حرماناً. في هذا الصدد، يشجع الكرسي الرسولي تعزيز المساعدة العامة في التنمية، بمقتضى التعهدات التي قدمت في غلين إيغلز. ويرجو وفدي أن تتوصل المناقشات حول هذا الموضوع، بمناسبة الحوار المقبل الرفيع المستوى حول "تمويل التنمية"، إلى النتائج المرجوة. من جهة أخرى، شدد الكرسي الرسولي مراراً على أهمية تفكير جديد ومعمّق في معنى الاقتصاد وأهدافه، ومراجعة متبصرة للهندسة المالية والتجارية الشاملة لتصحيح اختلالاته وانحرافاته. هذه المراجعة للأنظمة الاقتصادية الدولية يجب أن تندرج في إطار إعداد نموذج شامل وجديد للتنمية. في الواقع، هذا ما يفرضه الوضع الصحي البيئي للكوكب؛ وما تتطلبه بخاصة أزمة الإنسان الثقافية والأخلاقية التي تبدو أعراضها واضحة في شتى أنحاء العالم منذ زمن طويل.

هذا التفكير يجب أن يُلهم أيضاً أعمال مؤتمر منظمة الأمم المتحدة حول التنمية المستدامة (ريو +20) الذي سيعقد في شهر يونيو المقبل، مع الاقتناع بأن "الإنسان يجب أن يكون في محور الاهتمامات من أجل التنمية المستدامة"، كما هو معلن في المبدأ الأول لإعلان ريو لسنة 1992 حول البيئة والتنمية. إن حس المسؤولية والحفاظ على البيئة يجب أن يرشدهما الوعي بوجود "أسرة أمم". إن فكرة "الأسرة" توحي فوراً بشيء آخر إضافة إلى العلاقات الوظيفية البحتة أو تقارب المصالح البحت. العائلة هي بطبيعتها جماعة قائمة على الترابط والثقة المتبادلة والتعاون والاحترام الصادق. ونموها الكامل لا يقوم على سيادة الأقوى، بل على الاهتمام بالأضعف والأكثر تهميشاً، وتشمل مسؤوليتها الأجيال المستقبلية. إن احترام البيئة يجب أن يزيد انتباهنا إلى احتياجات الشعوب الأكثر حرماناً؛ يجب أن يخلق استراتيجية من أجل تنمية متركزة حول الناس، معززاً التضامن والمسؤولية تجاه الجميع، من ضمنهم الأجيال المستقبلية.

لا تستطيع هذه الاستراتيجية إلا أن تستفيد من مؤتمر منظمة الأمم المتحدة حول معاهدة تجارة الأسلحة المتوقعة لسنة 2012. فتجارة الأسلحة التي ليست منظمة وشفافة تخلف تداعيات سلبية خطيرة. فهي تبطئ التنمية البشرية الشاملة، وتزيد مخاطر الصراعات، بخاصة الداخلية، وعدم الاستقرار، وتعزز ثقافة العنف والإفلات من العقاب المرتبطة في معظم الأحيان بالنشاطات الإجرامية منها الاتجار بالمخدرات، الاتجار بالبشر والقرصنة، التي تمثل أكثر فأكثر مشاكل دولية خطيرة. إن نتائج التطور الحالي لمعاهدة تجارة الأسلحة ستكون اختباراً لعزم الدول الفعلي على الاضطلاع بمسؤوليتها الأخلاقية والقانونية في هذا المجال. ينبغي على الأسرة الدولية أن تهتم بالتوصل إلى معاهدة لتجارة الأسلحة تكون فعالة وقابلة للتطبيق، مع الوعي بالعدد الكبير للمتأثرين بالتجارة غير الشرعية للأسلحة والذخائر، وبمعاناتهم. في الواقع، يجب ألا يكون الهدف الرئيسي للمعاهدة تنظيم تجارة الأسلحة التقليدية أو إعاقة السوق السوداء فحسب، بل أيضاً وبخاصة حماية الحياة البشرية وبناء عالم أكثر احتراماً لكرامة الإنسان.

سيادة الرئيس،

إن الإسهام في بناء عالم أكثر احتراماً لكرامة الإنسان هو الذي سيظهر القدرة الفعلية لمنظمة الأمم المتحدة على إنجاز مهمتها التي تقضي بمساعدة "أسرة الأمم" على السعي وراء أهداف مشتركة من السلام والأمن والتنمية البشرية المستدامة للجميع.

كما يفكر الكرسي الرسولي بالأحداث الجارية في بعض بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط. هنا، أريد تجديد دعوة الأب الأقدس بندكتس السادس عشر لكي يبذل جميع المواطنين، وبخاصة الشباب، قصارى جهدهم لتعزيز المصلحة المشتركة وبناء مجتمعات حيث يتم التغلب على الفقر ويُستوحى كل خيار سياسي باحترام الإنسان؛ مجتمعات ينتصر فيها السلام والوئام على الانقسام والبغض والعنف.

والملاحظة الأخيرة تتعلق بطلب الاعتراف بفلسطين كدولة عضو في الأمم المتحدة، الذي قدم هنا في 23 سبتمبر من قبل رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، السيد محمود عباس. يعتبر الكرسي الرسولي هذه المبادرة في سياق محاولات إيجاد حل نهائي، بدعم الأسرة الدولية، للقضية التي تناولها قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 بتاريخ 29 نوفمبر 1947. هذه الوثيقة الأساسية توفر القاعدة القانونية لوجود دولتين. إحداهما أبصرت النور، في حين أن الأخرى لم تتأسس بعد على الرغم من مضي حوالي أربع وستين سنة. الكرسي الرسولي مقتنع بوجوب اتخاذ قرارات جريئة، في حال وجود رغبة في السلام. وهو يتمنى أن تتخذ الأعضاء المختصة في الأمم المتحدة قراراً يساعد على تحقيق الهدف النهائي بشكل فعال، أي إحقاق حق الفلسطينيين في الحصول على دولتهم المستقلة وذات السيادة وحق الإسرائيليين في الأمان، على أن تكون للدولتين حدود معترف بها دولياً. إن جواب الأمم المتحدة، على أي حال، لن يشكل حلاً تاماً ولن يتم التوصل إلى السلام الدائم إلا من خلال مفاوضات متسمة بحسن النية بين الإسرائيليين والفلسطينيين، مع تلافي الأعمال أو الشروط المخالفة لتصريحات حسن النية. بالتالي، يحث الكرسي الرسولي الطرفين على استئناف المفاوضات بعزم ويوجه دعوة ملحة إلى الأسرة الدولية لكي تزيد التزامها وتحث إبداعها ومبادراتها للتوصل إلى سلام مستدام، مع احترام حقوق الإسرائيليين والفلسطينيين.

شكراً سيادة الرئيس! 

***

ترجمة وكالة زينيت العالمية(Zenit.org)

حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية 2011