كلمة السفير البابوي لدى الأردن المطران جورجيو لينجوا في تقديم الإرشاد الرسولي

لا يمكن أن تتم الشهادة بدون الشركة والتواصل مع الآخر

عمان، الثلاثاء 9 أكتوبر 2012 (ZENIT.org).

ننشر في ما يلي كلمة كلمة السفير البابوي لدى الأردن المطران جورجيو لينجوا، في معرض حفل تقديم الإرشاد الرسولي "الكنيسة في الشرق الأوسط" والذي جرى في عمان أمس الاثنين تحت عنوان "ندوة العيش الإسلامي المسيحي المشترك في ضوء الإرشاد الرسولي" في مركز الحسين الثقافي عمّان.

* * *

يمثل الارشاد الرسولي "الكنيسة في الشرق الاوسط" فكر قداسة البابا بندكتس السادس عشر بعد اجتماع سينودس الأساقفة من أجل الشرق الأوسط الذي عقد في خريف عام 2010 حيث تحمل الوثيقة نفس العنوان السينودس "شركة وشهادة" وهي مفاهيم تعكس روح الارشاد الرسولي وتعد قيما كنسية اساسية، لأن  الكنيسة مدعوّة منذ البدء وعلى الدوام، على أن تقدّم شهادة لقيمة الشركة مع الآخرين كجزء لا يتجزأ من ذاتها بحسب نص الآية الكريمة: "وكان جماعة الذين آمنوا قلبا واحدا ونفسا واحدة" (أعمال الرسل 4 آية 32) وهي الاية التي اتخذها سينودس الاساقفة عنوانا له.

لا يمكن أن تتم الشهادة بدون الشركة والتواصل مع الآخر. هذا هو التحدي الذي يضعه البابا بندكتس السادس عشر أمام المسيحيين في الشرق الأوسط حيث لا يجب أن يؤثر تنوّع الطقوس بشكل سلبي على الرسالة العامّة للكنيسة. إن الطرق المتنوّعة للتعبير عن الإيمان الصحيح لا تتعارض مع نفس المحتوى من الإيمان. على العكس من ذلك، فإن التنوّع هو ثراء إذا عاش في الشركة أما الانقسام فيعد فقرا وعقبة أمام قدرة المسيحيين على  الشهادة. وعليه فانّ عنوان الإرشاد الرسولي نفسه يستخدم كلمة "الكنيسة" بصيغة المفرد لا الجمع ليؤكد هذا الجانب.

إن كان صحيحا أنّ الكنيسة الكاثوليكية، التي يخاطبها قداسة البابا "تدرك أنها لن تكون قادرة تماما على إظهار هذه الشركة (…) إن لم تعملْ أوّلاً على تجديدِ هذه الشَّرِكةِ في داخلها، وعلى مستوى كلّ كنائِسها، ثمَّ لدى جميعِ أعضائِها: من بطاركةٍ وأساقفةٍ وكهنةٍ ورهبانٍ ومُكَرَّسين وعَلمانيِّين." (الارشاد 3).   فان الخطاب وعلى الفور يصبح مسكونيا (لكل الكنائس): "فإلى جانب الكنيسة الكاثوليكيّةِ، توجد في الشَّرق الأوسط من الكنائسِ العديدةِ المُوَقَّرة، أُضيفت إليها جماعات كنسيِّة أبصرت النُّور في فترات حَديثة. هذه الفسيفساءُ تتطلَّب جَهدَاً هامَّاً ومُتواصلاً من أجل تعزيز الوحدة، في إطارِ احترامِ غنى كلّ جماعة، بغيِّة توطيدِ مصداقيِّةِ إعلانِ الإنجيل والشَّهادة المسيحيّة . الوحدة هِبةٌ من الله تُولَد من الرّوح وينبغي تنميتها بصبر دؤوب (راجع 1 بط 3، 8-9). نعلم أنَّها تجربة، تجربة الالتجاء فقط إلى المعايير البشَّرِيّة عندما تعترض الانقساماتُ طريقَنا، متناسين نصائح القدّيس بولس الحكيمة (راجع 1 كو 6، 7-8)، الَّذي يُناشد قائلا: "واَجتَهِدوا في المُحافَظَةِ على وَحدَةِ الرُّوحِ بِرِباطِ السَّلامِ" (أف 4، 3). الإيمان هو قلبُ وثمرةُ العمل المسكونيّ الأصيل . وينبغي أن نبدأ بالتّعمُّق فيه. تنبع الوحدة من الصَّلاة المثابرة، ومن التّوبة الَّتي تجعل كلّ شخص يعيش وفقا للحقيقة وفي المحبّة " (راجع أف 4، 15-16 ). (الارشاد 11)

وعلاوة على ذلك، فإنّ لهذه الوثيقة أهمية خاصة بالنسبة لموضوعين مثيرين للنقاش في إطار الفكر اللاهوتي والرعوي للكنيسة وهما: الكرازة والحوار. وحيث يعتقد في كثير من الأحيان أن هذين المفهومين متعارضان بمعنى وجوب أخذ الواحد وترك الآخر، فإنّ قداسة البابا في  الارشاد الرسولي يقدّم هذين  المفهومين كجانبين لحقيقة كنسيّة واحدة.

الكرازة ليست دعاية، ناهيك عن جمع الانصار … إنّها ببساطة أن تعلن، مع احترام المعتقدات الدينية للآخرين، الكنز الذي وجدناه: أي يسوع. إن  الكرازة أيضا لا تعني التظاهر  من أجل تحويل أي شخص، ولكن يجب أن نكون مقتنعين بأنّ لكل فرد الحق في معرفة يسوع ومن ثم  الاختيار بحرية ما اذا كان سيتبع له أم لا.

وعليه فإن الكرازة بحسب فهمها كإعلان ونقل للإيمان تبقى المهمّة الأساسية للكنيسة والتي يجب أن تجد طريقة مناسبة، آخذة بعين الاعتبار تحديّات العصر والسياق الثقافي والاجتماعي الذي توجد فيه، بمعنى "مقاسمة العطيِّة الَّتي لا تُوصف، والَّتي أرادها الله لنا، مانحاً إيَّانَا أن نشاركه حياتَه نفسَها.  إنَّ تأملاً كهذا ينبغي أن يكون منفتحا على البعدين، المسكوني وبين الأديان، والمرتبطين بالدّعوة والرّسالة الخاصّتين بالكنيسة الكاثوليكيّة في الشَّرق الأوسط.". (الارشاد 86).

إن البابا بندكتس السادس عشر لا يخاف من الاقتراب من قضية حساسة كالحقيقة. حيث أن  الكرازة والحوار يعتمدان في الواقع على الحقيقة،  وعليه يذكر الارشاد الرسولي وبكل شجاعة ووضوح :  "ليست الحقيقة ملكاً لأحد، إنَّها دائماً عطيّة تدعونا لمسيرةِ محاكاةٍ للحقيقة بشكل أعمق دائماً. يمكن معرفةُ الحقيقة وعيشُها فقط في الحرية، لهذا لا يمكن الإجبار على الحقيقة، إنَّما في لقاء المحبِّة فقط يُمكن سبر أغوارِها." (الارشاد 27).  ومن المهم أن نتذكر دائما أن "ثمَّة بَصِيصا مِنَ الحقيقةِ يُنير جميع البشر " (الارشاد 27).

هذا هو معنى الحوار بين الأديان كما يصفه قداسة البابا بندكتس السادس عشر، فهو " لا تفرضه بالأساس اعتبارات براغماتيِّا ذات طابع سياسيّ أو اجتماعيّ، بل يستند، قبل كلّ شيء، إلى أُسسٍ لاهوتيِّة مرتبطة بالإيمان." (الارشاد 19).  حيث سبق ذكر هذه الفكرة في الوثائق الأساسية للمجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني مثل "نور الأمم" وقبل كل شيء "في عصرنا" الذي فتح أبواب الكنيسة الكاثوليكية للحوار مع المؤمنين من الديانات الأخرى. لكل شخص الحق – لا بل الواجب – في معرفة دين الآخر، وبالتالي للفرد الحق وبالتالي الواجب أن يقدم معتقداته بحرية.

ويؤكد البابا أيضا أنه لا ينبغي قصر الحوار على التسامح المتبادل فحسب وإنما ليكون وكيلا لضمان الحرية الدينية لكل انسان  وممارستها في حياته اليومية. "اليهود والمسيحيون والمسلمون يؤمنون بإله واحد، خالق جميع البشر". (الارشاد 19).   وعليه في ضوء هذه الفكرة الأساسية يستطيع أتباع التقاليد الدينية التوحيدية الثلاث اكتشاف خطة الله للبشرية وهي وحدة وتناغم الأسرة البشرية.

إن الاعتراف بإله واحد "يمكن أن يشكل دافعاً قوياً للسَّلام بالمنطقة وللتعايش المشترك" (الارشاد 19).   هذه الحقيقة تمهد في الواقع " شهادةً جميلةً للصفاء والمودّة بين أبناء إبراهيم" (الارشاد 19).   يشير البابا راتزينغر دونما تجاهل للعديد من الصراعات التاريخية الطويلة والمؤلمة في كثير من الأحيان بين المسيحيين واليهود والمسلمين والتي تتجلى بممارساتِ التّعصب والتّمييز والتّهميش وحتَّى الاضطهاد، إلى أن "الثقافة الحالية الغنية الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط هي نتيجة لتكافل ولد من مساهمة  اليهود والمسيحيين والمسلمين". (الارشاد 23 – 24).

بناء على هذا الفكر ترددت كلمة الاخوة كثيرا من بين الكلمات الرئيسية لقداسة  البابا في لبنان خلال التوقيع على الإرشاد الرسولي: الكنيسة في الشرق الاوسط. «الإخوة  لمحة من السماء!» كما قال قداسته للشباب يوم 15 سبتمبر في الساحة الواقعة أمام البطريركية المارونية من بكركي. وفي اليوم التالي، وقبل تلاوة صلاة التبشير الملائكي في نهاية القداس الإلهي في مدينة بيروت، عبّر قداسة البابا  عن أمله في "أن يدرك الناس أنهم جميعا إخوة! ". وفي نفس المكان وفي تقديم الارشاد الرسولي  قال قداسته: "لتكنِ الشركةُ الأخويِّةُ عضداً في الحياة اليوميِّة وعلامةً للإخوّة العالميِّة الَّتي جاء يسوع، الابنُ البكر بين كثيرين، لإقامتها".

إن البابا يقول بألم نظرا لعدم وجود هذه المحبة الأخوية "هنالك عددٌ كبيرٌ من القتلى، ومن الأرواح الَّتي دمَّرها العمى البشريّ، ناهيك عن الخوف والمذلّة! يبدو أنَّ لا شيء يكبحُ جماحَ جُرمَ قايين (راجع تك 4، 6-10 و1 يو 3، 8-15) بين أبناء آدم وحوَّاء، المخلوقين على صورةِ الله (راجع تك 1، 27). فخطيئةُ آدمَ الَّتي عزَّزتها خطيئةُ قايين ما تزال تُوَلِّد شوكاً وحسكاً (راجع تك 3، 18) حتّى يومِّنا هذا. إنَّه لَمِن المحزنِ رؤيّةُ هذه الأرض المباركة تَتَألَّم بأبنائِها الَّذين يتقاتلون فيما بينهم بلا هوادة، ويموتون!" (الارشاد 8).

إن الحب والتسامح والعدل والدفاع عن كرامة الإنسان والحرية (حتى الدينية منها) والرغبة في الديمقراطية هي الدعائم الاساسية لمجتمع أخوي. إن المسيحيين والمسلمين في الشرق الأوسط مدعون لمثل هذا الالتزام الواقعي.

في ضوء هذه الأفكار ووجهات النظر عبر قداسة البابا بندكتس السادس عشر عن رغبته في أن "تُظهر هذه المنطقة أن العيش مَعَاً ليس أمراً مثاليَّاً، وأنَّ انعدام الثّقة والأحكام المسبقة ليست أمراً حتميِّاً. فباستطاعة الأديان أن تلتقي مَعَاً لخدمة الخير العام وللمساهمة في تنمية كلّ شخص وفي بناء المجتمع." (الارشاد 29).

* * *

نقلتها إلى العربية الانسة مرام حمارنة