الإيمان … "قوام الأمور التي تُرجَى وبرهان الحقائق التي لا تُرَى" (عب ١١: ١)
إن تلك الفضيلة الإلهية يختفى وراءها كل التراث الروحى للبشرية جمعاء وللمسيحية بشكل خاص، بدءا بإيمان إبراهيم أبو الآباء، مروراً بالأنبياء ورجال الله القديسين عبر العهد القديم وصولا إلى سيدتنا مريم العذراء المثال الأسمى والأعظم للإيمان الكامل، الإيمان الذى يضع كل شىء بين يدى الله دون أدنى قيد أو شرط مثمرا أعظم نعمة للبشرية جمعاء وهى حلول الله الكلمة بالجسد فى وسطنا، ومن ثم تكرس كنيستنا الكاثوليكية هذا العام للإيمان لكى نحياه من جديد، نتأمل فيه ونعيد مراجعة الحياة فى ضوء ثرائه المتراكم فى الكنيسة عبر الأجيال.
لقد حمل شعار سنة الإيمان أعمق المعانى المعبرة عنه:
سفينة عظيمة تخترق المياة تمثل الكنيسة حافظة الإيمان وهى حاملة ابنائها عبر الحياة الأرضية نحو الحياة الأبدية، وهى تدعو الجميع بلا إنقطاع إلى الإنضمام وإلى إرتداد يومى عميق والتجديد المستمر فى الروح وأن نكون علامة حية لحضور الرب القائم من بين الأموات، فتضج الكنيسة بالحياة والصلاة والإحتفال والخدمة والفرح والرجاء، كنيسة تحول كلمات الإنجيل إلى إيمان معاش فى أعمال وأفكار وسلوك حتى فى خضم المياه الهائجة والرياح العاتية والظلام المخيف والليل الطويل، فهى متحدة بالمسيح إتحاد الجسد بالرأس.
صارى وحيد وعملاق لتلك السفينة هو الصليب المحيى الذى يرتفع فى وسطنا كعلامة وبرهان دائم لمحبة الله وغفرانه وفدائه المعلن طوال الأزمنة، صليب يحمل دعوة الله المستمرة للتوبة والمصالحة بين الإنسان والله والإنسان وقريبه، صليب يعطى معنى للألم فى الحياة ويمنح الرجاء للمتألمين فى القيامة السعيدة.
شراعها وموجهها سيدنا يسوع المسيح "مُبدئ إيماننا ومتمّمه" (عب ١٢: ٢)، "هو شُعاعُ مَجْدِه وصُورةُ جَوهَرِه، يَحفَظُ كُلَّ شيَءٍ بِقُوَّةِ كَلِمَتِه" (عب ١ :٣)، ذاك الذى هو جوهر ومحور إيماننا وخلاصنا وبنوتنا للآب السماوى وعربون الحياة الأبدية.
وتنير لها وتدفئها شمس الإفخارستيا، الغذاء الحقيقى لكل رواد السفينة المؤمنين بيسوع المسيح ومصدر القوة والمحبة، وعلامة حضور المسيح المستمر فى حياتنا اليومية، كما يشمل رمز ذاك السر سائر الأسرار المقدسة من معمودية وتثبيت وتوبة وكهنوت وزواج ومسحة المرضى، تلك الأسرار هى تعبير حى عن إيماننا الذى يتجدد كل يوم من خلال إحتفالات وإن كانت متنوعة الطقوس لكنها تربطنا فى النهاية بمسيح واحد وإيمان واحد وكنيسة واحدة.
فى بداية هذه السنة وفى ضوء التحديات التى نحياها فى هذة الأيام من إضطرابات سياسية وضغوط إقتصادية وصراعات إجتماعية وتفشى للعنف المادى واللفظى بين عناصر الأمة المصرية، وتصاعد للطائفية وظلال الحكم الدينى، إضافة إلى الأوضاع البالغة السوء فى سائر انحاء المنطقة، تظهر المخاوف الشديدة وترتفع التساؤلات عن الإيمان فى ظل تلك الظروف الأليمة وجدوى مواجهة هذه الأمور الغير معتادة على مجتمعنا المصرى، تدور الحوارات الساخنة فيما بيننا كمصريين وكمسيحيين وبداخل انفسنا مخلفة ارتباكا وتوترا فيهرول الكثيرين بحثا عن الهجرة إلى أماكن أكثر استقرارا ورخاء وعدالة، ويتشائم البعض فى إذعان للأمر الواقع دون النظر لذلك الأمر من زاوية الإيمان التى يجب أن تكون هى اساس مواقفنا كمؤمنين "لأَنَّ البارَّ بِالإِيمانِ يَحْيا" (غل٣:١١).
لا جدال إن الحديث عن الإيمان دون تناول تحديات الإيمان المعاصرة هو حديث يكاد يكون نظرياً وبعيداً عن الواقع لا يجذب الكثيرين لإستكماله، فلا يمكن التأمل فى السفينة التى تحمل المؤمنين بمعزل عن الأمواج الهائجة والرياح العاتيه المحيطه بها من كل الجهات، فكيف نتناول الإيمان فى ايامنا الحاضرة المشتعلة بالأحداث؟ ما المعنى وراء مجابهة كل هذه الآلام والصعوبات، فى الحقيقة لا توجد إجابات سهلة ومباشرة لكننا نؤمن "أنَّ امتِحانَ إِيمانِكم يَلِدُ الثَّبات" (يع ١: ٣) ، إننا كعلمانيين كاثوليك وأنشطة رسولية فى مصر نؤمن بأن الله هو سيد التاريخ، وإننا نمر بمرحلة تاريخية تتبدل فيها أمور كثيرة فى المنطقة والعالم، ونثق بأن شعرة واحدة من رؤوسنا لا تسقط من دون إذن ابينا السماوى وأن الإيمان الصغير كحبة الخردل ينقل الجبال، نحن مؤمنون بأن رسالتنا الآن هى القبول والثبات وحمل الصليب بشكر وأن نكون أكثر من أى وقت مضى علامة لحضور المسيح فى هذا الواقع المرير وشهادة حية له بالأقوال والأعمال والمبادرات المتشربة بروح الإنجيل، نحن قادرون بقوة الله ومحبتة ورعايته وسلطانه الذى وهبنا إياه أن نبدل ونجدد فى مجتمعاتنا الصغيرة والكبيرة بحسب مشيئتة التى تدبر كل شىء لا أن ننجو أو نهرب خوفا من أحداثه "فإِنَّ اللهَ لم يُعطِنا رُوحَ الخَوف، بل رُوحَ القُوَّةِ والمَحبَّةِ والفِطنَة"( ٢تيم ١: ٧)
إننا فى النهاية نرفع عيوننا إلى سيدتنا وملكتنا وشفيعتنا مريم العذراء، أم الله وأم الكنيسة التى تطوبها جميع الأجيال، لأنها "آمنت"( لو ١:٤٥ ) التى مازالت تواصل دورها الأمومى نحو جسد المسيح السرى على الأرض طالبين منها أن تقودنا فى هذه الأيام العصيبة وتكون لنا مثالا فى الإيمان والثبات وترفع أنظارنا وارواحنا إلى مخلصنا وفادينا إبنها الإلهى يسوع المسيح حتى نصل إلى مرفأ الأمان بحسب مشيئة الآب آمين.
…و إلى أن نلتقى فى الأشهر القادمة
اللجنة الأسقفية
للعلمانيين و الأنشطة الرسولية