سنة الإيمان: رسالة يناير 2013

فَلا تتَراخَوا، بل تَقتَدونَ بالَّذينَ بالإِيمانِ والصَّبْرِ يَرِثُونَ المَواعيد. عب ٦: ١٢

 

فى هذة الأيام المقدسة التى نحتفل فيها بعيد ميلاد يسوع المسيح وكذلك معموديته على يد يوحنا المعمدان لا يفوتنا أن نتوقف لنتأمل فى نماذج فائقة للإيمان لنفهم ونتعلم ونحيا فى نوره بفكر وقلب جديدين.

مريم العذراء:

كانت مريم فى وقت البشارة فتاة صغيرة فى العقد الثانى من العمر تحيا فى مجتمع دينى متشدد وأيضا تحت الإحتلال الرومانى، ليس لها شىء مما عرفته الكنيسة واكتسبته على مدار قرون من التأمل والإكتشاف لسر التجسد والفداء، لم يكن لها سوى معرفة روحية عميقة بكنوز العهد القديم الروحية وصلاة القلب وفضائل إلهية فائقة رصع بها القدير نفسها الطاهرة، لا يسعنا الوقت أو المساحة لإدراك بعضها لكن الذى يتجلى ويتلألأ منها أكثر فى ذلك الزمان هو فضيلة الإيمـــــان.

لقد كانت مريم على ثقة وإيمان يفوق الجميع، آمنت بوعود الله بتدبير الخلاص للبشر إيماناً يحقق الوعد فصارت هى بذاتها أداة الله لتحقيق وعوده ومشيئته وقبلت التنازل عما نتمسك به جميعنا وهو حق تقرير مصيرها الشخصى طيلة حياتها مقابل الطاعة لله "فقالت مريم هوذا انا امة الرب.ليكن لي كقولك." لو ١: ٣٨، "والكلمة صار بشرا وحل بيننا" يو ١: ١٤، صار الكلمة الإلهى وليداً بشرياً ضعيفاً بين يديها ورأينا مجده، فكان الميلاد شاهدا على أمانة الله ومحبته وعظم إيمان حواء الجديدة.

هنا نراجع كتاب التعليم المسيحى للكنيسة الكاثوليكية، فقرة ١٤٩ عن سيدتنا مريم العذراء: "مدة حياتها كلها، وحتى محنتها الأخيرة، عندما مات يسوع ابنها على الصليب، لم يتزعزع إيمانها. لم تبرح مريم مؤمنة بأن كلام الله سيتم. ولهذا تكرم الكنيسة فى مريم أصفى تحقيق للإيمان."

لا ننسى أيضا دور مريم فى ايماننا الشخصى بيسوع المسيح من خلال شهادتها عن قصة ميلاد يوحنا المعمد و بشارة الملاك لها وزيارة اليصابات وأحداث ميلاد يسوع ووجوده فى الهيكل التى سجلها لوقا الإنجيلى بصورة واضحة "اذ قد تتبعت كل شيء من الاول بتدقيق" لو ١: ٣ وتلك الشهادة تمثل ركنا أساسياً فى إيماننا المسيحى، فبدونها يصير الإنجيل محط التساؤل والتشكيك.

يوسف النجار:

نموذج فريد لحياة الإيمان يحملنا على التأمل، فعندما ظهر له الملاك فى رؤيا يطلب منه ألا يتردد فى رعاية مريم وجنينها الإلهى لم يشك أو يتردد أو يعترض، لم يشترط أو يجادل بل أنطلق مباشرة بعد الحلم لينفذ مشيئة الله دون إبطاء، لم يحتاج أن يبقى صامتا بأمر من الملاك مثل زكريا الكاهن حتى يرى عمل الله يتم، فقد كان صامتا متأملاً بالفعل وأدرك وآمن لوقته بدعوة الله له ان يكون حارساً وراعياً للكلمة المتجسد وأمه قبل وأثناء وبعد الميلاد، فى رحلة الهرب إلى مصر والترحال المستمر بها الذى تباركت به بلادنا الحبيبة ثم العودة إلى أرض إسرائيل والإلتزام فى رعاية العائلة المقدسة بعد ذلك حتى انتقاله السعيد بين يدى يسوع ومريم.

لقد وضع حياته كلها لطاعة الإيمان دون أن يطلب لنفسه أى شىء، لم يطلب أى حقوق شخصية، بل قبل بإيمان وسرور حياة التكريس والألم فى خدمة ذاك الذى اختاره كجزء من تدبيره الإلهى للخلاص وأكمل عمله بحسب مشيئة الله فى صمت ووداعة ملائكية محتملا كل الآلام  وصار مثالا للرجولة فى الإيمان التى يعتمد عليها الله لتتميم مقاصده. إن اختيارات الله للمؤمنين الذين يقومون بعمله على الأرض يساعدنا على اكتشاف فكر الله الذى يَعسَرَ إِدراكَ أَحكامِه وتَبيُّنَ طُرُقِه. روم١١:٣٣

يوحنا المعمدان: "لأَنَّه سيَكونُ عَظيماً أَمامَ الرَّبّ" لو١: ١٥

ذلك الشاب القديس صار آنية مقدسة للرب منذ أن كان جنيناً فى بطن أمه اليصابات، وحل عليه الروح القدس مصاحباً لسلام سيدتنا مريم العذراء كما أنه ولد على يديها الطاهرتين وتربى على الإيمان من أبويه البارين وعندما حان الوقت بالإيمان انتقل إلى البرارى يحيا حياة التجرد والقداسة إستعداداً لبدء رسالته، بالإيمان بدأ يعلم بالمثل الصالح والكلمة ويقود الناس إلى التوبة والإستقامة، صار صوته يصرخ فى الضمائر بأن يحيوا حياة مثمرة تليق بالتوبة… حياة الإيمان، أن يتوقفوا عن الطمع والأنانية والوشاية، أن يتحلوا بالأمانة والعدل والقناعة، بالإيمان صرخ فى وجه الحاكم موبخا على الشر الفاضح الذى يصنعه بطريقة قد نراها بمعاييرنا تهوراً واندفاعاً… لقد ثبت يوحنا حتى اللحظة الأخيرة، لحظة الإستشهاد، تاركا لنا نموذجاً متوهجاً للإيمان فاستحق أن يعلنه السيد المسيح له المجد كأعظم مواليد النساء. لو٧: ٢٨

بعد أن تأملنا سريعا فى إيمان مريم ويوسف ويوحنا يجب أن ندخل إلى أنفسنا لنراجعها ..

هل نحيا إيمان مريم القادر على تجسيد يسوع فى حياتنا البشرية فيصير حياً فينا؟ هل نستطيع أن نجعله يتكلم على ألسنتنا ويصنع اعماله على ايدينا؟ فنهتف مع بولس الرسول: "فما أَنا أَحْيا بَعدَ ذلِك، بلِ المسيحُ يَحْيا فِيَّ." غل ٢:٢٠

هل لنا إيمان شبيه بإيمان يوسف البار يكفى لكى يعتمد القدير علينا لرعاية وحماية أعماله ومشاريعه المقدسة فى الحياة والمجتمع والكنيسة أم نصير أحياناً سبباً فى هدمها وإجهاضها..؟

هل نملك إيمان يوحنا المعمدان فى التجرد وإعلان الحق، فى الدعوة للحياة الأخلاقية المستقيمة، فى المطالبة بالعدالة ومواجهة خطايا المجتمع وتجاوزات القادة؟

لابد من مصارحة النفس بالحقيقة فى تلك الأيام المضطربة … نحن لا نملك إلا أقل القليل من هذا الإيمان، لقد حمل آخرين لواء إعلان الحق بصورة أو بأخرى ضد شرور المجتمع وخطاياه وظلمه وتجاوزات من هم بالسلطة، هؤلاء الآخرين للأسف الشديد  غالبيتهم ينظرون للأديان وللإيمانيات نظرة مملوءة بالشك والتحفظ ربما بسبب حيادنا المدهش امام الشر والظلم فى المجتمع، فالحقيقة أن غالبيتنا لا يثور إلا ضد ما يهددنا فقط، فأصبح الإيمان متهماً نتيجة لإيماننا اللفظى النظرى المنغلق.

لنتذكر "أَنَّ الإِيمانَ مِن غَيرِ أَعمالٍ شَيءٌ عَقيم؟" يع ٢: ٢٠، ونقتدى بذاك الإيمان الذى تأملنا فيه ولنلجأ إلى يسوع القادر أن يحول الأفكار الصالحة إلى أفعال، والعواطف إلى طاقة، والإستعداد إلى إقدام، كما حوَل الماء إلى خمر فى عرس قانا الجليل بتضرعات أمنا العذراء الطاهرة، وإذا اصطدمنا بضعفنا فلنصرخ له مع والد الصبى ذى الرُوحٌ الأَبكَم، الذى حَيثُما أَخذَه يَصرَعُه:

"آمنتُ،…. فشَدِّدْ إِيمانيَ الضَّعيف" مر٩: ٢٤

اللجنة الأسقفية للعلمانيين والأنشطة الرسولية