خلق الإنسان بين نظرية التطوّر والكتاب المقدس

حمل الملف بوربوينت من هنا

أولا: مفاهيم أساسية:

الكتاب المقدس هو كتاب دين، أي أن الهدف منه ليس هدفاً علمياً ولا فلسفياً ولا تاريخياً. لذلك فهو لا يحاول أن يشبع فضولنا في شرح الحقائق العلمية وفي كشف الأسرار المخفية. والمقصود بأنه كتاب دين هو أنه كُتب لكي يحدّثنا عن العلاقة بين الإنسان والله، وبين الإنسان وأخيه الإنسان، وبين الإنسان والكون…، وعن مصير الإنسان النهائي، فهدفه هو "لماذا" خُلقت الأشياء والإنسان والكون. أمّا العِلم فهو يبحث عن "كيف" خُلقت وكيف تكوّنت الأشياء والإنسان والكون، ومن ثَمَّ فلكل منهما مجاله الخاص فالعلم لا يستطيع أن يدعي وجود أو عدم وجود الله، لأن الله خارج مجاله، وكذلك الدين لا يستطيع أن يدعي بأننا لسنا في حاجة إلى العلم، لأن الإنسان في حاجة دائمة إلى معرفة: لماذا؟ وكيف؟، وإلا أضحت معرفته عرجاء ناقصة.

3.   إن التفسير الحرفي للكتاب المقدس يتنافى مع روح الكتاب المقدس، ويحرمنا من الفهم العميق له، والكتاب ذاته يقول: "الذي جعلنا كفاة لأن نكون خدّام عهد جديد لا الحرف بل الروح، لان الحرف يقتل ولكن الروح يحيي" (2كو3 :6). ولم يكن المسيح قاسياً ومُعَنْفاً بقدر ما كان مع الكتبة والفريسين الذين فسروا الكتاب تفسيراً حرفياً، فبدلاً من أن يعلنوا الرحمة والحق أعلنوا العقاب والدينونة… ونحن، أبناء كنيسة الإسكندرية، يجب ألاَّ ننسى أن كنيسة الإسكندرية هي تلك الكنيسة الَّتي تميزت بالتفسير الرمزي للكتاب المقدس (حتى ولو تغير ذلك الآن)، وكان في ذلك سر تفوقها المدهش في الكتاب المقدس.

4.   قصة الخلق الَّتي نحن بصددها، هي قصة أراد الكاتب المقدس أن يؤكد من خلالها ما لا يمكن لإنسان أن يصل إليها بنفسه، أي ما لم يعضده ويرشده روح الله (الوحي والإلهام)، هذه الحقائق هي:

× إن الله هو الخالق، وذلك إعلان جديدة كلّ الجدّة، لم يكتشفه أحد قبل الديانة اليهوديّة.

× إن كلّ المخلوقات خرجت من الله وخُلقت به وخُلقت له.

× إن الإنسان هو قمة المخلوقات وسيدها، لأنه مميز عن سائر المخلوقات بالعقل والحرية.

× إن الإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله أي أن به شيئاً وطوقا وشوقا نحو ما هو الهي، وبعبارة أخرى أن راحة الإنسان العظمى (الفردوس) يكمن في قربه من مصدره، وفي علاقته بالله، "خلقتنا يا الله وقلوبنا قلقة ولن تستريح إلَّا فيكَ".

  ×  إن الشر دخيل على الطبيعة الإنسانية، وهو نتيجة للحرية الَّتي وهبها الله للإنسان، والتي أساء الإنسان استخدامها.

  ×  إن الإنسان لا يستطيع أن يحيا وحيداً، فالرجل والمرأة متساويين لا يستطيع أحدهما الاستغناء عن الآخر.

 ×  إن الخطيئة هي انفصال بين الإنسان وأخيه الإنسان، وبينه وبين الطبيعة، وبينه وبين خالقه، أي أن الخطيئة هي الانشقاق الأعظم والشقاء الأعظم.

وخلاصة القول أن الكاتب المقدس صاغ كلّ هذه الحقائق في شكل وأسلوب أدبي يُطلق عليه أسلوب القصة، تماما كأسلوب المسيح عندما كان يريد أن يوصل حقائق معينة فيستعين بالأمثال (مثل الكرامين القتلة، الزارع…)، وما يؤكد ذلك هو:

  ×  إن لا أحد عاصر أحداث الخلق ليكتب عنها.

 ×  إن هناك قصتين للخلق الأول في الإصحاح الأول (الله يخلق بالكلمة، كن فيكون) والثانية في الثاني (الله يخلق بذاته، أي يتدخل بيديه وفمه…).

ثانياً: نظرية التطوّر كما يقدمها العلم الحديث:

إن العلم الحديث يؤكد أن "كلّ الكون" قد مرَّ بمراحل تطور، بدأت هذه المراحل منذ قرابة 15 مليار سنة، وكانت كالآتي:

قبل 15 مليار سنة كان الكون عبارة عن ذرات خفيّة من الهيدروجين والهليوم. أخذت هذه الذرات في التعقد إلى أن برزت ذرات أثقل من الأولى[1][1]، ثم تجمعت هذه الذرات الأثقل لتكوّن الجزيئات، وكان السير من الذرات الأثقل إلى الجزيئات هو سير نحو التعقد والتكثيف. وكما جمعت الذرة حولها الإلكترونيات جمعت الجزئية حولها الذرات، لتشملها في بنية جديدة.

ثم منذ 3 مليارات سنة بدأت تظهر بُنيات تفوق الجزيئات من حيث الكثافة، سميت بالجزيئات الكبرى Mocromolécules ، هذه الجزئيات الكبرى جمعت حولها الجزيئات الصغرى والذرات بصورة أكثر تعقيداً وكثافة ونظاماً. وكان ظهور الجزيئات الكبرى هو تمهيد للقفزة الكبرى الَّتي تمت منذ 2 مليار سنة وهي بروز الخلية الحية الأولى. والخلية الحيّة هي طفرة نوعيّة وليس كميّة، لأنها شيء معقد غاية التعقيد، فرغم حجمه الَّذي لا يري بالعين المجردة، تجمع داخلها تركيب متناسق من الذرات والجزيئات والبروتيدات والشحميات والسكريات والبروتينيات في وحدة متماسكة، وبعبارة أخرى الخلية عالم صغير من حيث الحجم هائل من حيث التعقيد === قفزة نوعيّة أو طفرة: من المادة إلى الحياة.

وأخذت الخلية الواحدة تتعقد وترتقي عبر زمان طويل إلى أن ظهرت كائنات أخرى متعددة الخلايا، وكما كانت الخليّة الواحدة تجمع عناصرها المختلفة والمتعددة في بنية واحدة منظمة ومركزة؛ هكذا جمعت الكائنات متعددة الخلايا خلاياها في وحدة منسجمة تعمل فيها كلّ العناصر لصالح بعضها البعض، ولصالح الكل.

وقد ازداد التعقيد عندما أخذت الخلايا في الكائن الواحد تتخصص فئات موحدة، لكل فئة وظيفة خاصة به. فتكوّنت الأجهزة (كالجهاز الدموي، والهضمي، والتنفسي…) وبقيت هذه الأجهزة رغم اختلافها وتميزها مرتبطة ارتباطاً متيناً أحدها بالأخر، عاملة معاً بانسجام بديع لصالح الكل.

ورويداً رويداً، بدأ يظهر الجهاز الَّذي يعمل على ربط كلّ هذه الأجهزة ببعضها البعض من ناحية، وبالعالم الخارجي من ناحية أخرى، فبرز الجهاز العصبي. وقد صار هذا الجهاز بدوره في مسيرة التعقيد والتكثيف والتركيز إلى أن بدأت تتكون وتنمو "الدماغ" (مركز الجهاز العصبي)، ومع تكوين الدماغ تزايد الارتباط بين الخلايا المختلفة في الجسد الواحد وبين كلّ الجسد والعالم الخارجي. ونتج عن نمو الجهاز العصبي استقلال متزايد، ووعي متزايد، وسيطرة متزايدة سواء في الجسد الواحد، أو بين الجسد والعالم الخارجي.

ومع تزايد الاستقلال والوعي والسيطرة بدأت تظهر الكائنات الحيوانية، الَّتي هي الأخرى مرت بمراحل تعقد وتكثيف إلى أن وصلت للإنسان قمة الخليقة وتاجها. وهو قمة الخليقة وتاجها لأنه الكائن الَّذي استطاع أن يعي الخليقة ويعرف ويميز بين كونه جزءً منها وبين كونه يتعداها، بين كونه خاضع للظروف وبين كونه متحكم فيها…

وخلاصة القول أن الكون كله مرّ بمراحل تطوّر بداية من الذرات الخفية للهيدروجين والهليوم، مروراً بالذرة ثم بالجزيء، ثم الجزيئات الكبرى، ثم الخلية الواحد، ثم الخلايا المتعددة ثم الجهاز العصبي، ثم الجهاز العصبي المعقد، ثم الحيوان، وأخيرا الإنسان (الَّذي هو أيضاً بدوره مرّ بمراحل تتطور). والسؤال الَّذي يطرح نفسه الآن: أين الله من كلّ ذلك؟ وكيف نفهم ما جاء في الكتاب المقدس على ضوء هذه النظرية العلمية؟…

ثالثاً: مقتضيات أو أسباب التطوّر

أمام تلك اللوحة الرائعة لتطوّر الكون ـ كما يُمكننا أن نتصوّره الآن على ضوء معطيات العلم الحديث، والتي قد تكشف لنا في المستقبل أشياء أخرى للآن لم نعرفها ـ ننتقل الآن من الوصف إلى التساؤل: ما هي أسباب ومقتضيات هذا التطور؟ أو كيف تمّ هذا التطوّر؟ فالعلم يصف لنا من خلال هذه النظرية خطاً تصاعدياً، ويظهر كيف أن المادة سلكت هذا الخط، ولكن العلم يقف عند حدود الوصف لهذا الارتقاء، ولا يبدي، ولا يستطيع أن يبدي، لماذا انتظمت هذه الحلقات في خط تصاعدي. وبعبارة أخرى: يعرض العلم كيفية التطور، تاركاً باب "أل لماذا" مفتوحاً على ذراعيه. والحقيقة أن هناك عدة نظريات حاولت الإجابة على التساؤل: لماذا الخط التصاعدي للتطوّر؟، نذكر منها:

1- نظرية الصدفة:

يدعي أصحاب هذه النظرية أن هذا التصاعد تمّ عن طريق الصدفة، بمعنى أن الصدفة هي الَّتي جمعت الذرات بالجزيئات، والجزيئات بغيرها… إلى أن ظهرت الخلية ثم الإنسان. إلَّا أن العلم ذاته أكد على استحالة هذه النظرية، لأن تحليل الكائنات ذات الخلية الواحد أوضح أن تلك الكائنات هي معقدة تعقيداً شديداً بحيث يستحيل أن يكون تجمعها تمّ عن طريق الصدفة البحتة.

فإذا كان ظهور خلية واحدة بداعي الصدفة أمراً مستحيلاً علمياً، فكيف نفسر ظهور مليارات من الخلايا؟ وكيف نفسر، بمجرد فعل الصدفة، تدرج الحياة المتواصل نحو أشكال أرقى وأرقي؟ وكيف ننسب لهذه الصدفة هذا الاستمرار والترتيب والدقة المتناهية، فقانون الصدفة هو عدم القانون، ونظامها هو عدم النظام؟!

وأخيراً، يتضح جلياً أن من ينادي بنظرية الصدفة لا يستطيع أن يبررها. لأنه كمنْ يدعي بأن الصدفة أوجدت أوّلاً أحرفاً، ثم بمجرد الصدفة اصطفت هذه الأحرف فكوّنت كلمة، وبمجرد الصدفة انجذبت هذه الكلمة لكلمة أخرى فكوّنت عبارة، وبمحض الصدفة تجمعت العبارات فكوّنت صفحات واصطفت الصفحات فكوّنت كتاباً، أو بحثاً علميّاً أو قصيدة شعرية… ولكن كمْ أن الإنسان أكثر تعقيداً وتناغماً من أي بحث علمي أو قصيدة أو كتاب؟. إننا نفترض بذلك أن الصدفة تسير بموجب خطة منسقة تتنافى مع طبيعتها. فالصدفة هي تحديد أعمى، غير مرتبط أو مترابط، يهدم ما قد كوّنه، كما تفصل هبة ريح بين ورقتين اتفق أن جمعتهما على الأرض هبة ريح سابقة.

2- نظرية "الناموس الطبيعي":

إن نظرية الصدفة لم تثبت أمام المعطيات العلميّة الَّتي كشفها العلم، وكان يجب الاستعاضة عنها بنظرية أخرى، فظهرت نظرية "الناموس الطبيعي"، هذه النظرية الَّتي تدعي أن طبيعة المادة كانت تحتم عليها أن تسلك الطريق التصاعدي الَّذي سلكته. أي أن المادة ذات طبيعة "ديالكتيكية" تتجاوز ذاتها باستمرار.

وهذه النظرية مغرية بادئ الأمر لأنه تؤكد أن التطور نبع من المادة دون تدخل خارجي مما يؤكد نظرية التطوّر. إلَّا أن السؤال ما زال مطروحاً: التطوّر يتمّ بفعل النواميس الطبيعية، ولكن كيف لهذه النواميس أن ترتب ذاتها بطريقة تصاعدية، أي كيف تعطي ذاتها النمط التصاعدي الَّذي نراه في التطوّر؟ وما هو سر ترتيبها تصاعدياً؟ وما الَّذي يفسر عقلانية مسيرتها نحو أشكال أرقى فأرقى؟ تلك العقلانية الَّتي تفترض فكراً!!! فما هو هذا الفكر؟ وهل هو فكر المادة؟ وهل نظمت المادة ذاتها لتسير عبر مليارات من السنين في خط تطوّري تصاعدي؟ ولكن أن تنظم المادة ذاتها "الناموس الذاتي"، يعني أن لها ذات، أي فكر، وفي ذلك تناقض مع طبيعة المادة كجماد، لا فكر له.

فلكي تنظم المادة ذاتها بهذا الشكل المذهل نكون قد نسبنا إليها فكراً يعلو على الفكر البشري، لأننا حتى الآن بكل ما نملك من تقدم لا تستطيع عمل خلية واحدة. وبعبارة أخرى نكون قد نسبنا إليها فكراً إلهياً. ومادة مؤلهة كهذه ليست هي المادة الَّتي يعرفها العلم ويسخرها لخدمة الإنسان… تأليه المادة هو نكوص إلى الفكر الوثني، ذلك الفكر الَّذي أله الكون والمخلوقات… لقد بدد الإعلان اليهودي والمسيحي هذه الأوهام، فمهد بذلك الطريق إلى العلم إذ فتح أمامه مجال الدراسة الموضوعية للكائنات المادية والسيطرة عليها بعد أن جردها من صفاتها الخارقة والإلهية الَّتي تنسبها إليها نظرية "الناموس الطبيعي"…

وخلاصة القول: إن ننسب للمادة مقدرة تنظيمية هائلة، مقدرة تجعلها تنطلق من الجماد (أي اللاحياة) إلى الخلية (أي الحياة)، من تلقاء ذاتها، هو تقهقر يضرب عرض الحائط بالعلم وبمكاسب الإعلان اليهودي والمسيحي… وهو عودة إلى الوثنية الَّتي وصفها أرميا بقوله: "يقولون للخشب أنت أبي وللحجر أنت ولدتني" (2/27). أما المؤمن فإنه لا ينسب للمادة فكراً منظماً، بل ينسبه إلى خالق تلك المادة، إلى الكائن الَّذي هو متعال كلية عن المادة، إلى الكائن الَّذي يمكنه وحده أن يرسم لتلك المادة الغاشمة ذلك الخط التصاعدي. هذا هو الإيمان، والذي بحسب مقتضيات العلم أكثر قبولاً من نظرية الصدفة أو الناموس الذاتي، لأن العلم ذاته يؤكد أن هناك فكراً يفوق المادة، هو الَّذي نظم المادة وقادها عبر ذلك الخط التصاعدي. إلَّا أن العلم لا يستطيع أن يقول أن هذا الفكر هو الله؛ لأن ذلك خارج عن مجاله وعن نطاقه…

 

رابعاً: نظرية التطور بين العلم والإيمان:

حين نقارن بين نظرية التطور وقصة الخلق، يساورنا الشك والتساؤل حول أهمية وجود إله خالق، مادامت الأحداث تتم بطريقة تلقائية، ذاتية، دون تدخل خارجي!!! لدرجة أن نظرية التطوّر هدمت وزلزلت إيمان كثيرين وقادتهم إلى إنكار وجود الله، غير أن التبصر والتعمق في هذه النظرية يقودنا إلى فهم أعمق لسر الله، ولسر الخلق. وقد جاء الوقت الَّذي يجب فيه أن نتطهر من مفاهيمنا الطفولية المشوهة عن الله وعن الخلق. وقبل التعرض لما توضحه نظرية التطور من عمق إيماني يجب أوّلاً التركيز على الآتي:

     ×    لا يستطيع العلم أن ينفي أو يثبت وجود الله. فموضوع الله لا يدخل أبداً، ولا يمكن أن يدخل، في اختصاص العلم، لأنه موضوع يفوق العلم.

     ×    لا يجوز أن نتوقع أن الله تدخل تدخلاً حسيّاً في عملية الخلق، بمعنى أن تصور الله كعامل يأخذ الطين ويعجنه… لأن ذلك إسقاط بشري على الله. فالله هو ما لا يمكن لعقلنا أن يتصوره، وهو ليس بإنسان أي ليس له يدين وفم… لأنه روح، وعملية الخلق هي إعجاز لأنها تبدأ من الجماد لتصل إلى الروح، ومن ثَمَّ هي عمليّة روحية.

     ×    وصف الكتاب المقدس لعملية الخلق هو وصف مجازي وليس حرفي، لأن الله لم يراه أحد قط، ولا يستطيع أحد أن يراه ويعيش…

 

1- معنى كلمة "خلق":

إن نظرية التطور تؤكد أن التطور تم عن طريق الكائنات ذاتها، ولم يأتي عن طريق شيء خارج عنها. بمعنى آخر، الخلق هو خلق ذاتي. وذلك لا يتنافى مع إيماننا بأن الله أراد أن يشرك المخلوقات في عملية الخلق، بمعنى أنه كان هو السبب الأول والمخلوقات هي السبب الثاني[1][2]. والآن سنتناول معنى كلمة خلق، انطلاقا من الكتاب المقدس:

أ ) الخلق هو إيجاد من العدم.

وهذا ما يميز الخلق عن الصنع، فكلمة خلق تعني أخرج من اللاوجود وجود، ومن العدم شيئاً (وكلمة عدم لا تعني أن هناك مادة اسمه "عدم" بل تعني اللاشيء واللاوجود).

ب) الخلق هو فعل حب:

الله لم يوجد شيئاً إلَّا لأنه أراده ("أنا صنعت الأرض وخلقت الإنسان عليها يداي أنا نشرتا السماوات وكل جندها لأني أنا أمرت" إش 45 : 12، فلا شيء موجود إلَّا لأنه أراده: "فان لك الأفعال الأولى وأنت قدرت بعضها في عقب بعض وما أردته كان" يهو9 : 4) ولأنه أراده يعني أنه أحبه. أنا موجود تعني أنا محبوب. فالخلق هو، بالنسبة لله، هو فعل حب. وبعبارة أخر، كلّ شيء مخلوق، هو شيء مرغوب، الله يرغب في هذا الشيء لأنه يحبه. فلا يمكن تفسير وجودنا إلَّا عن طريق ذلك الحب الإلهي.

   ×    مزمور104"ما اعظم أعمالك يا رب كلها بحكمة صنعت ملآنة الأرض من غناك هذا البحر الكبير الواسع الأطراف هناك دبابات بلا عدد صغار حيوان مع كبار هناك تجري السفن لوياثان هذا خلقته ليلعب فيه كلها إياك تترجى لترزقها قوتها في حينه تعطيها فتلتقط تفتح يدك فتشبع خيرا تحجب وجهك فترتاع تنزع أرواحها فتموت وإلى ترابها تعود ترسل روحك فتخلق وتجدد وجه العرض".

ج) الخلق هو فعل مستمر:

لا يعني الخلق إخراج شيئاً من العدم إلى الوجود فقط، بل يعني الاستمرار في هذا الإخراج. فالخلق لم يكن فعلاً قام به الله منذ ملايين السنين وانتهى، بل هو فعل مستمر له بداية وليس له نهاية، فأنا موجود الآن لأن الله لا زال يريدني ولا زال يخلقني، وبعبارة أدق لا زال يحبني، فالحب والخلق وجهان لعملة واحدة.

 

خامساً: دور الله في عملية الخلق، أو نظرية التطوّر:

هناك قاعدة أساسية تؤكد أنه ليس هناك شيء إلَّا وهناك من أوجده، (مثل اللوحة… مثل المصنع الَّذي يعمل الآن وحده، ولكننا نستنتج أن لم يكن كذلك قديماً…).

 قد يظهر من عملية الخلق أو التطور أن الله غائب وغير موجود، وأن الأحداث تمشي بطريقة آلية… وهنا تظهر عظمة الخالق الإلهي، الَّذي أراد أن يبدع هذا الخلق البديع، دون أن يظهر… فالله هو كالمهندس الَّذي صمم المصنع الآلي، قد لا يظهر لمن لا يعرفه، إلَّا أن المصنع يعمل بحسب الخطة الَّتي وضعها هو له… وهو كالمخرج القدير الَّذي أخرج فلماً رائعاً، نحن نشاهده ولا نرى أحد ينفذه. والمتفرج الجاهل هو ذاك الَّذي لا يرى أهمية للمخرج مادام لا يظهر خلال أحداث الفيلم ظهوراً ملموساً.

موقف الكنيسة من موضوع نظرية التطور والمصمم العاقل

باختصار وصريح العبارة ان الكنيسة الكاثوليكية لا تعترف بالصيغة التي تفسر وجود الحياة والنظام والوعي ودرجة التطور الذي وصلها الإنسان عن طريق الصدفة، لا باس بان بعض آباء اللاهوتيين يقبلون بجزء من نظرية التطور ولكنهم في نفس الوقت يؤمنون بان كل شيء حدث في هذه الكون بإرادة الله وحسب تخطيطه. حتى وان كانت الحياة قد تطورت من خلية الواحدة. لا باس في صيغة المصمم العاقل بأنها تشير إلى وجود قوة خارج هذا العالم (الزمن والفضاء).

آراء البابا بندكتوس السادس عشر في نظرية التطور

يبدأ البابا بندكتوس محاضرته في جامعة السوربون عام 1999 وأجزاء منها موجودة في كتابه ( Truth and Tolerance) بتاريخ المعرفة الإنسانية ودور مفكري الكنيسة في عملية الفصل بين  الفكر الروحي والميتافيزيقي والفكر المبني على علوم الطبيعية).

ينتقد بشدة أصحاب الرأي المبني على علوم الطبيعة والذين اتخذوا من فكرة نظرية التطور كأساس لزعمهم  عن كشف  كل الحقيقة وكأنها نتائج مسلمة لا تقبل الجدال، دون إعطاء مجال أمام آراء بقية علوم أو الدخول في مناقشة أفكارهم وآرائهم.

من الأفضل أن تبقى الفكرة المسيحية عن الله غير علمية، يقول البابا لم يعد هناك اعتراف بوجود الله كما هو موجود في المسيحية.

لا يمكن أن نتجاهل موضوع الجدال بين المعسكرين المعارضين والمؤيدين لهذه النظرية، و لا يمكن أن نسلم بنظرية التطور كمبدأ فلسفي أو فكري كأساس لتفسير وجود الحياة. ولا يمكن إهمال فكرة  The positive Method التي هي الأكثر قبولا والتي هي وحدها تشير  إلى نظام المعرفة والعقلانية إذن النقاش هنا يجب أن يجري بالموضوعية والأرادة الحسنة للبحث عن الحقيقة.

لا يمكن لأحد أن يتغاضى عن الشك في صحة نظرية التطور، ويسأل عن براهين علمية عن كيفية تطور الخلايا الأولية Micro-evolutionary process  إلى مظاهر الحياة في الوقت الحاضر.

كيف انتقلت أو تحولت الحياة من خلايا صغيرة حجمها 1/1000000 إلى حيوان ضخم مثل الفيل أو الإنسان ذو عقل متطور؟؟؟

وهل من المعقول أن يؤدي فعل لاعقلاني إلى إنتاج موضوع ما يحتاج إلى وجود فعل عقلاني أو فكري؟؟!!

هذا الموضوع لم يعد يقبل الجدال لانه خارج المنطق؟

وبالتالي ففكرة المسيحية عن الله صحيحة: كل شيء يعود إلى القوة الخالقة العاقلة… وحتى الفلسفة تجد نفسها محدودة الإمكانية كي تصل هذه النتيجة أحيانا … إذن لم تعد العلوم الطبيعية وحدها من يحدد النتيجة لأنه لا يمكن  للفكر ان يقدم اللاعقلانية على العقلانية …

ان فكر العقلاني ليس تماما كفكر الذي يجري في عمليات الرياضيات قثط  وانما حب خالق و عطف علينا وقبوله الالام من اجلنا هو الأمر الذي يجب نبحثه. إن الفكر الديني للكون، الذي يبجل ويستنير قوة الخالق وموضوع وجوده وموضوع سر الفداء يندمجون معا ليصبح موضوع واحد. فلا يحتاج إلا لبرهان واحد.

أي نظرية أو اي فكر يعجز عن توضيح معنى وجود الاخلاق في المجتمع الإنساني يكون باطل . في الحقيقة ان نظرية التطور عاجزة لحد الان عن ايجاد معنى لوجود الاخلاق  والضمير والعاطفة لدى الإنسان…

الخلاصة

وبهذا الشرح يتضح لنا أن نظرية التطور ليست هدماً للإيمان الحقيقي، بل هدماً لتصورات خاطئة عن الله وعن الخلق. ليست برهاناً ضد التسامي الإلهي، بل تأكيداً لذلك التسامي، تأكيداً على كون الله هو ذاك المتعالي كلياً والموجود جذرياً، ذاك المختفي تماماً والحاضر كلياً، ذاك الَّذي تعجز تصوراتنا عن وصفه لكون خارج الزمان والمكان، أي خارج حدود إدراكنا[1][3]. ولهذا يخاطب سفر الرؤيا، أخر أسفار الكتاب المقدس، الله قائلاً: "أنت مستحق أيها الرب أن تأخذ المجد و الكرامة و القدرة لأنك أنت خلقت كل الأشياء و هي بإرادتك كائنة و خلقت"(رؤ 4 : 11)

وهنا أود أن أختم بعبارتين الأولى من الكتاب المقدس والثانية لداروين:

1- إن جميع الذين لم يعرفوا الله هم حمقى من طبعهم لم يقدروا أن يعلموا الكائن من الخيرات المنظورة ولم يتأملوا المصنوعات حتى يعرفوا صانعها  (حك 13 : 1)

2- "إنني كلما ازددت بحثاً في ظواهر هذا الوجود أستطيع أن أؤكد استحالة أن يكون العالم ونفوسنا، قد ظهرت عن طريق الصدفة. وبهذا أستطيع أن أؤكد حتمية وجود الله" داروين.

الأب د. يوأنس لحظي جيد

 

 

 أنظر أيضاً: هل الكنيسة أخطأت بشأن نظرية داروين؟

 

مجلة روزاليوسف :     مقال فى صفحة 88 و 89 كتبه د .الانبا يوحنا قلتة بعنوان " الفاتيكان يبرئ نظرية داروين من الكفر و الالحاد"

 

 ملحوظة:

ولد هذا الموضوع كمحاضرة في لقاء الشباب بالمنيا سنة 2000 ثم قمتُ بتطويره معتمدا على كثير من المراجع الأجنبية والعربية ولاسيما على:

–  كتاب الأب هنري بولاد اليسوعي – الإنسان والكون والتطور بين العلم والدين – دار المشرق – بيروت – طبعة أولى 2000

محاضرة البابا بندكتست في جامعة السوربون/فرنسا
–  مقالات اخرى من انترنيت خاصة من
Catholic on line Website
– 
Philosophy 100 Essential Thinkers/ Philip Stokes
  مقالات وافلام من موقع يحي هارون العربية
  اللاهوت العقائدي /كوركيس كرمو
  أصل الانواع /تشارلس دارين

 

—————— 

 [1] ومن الجدير بالذكر أن الذرة هي عالم صغير،  تدور فيه الإلكترونيات حول النواة المركزية، شبيه إلى حد ما، بالنظام الشمسي الَّذي تدور فيه الكواكب حول الشمس

 [2] وهذا ما يتضح في عملية الإنجاب، فخروج طفل للحياة هو خلق يقوم به الله تعالى، ولكن الله لا يريد أن يقوم به وحده فيشرك الأب والأم في هذه المعجزة… معجزة الخلق.

 [3] يتضح كون الله خارج الزمان والمكان من خلال هذا المثل: حين يستقل أحدنا قطاراً من القاهرة إلى الإسكندرية، يقول "أنا الآن في محطة طنطا، في الساعة الخامسة، وقد خرجت من القاهر في الساعة الرابعة، وسوف أصل إلى الإسكندرية الساعة السابعة…"، ولكن نفس الشخص إذا ركب طائرة سوف يرى من فوق الثلاث مدن معا (المكان)، وفي وقت واحد (الزمان)… هذا بالنسبة لنا ونحن لازلنا، وهما ارتفعنا داخل حدود الزمان والمكان، فكم بالأحرى ذاك الذي لا يحده مكان ولا يحده زمان.

 


One thought on “خلق الإنسان بين نظرية التطوّر والكتاب المقدس

  1. مقياس الزمن عند البشر مختلف عن الزمن الألهي – وقت الخلق الألهى كن فيكون لا نعرف زمانها بالقياس البشري ممكن تكون لحظه بشريه أو ملايين السنين بقياس البشر – فالتطور الذى يحدده العلماء بمده زمنيه كبيره – نفس هذه المده يمقياس الآلهى ممكن تكون هى لحظه كن فيكون –

Comments are closed.