1. 1. تستعدّ الكنيسة لاجتياز عتبة الألف الثالث، فيما أبصارها شاخصة نحو سرّ تجسّد ابن الله. لم يسبق أن شعرنا بمثل ما نشعر به الآن من واجب التبنّي لنشيد التسبيح والشكر الذي أطلقه الرسول بقوله: «تبارك إله ربنا يسوع المسيح وأبوه! باركنا في المسيح كلَّ بركةٍ روحيةٍ في السموات، ذلك بأنه اختارنا قبل إنشاء العالم لنكون عنده قديسين بلا عيب في المحبة، وقدّر لنا أن يتبنّانا بيسوع المسيح على ما ارتضته مشيئته […] فأطلعنا على سرّ مشيئته، أي ذلك التدبير الذي ارتضى قضاءه في المسيح ليحقّقه عندما تتم الأزمنة، فيجمع في المسيح كل شيء ممّا في السموات والأرض» (أفس 1، 3-5 و 9-10).
يتبيّن لنا من خلال هذه الكلمات أن تاريخ الخلاص يجد في يسوع المسيح ذروة معناه وكماله، إذ نلنا به جميعاً «نعمة فوق نعمة» (يو 1، 16) وكانت لنا المصالحة مع الآب (راجع رو 5، 10؛ 2 قو 5، 18). ليس ميلاد يسوع المسيح في بيت لحم حدثاً من الأحداث التي يمكن أن يطويها الزمن، فأمامه يقوم التاريخ البشري بأسره، بحيث يستضيء بحضوره حاضرنا ومستقبل العالم. إنه «الحي» (رؤ 1، 18)، «كائن وكان وسيأتي» (رؤ 1، 4). أمامه تجثو كل ركبة، في السماء وعلى الأرض وفي الجحيم، ويعلن كل لسان أنه السيد (راجع فيل 2، 10-11). كل انسان يلتقي بالمسيح يكتشف سرّ حياته[1].
يسوع هو الجديد الحقيقي الذي يفوق انتظار البشريّة كلّه وسيبقى إلى الأبد، على تعاقب الحقب في التاريخ.
إن تجسّد ابن الله والخلاص الذي أتى به بواسطة موته وقيامته هي المقياس الحقيقي في تقويم الواقع الزمني وكل مشروع من شأنه أن يجعل من حياة الإنسان حياة أكثر إنسانيّة.
2. 2. إن اليوبيل الكبير لعام ألفين هو بابنا. لقد تطلّعتُ إلى هذا الاستحقاق، منذ رسالتي الأولى فادي الانسان، وكان في نيّتي أن أُهيّء الضمائر انصياعاً لعمل الروح[2]. سيجري الاحتفال بهذا الحدث، في وقت واحد، في روما وفي جميع الكنائس الخاصة المنتشرة في أصقاع العالم. وسيكون هناك مركزان، إن صحّ التعبير: المدينة التي شاءت العناية أن يقوم فيها كرسي خليفة بطرس، من جهة، والأراضي المقدسة، من جهة أخرى، حيث تأنّس ابن الله، متجسّداً من عذراء اسمها مريم (راجع لو 1، 27). وهكذا سيحتفل باليوبيل، بقدْرٍ واحد من الكرامة والشأن، في كل من روما والأرض التي سُمّيت بحق «مقدّسة»، لأنها شهدت ولادة يسوع وموته. إن هذه الأرض، التي نشأت فيها الجماعة المسيحية الأولى، هي المكان الذي تجلّى فيها الله للبشريّة. وهي الأرض الموعودة التي اتّسم بها تاريخ الشعب اليهودي، والتي يكرّمها المسلمون أيضاً. حبّذا أن يكون هذا اليوبيل حافزاً للقيام بخطوة جديدة إلى الأمام على طريق الحوار ليأتي اليوم الذي نتبادل فيه جميعاً، يهوداً ومسيحيين ومسلمين، قبلة السلام[3].
يُدخلنا الزمن اليوبيلي إلى اللغة الصريحة التي تعتمدها التربية الإلهيّة الخلاصيّة في حمل الإنسان إلى التحوّل الذاتي والتوبة، وهما مبدأ إعادة تأهيله ونهجه، وشرط إعادة اكتشاف ما لا يقوى على بلوغه بقواه الذاتية وحدها، أي الصداقة مع الله ونيل نعمته والحياة الأبديّة، التي وحدها تُلبّي أكثر تطلعات القلب البشري وأعظمها عمقاً.
إن الولوج في الألف الجديد ليشجّع الجماعة المسيحيّة في توسيع نظرتها الإيمانيّة نحو آفاق جديدة في سبيل إعلان ملكوت الله. لا بدّ، في هذه المناسبة الخاصة، من العودة عودةً صادقة وثابتة إلى تعاليم المجمع الفاتيكاني الثاني، وهو الذي حمل معه إضاءة جديدة على ما يختصّ بالتزام الكنيسة الرسالي أزاء ما تواجهه البشارة من مقتضيات حاليّة. أثناء المجمع أدركت الكنيسة ادراكاً شديداً معنى سرّها والمهمة الرسولية التي عهد بها الرب اليها. وهذا الادراك يُلزم جماعة المؤمنين بأن تعيش في العالم وهي تعلم ما ينبغي أن تكون عليه: «وهي بمثابة خميرة وكروح للمجتمع البشري الذي يجب أن يتجدّد في المسيح ويتحوّل إلى أسرة الله»[4]. تلبيةً منها التلبية الفاعلة لهذا الالتزام، عليها أن تحافظ على الوحدة، وأن تعمل على تنمية حياة الشركة فيها[5]. إن دنوّ موعد الحدث ليشكّل حافزاً حسناً في هذا الشأن.
إن مسيرة المؤمنين نحو الألف الثالث لا توجس مطلقاً التعب الذي قد ينطوي عليه عبء الفي سنة من التاريخ، بل يشعر المسيحيون، بالأحرى، بتجدّد العزيمة، عندما يفكّرون أنهم يحملون إلى العالم النور الحقيقي، المسيح السيد. عندما تبشّر الكنيسة بيسوع الناصري إلهاً حقيقياً وإنساناً كاملاً، فإنها تفتح المجال أمام كل إنسان لكي يكون «مألوهاً» فيكون، بالتالي، أكثر انسانيّة[6]. هذا هو السبيل الوحيد الذي به يستطيع العالم أن يكتشف دعوته السامية التي هو مدعو إليها، وأن يحقّقها في الخلاص الذي أنجزه الله.
3. 3. في هذه السنوات التمهيدية المباشرة لليوبيل، وكما ذكرت في رسالتي إطلالة الألف الثالث[7]، تستعدّ الكنائس الخاصة، عن طريق الصلاة والكرازة والالتزام في مختلف أشكال العمل الراعوي، لاستقبال هذا الموعد الذي يُدخل الكنيسة كلها في حقبة جديدة من النعمة والرسالة. إن اقتراب موعد هذا الحدث اليوبيلي ليُثير، مع ذلك، اهتماماً متنامياً، لدى أولئك الذين يتوسّلون الاشارة المؤاتية التي من شأنها أن تساعد في تَبيّنِ علامات حضور الله في زمننا المعاصر.
لقد وُضعت الاستعدادات لليوبيل تحت شعار الثالوث الأقدس: بواسطة المسيح–في الروح القدس–إلى الآب. إن سرّ الثالوث الأقدس هو أساس طريق الايمان وغايته الأخيرة، حيثما ترنو أبصارنا إلى وجه الله إلى الأبد. إنّا، إذ نحتفل بسرّ التجسّد، تشخص أبصارنا إلى سرّ الثالوث. إن يسوع الناصري، الذي يكشف لنا حقيقة الآب، حمل الرغبة الكامنة في قلب كل انسان إلى كمالها في معرفة الله. فظهر من خلال وحي المسيح ظهوراً نهائياً كلُّ ما كانت الخليقة تحفظه مختوماً فيها بختم يد الله المبدعة، وكلُّ ما كان الأنبياء الأقدمون قد وعدوا به[8].
إن يسوع يُظهر وجه الله الأب، «الرحمان الرحيم» (يعقوب 5: 11) ويُعلّم، بمجيء الروح القدس، سرّ محبة الثالوث. إن روح المسيح هو الذي يعمل في الكنيسة وفي التاريخ؛ وينبغي الإصغاء إلى صوته للتعرّف إلى علامات الأزمنة الجديدة، وإبقاء شعلة انتظاره المجيد متأججّة في قلوب المؤمنين.
لذلك ينبغي أن تكون السنة المقدسّة نشيداً فريداً، متواصلاً، تسبيحاً للثالوث، الله العلّي. وهنا تأتي كلمات القديس غريغوريوس النـزينسي اللاهوتي لتغدق على التعبير طابعاً شعرياً:
«المجد لله الآب، وللإبن، ملك الكون.
المجد للروح القدس، الذي له يليق التسبيح،
والقدوس كلّه.
الثالوث إلهٌ واحد،
خلق وملأ كل شيء:
السماء وما فيها من كائنات سماويّة
والأرض وما عليها من كائنات أرضيّة.
والبحر والأنهار والينابيع،
ملأها كائناتٍ مائيّة،
وأحيا كلّ شيء بروحه،
لتسبّح كلُّ خليقة
خالقها الحكيم،
علّةً وحيدةً للحياة والزمن.
وليُسبّح المخلوق العاقل،
أكثر من أي مخلوق آخر،
تسبيحاً متواصلاً،
للملك العظيم والآب الكلّي الرحمة»[9].
4. 4. حبّذا أن يرنّم هذا النشيد، تسبيحاً للثالوث وتمجيداً لتجسّد الابن، كل من اقتبل العماد، وشارك في الايمان الواحد بيسوع الرب. وليكن الطابع المسكوني الذي يرتديه هذا اليوبيل علامةً ملموسة للطريق الذي يسير عليه، في السنوات الأخيرة بخاصة، أبناء مختلف الكنائس والجماعات الكنسية. ان الإصغاء إلى الروح القدس هو ما يجب أن يتيح لنا أظهار نعمة التبّني الإلهي التي نلناها بالعماد إظهاراً صريحاً في الشركة الكاملة، لأنّا جميعاً أبناء أب واحد. ما زال الرسول يكرّر مناشداً أيانا نحن اليوم أيضاً: «فهناك جسد واحد وروح واحد، كما أنكم دُعيِتم دعوةً رجاؤها واحد. وهناك ربٌ واحد، وإيمانٌ واحد، ومعموديّة واحدة، وإله واحد، أب لجميع الخلق، وفوقهم جميعاً، يعمل فيهم جميعاً، وهو فيهم جميعاً» (أفس 4: 4-6). أستعين بكلمات القديس أيـريناوس لأقول بأنه لا يسعنا أن نقدّم صورة ناقصة عن العالم وكأنه أرض قاحلة، من بعد أن تلقّينا كلمة الله، كالمطر الهاطل من السماء. ولن يكون بوسعنا أن ندّعي بأننا أصبحنا خبزاً واحداً، إذا كنّا نمنع الطحين من أن يصبح عجيناً بالماء الذي سُكب فينا[10].
كل سنة يوبيلية هي بمثابة الدعوة للاحتفال بعرس. نهبّ جميعاً، من مختلف الكنائس والجماعات الكنسية المنتشرة في العالم، للمشاركة بالعيد الذي يعدّ له. نقدّم فيه ما يجـمعنا، وأنظارنا الشاخصة إلى المسيح تتيح لنا النموّ في الوحدة التي هي ثمرة الروح. وبصفتي خليفة بطرس، فإن أسقف روما هو هنا ليدعم الدعوة الى الاحتفال اليوبيلي، لكي يتم إحياء هذه الذكرى الألفية الثانية لسرّ الايمان المسيحي المحوري على إنها طريق المصالحة وعلامة الرجاء الخالص، بالنسبة للذين يتطلعون إلى المسيح وكنيسته، وهي سرّ «الاتحاد الحميم بالله، ووحدة كل الجنس البشري»[11].
5. 5. إلى كم صفحة من التاريخ تعود بنا الذاكرة في هذا الاستحقاق اليوبيلي! تحملنا الذاكرة إلى سنة 1300، عندما افتتح البابا بونيفاسيوس الثامن رسمياً أول يوبيل في التاريخ، تلبيةً لرغبة شعب روما بكامله. وقد أراد في تلك المناسبة أن يمنح «غفراناً» كاملاً عن جميع الخطايا، لا غفراناً وافراً وحسب، وذلك جرياً على تقليد قديم كان يمنح بموجبه «تكفيرات وغفرانات وافرة عن الخطايا» للذين كانوا يزورون كنيسة القديس بطرس في المدينة الخالدة[12]. ومنذ ذلك الحين، دأبت الكنيسة على الاحتفال باليوبيل، على أنه محطة تـرمز إلى مسيرتها نحو الكمال في المسيح.
يبيّن لنا التاريخ بأي اندفاع كان شعب الله يحيي السنوات المقدّسة التي كان يرى فيها مناسبة للاصغاء إلى دعوة يسوع المسيح للتوبة العميقة. لا تخلو هذه المسيرة من المغالاة وسؤ الفهم، ولكنّ شهادات الايمان الأصيل والمحبة الصادقة تفوق كل ذلك. ولنا على ذلك مثال في شخص فيليب دي نيري الذي أنشأ، عام 1550، مؤسسة «المحبة الرومانية»، دليلاً ملموساً على استضافة الحجّاج. يمكن أن يُكتب تاريخ طويل من القداسة، انطلاقاً من ممارسة اليوبيل، تحديداً، ومن ثمار التوبة التي أتت بها نعمة المسامحة في قلوب الكثير من المؤمنين.
6. 6. لقد اتيح لي بكل غبطة، أثناء ولايتي الحبرية، بأن أعلن، عام 1983، اليوبيل فوق العادة للذكرى الألف والتسع مائة والخمسين لفداء الجنس البشري. وهذا السرّ الذي تحقق بموت يسوع المسيح وقيامته يشكّل الذروة في حدث انطلق من تجسّد ابن الله. لذلك يمكن اعتبار هذا اليوبيل «كبيراً»، إذ تعبّر الكنيسة عن رغبتها الشديدة في أن تضم جميع المؤمنين بين ذراعيها، مقدّمة لهم فرح المصالحة. سيرتفع من كل الكنيسة نشيدُ التسبيح والشكر للآب، الذي بمحبّته الفائقة منحنا، بواسطة المسيح، بأن نكون «من أبناء وطن القديسين ومن أهل بيت الله» (افس 2: 19). في مناسبة هذا العيد الكبير، إن أبناء الأديان الأخرى وكذلك الذين هم بعيدون عن الايمان بالله مدعوون بكل مودّة، هم أيضاً، للمشاركـة في هذا الفرح. وكأخوة في الأسرة البشرية الواحدة، فلنعبر معاً عتبة الألف الجديد الذي يقتضي منّا جميعاً الالتزام والمسؤولية!
بالنسبة إلينا، نحن المؤمنين، فان السنة اليوبيلية ستتيح لنا القاء الضؤ على الفداء الذي حقّقه السيد المسيح بموته وقيامته. بعد هذا الموت، ما من أحد يستطيع أن ينفصل عن محبة الله (روم 8: 21-39) إلاّ بخطأ منه. إن نعمة الرحمة تتوجّه إلى الجميع، لكي نستطيع أن «ننجو بحياته ونحن مصالحون» (روم 5: 10).
لذلك، أُعلن أنّ اليوبيل الكبير لعام ألفين سيبدأ في ليلة ميلاد 1999 بفتح البواّبة المقدسة في كنيسة القديس بطرس في الفاتيكان، وذلك قبل بضع ساعات من الاحتفال الافتتاحي الذي سيجري في القدس وبيت لحم، كما سيبدأ أيضاً بفتح الباب المقدّس في الكنائس البطريركيّة الأخرى في روما. أمّا بالنسبة لكنيسة القديس بولس فإن فتح الباب المقدّس يرجأ إلى يـوم الثلاثاء الواقع فيه 18 كانون الثاني، مطلع اسبوع الصلاة من أجل وحدة المسيحيين، وذلك للتأكيد على الطابع المسكوني الخاص الذي يرتديه هذا اليوبيل.
وأُعلن أيضاً للكنائس الخاصة بأن افتتاح اليوبيل سيُحتفل به يوم عيد الميلاد المقدّس لـربنا يسوع المسيح، وذلك من خلال القداس الحبري الذي يرئسه الأسقف في كاتدرائية الأبرشيّة وكذلك في الكنيسة الموازية للكاتدرائية. يستطيع الأسقف أن يكلّف مندوباً عنه ليرئس الاحتفال في الكاتدرائية الموازية. وبما أن رتبة افتتاح الباب المقدّس محفوظة للبازليك الفاتيكانيّة والكنائس البطريركيّة، لذلك يستحسن، عند افتتاح اليوبيل في الأبرشيات، أن يتمّ التجمّع في كنيسة أخرى، كمحطة تنطلق منها المسيرة باتجاه الكاتدرائيّة، وأن تُعزز رتبة قراءة الانجيل، وقراءة بعض المقاطع من هذه البراءة، وفقاً للتعليمات التي ينصّ عليها كتاب «رتبة الاحتفال باليوبيل الكبير الخاصة بالكنائس المحليّة».
وليحتفل بعيد الميلاد من العام 1999 احتفالاً رسمياً تغمره الأنوار، تمهيداً لاختبار النعمة والرحمة الإلهية، اختباراً عميقاً يمتدّ حتى ختام السنة اليوبيلية في يوم عيد الغطاس وظهور سيدنا يسوع المسيح الواقع فيه 6 كانون الثاني من العام 2001. وليرحّب كل مؤمن بالنداء الملائكي الدائم: «المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر» (لوقا 2: 14). وهكذا سيكون زمن الميلاد في موقع القلب النابض من السنة المقدّسة، التي ستُدخل الى حياة الكنيسة نعم الروح الوافرة في سبيل إعلان جديد للبشارة.
7. 7. إن إقامة اليوبيل قد اكتسبت، على مدى التاريخ، علاماتٍ شاهدةً للايمان تعزّز تقوى الشعب المسيحي. ومن بين هذه العلامات، لا بدّ من ذكر الحج قبل كلّ شيء. وهو يرمز إلى مصير الانسان الذي يحبّ أن يصف وجوده بالمسيرة. فكل واحد منّا، من مهده إلى لحده، هو إنسان مسافر. يشير الكتاب المقدّس مراراً إلى قيمة المسيرة التي ينطلق فيها المؤمنون قاصدين الأماكن المقدّسة. وكان من تقاليد العهد القديم أن يزور اليهود المدينة التي كان محفوظاً فيها تابوت العهد، أو أن يقصدوا معبد بيت إيل (القضاة 20: 18)، أو معبد شيلو، حيث استجيبت صلاة حنّة أمّ صموئيل (1 صموئيل 1، 3). وكذلك فعل يسوع، عندما قصد المدينة المقدسة أورشليم (لوقا 2: 41) مع مريم ويوسف، عملاً منهم بالشريعة. وتاريخ الكنيسة هو صحيفة يوميّة حيّة لمسيرة لا تنتهي أبداً. السير على الطريق المؤديّة إلى مدينة القدّيسيْن بطرس وبولس، وإلى الأرض المقدسة أو إلى المزارات القديمة أو الجديدة المكرّسة على اسم العذراء مريم والقديسين، ذلك هو هدف العديد من المؤمنين الذين يسعون إلى تغذية مشاعرهم التقوية.
كانت الزيارة المقدسة دائماً مناسبةً تحمل في طياتها دلالةً ذات مغزى في حياة المؤمنين، وإن ارتدت، وفقاً للحقب التاريخيّة، تعابير ثقافيّة مختلفة. ترمز الزيارة المقدسة إلى مسيرة المؤمن الشخصية على خطى الفادي. إنها تمرّس على التقشّف الخلاصي، وعلى التوبة واليقظة الدائمة حيال مَوَاطن الضعف البشري، وعلى الاستعداد الداخلي لإصلاح القـلب. ان الحاج يتقدّم على طريق الكمال المسيحي بواسطة السهر والصوم والصلاة، باذلاً ما في وسعه لكي يصير، بعون الله ونعمته، «الانسان الكامل ويبلغ القامة التي توافق سعة المسيح» (أفس 4: 13).
8. 8. تقترن ممارسة الحج بعلامة الباب المقدس، الذي فتح لأول مرة في بازليك المخلّص الأقدس في اللاتران أثناء يوبيل عام 1423. والباب يوحي بالعبور الذي يُدعى إلى تحقيقه كلُّ مسيحـي، من حال الخطيئة إلى حال النعمة. قال يسوع: «أنا الباب» (يو 10: 7) وذلك تأكيداً على أن ما من أحد يستطيع أن يصل إلى الآب إلاّ به. وهذه المقولة التي يشير بها يسوع عن نفسه تُثبت أنه هو وحده المخلّـص المرسل من قبل الآب. ليس هناك سوى باب واحد يُفتح على مصراعيه للدخول إلى حياة الشركة مع الله، وهذا الباب هو يسوع، الطريق الوحيد والمطلق المؤدي إلى الخلاص. عليه وحده ينطبق قول صاحب المزامير: «هذا باب الربّ فيه يدخل الصديقون» (مز [117] 118: 20). يرمز الباب إلى المسؤولية التي تقع على كل مؤمن في اجتياز العتبة، ويعني أن العبور منه اعتراف بأن يسوع المسيح هو السيد، ترسيخاً لإيماننا به في سبيل الحياة الجديدة التي منحنا إياها. إنه قرار يفترض حرية الاختيار والشجاعة في التخلّي عن بعض الأمور، اكتساباً للحياة الأبدية (متى 13: 44-46). بهذه الروحية، يكون البابا أول من يعبر الباب المقدس في الليلة الواقعة بين 24 و25 كانون الأول من العام 1999، رافعاً أمام الكنيسة والعالم الانجيل المقدس، ينبوع الحياة والرجاء، للألف الثالث المقبل. ومن خلال البوابة المقدسة، التي هي أوسع رمزيـاً من سابقاتها في نهاية هذا الألف الثاني[13]، يُدخلنا المسيح دخولاً أعمق في الكنيسة التي هي جسده السرّي وعروسه. من هنا ندرك المعنى العميق الذي يذكّر به قول الرسول بطرس، وهو يكتب عن اتحادنا بالمسيح حيث نشكّل نحن أيضاً: «حجارة حيّة، فقدّموا أنفسكم لبناء بيت روحاني للكهنوت المقدس كيما تقرّبوا ذبائح روحيّة يقبلها الله إكراماً ليسوع المسيح» (1 بطرس 2: 5).
9. 9. هناك علامة أخرى، يعرفها المؤمنون معرفة جيدة، عنينا بها الغفران الذي هو أحد العناصر الأساسية في الحدث اليوبيلي. من خلال الغفران يظهر ملء رحمة الآب، الذي يُقبِلُ للقاء الجميع بمحبّته التي يعبّر عنها قبل كل شيء بالعفو عن الأخطاء. فالله الآب يمنح غفرانه، عادةً، من خلال سرّ التوبة أو المصالحة[14]. وذلك أن الاستسلام استسلاماً واعياً وحراً إلى الخطيئة الجسيمة يُبعد المؤمنين عن حياة النعمة مع الله، ويُقصيهم، بالتالي، عن القداسة التي هم مدعوون إليها. وبما إن الكنيسة قد أولاها السيد المسيح سلطان مغفرة الخطايا باسمه (متى 16: 19؛ يوحنا 20: 23)، فهي، في العالم، الحضور الحيّ لمحبة الله، الذي ينكّب على ضعفنا البشري محتضناً اياه برحمته الأبويّة. فَعِبْرَ الكنيسة وخدمتها يبسط الله على العالم رحمته من خلال هذه الهبة الثمينة المعروفة بهذه التسميـة القديمة أي «الغفران».
يقدّم سرّ المصالحة إلى الخاطىء «إمكانية جديدة للتوبة وتقبّل نعمة البرارة»[15]، التي نلناها بتضحية المسيح. وهكذا يعود الخاطىء من جديد ليدخل في حياة الله وفي المشاركة الكاملة في حياة الكنيسة. إن المؤمن، إذ يعترف بخطاياه، ينال حقاً المغفرة، وبوسعه أن يقترب مجدّداً من القربان المقدس، دلالةً على الشركة، التي استعادها، مع الآب ومع كنيسته. مع ذلك، ومنذ القديم، كان لدى الكنيسة اقتناع عميق بأن المغفرة التي يمنحها الله بالمجّان، تنطوي، بالنتيجة، على تغيير حياتي واقعي، وعلى ازالة تدريجية للشر الداخلي، وعلى تجدّد في الوجود الخاص. لذلك يقترن الفعل الأسراري بفعل وجودي، ترافقهما تنقية واقعية من الخطأ، وهذا ما يسمّى غفراناً. إن المغفرة لا تعني أن هذا الأسلوب الوجودي أصبح فعلاً نافلاً بل انه بالأحرى فعل له دلالته وانه مقبول ومرحّب به.
بالواقع، إذا كنّا متصالحين مع الله، فذلك لا يستبعد أن يظلّ هناك بعض العواقب الناجمة عن الخطيئة والتي ينبغي التطهّر منها. لذلك، وفي هذا الإطار، تحديداً، يرتدي الغفران قيمته الكاملة، تعبيراً عن « هبة الرحمة الإلهية الكاملة»[16]. بواسطة الغفران الممنوح للخاطىء التائب يُرفع العقاب الزمني الناجم عن الخطايا التي غفرت بالنسبة للخطأ.
10.10. إن للخطيئة عاقبتين اثنتين، وذلك من جرّاء طابع الإساءة التي تلحقها بقدسية الله وبّره، ومن جراء الإنتهاك للصداقة الشخصيّة التي يكّنها الله للإنسان. أولاً إذا كانت الخطيئة جسيمة، فإنها تحمل معها الحرمان من الشركة مع الله، وتؤدي بالتالي إلى الإقصاء عن المشاركة في الحياة الأبديّة. مع ذلك، فإن الله، برحمته، يمنح الخاطىء التائب مغفرة الخطيئة الجسيمة ورفع «العقوبة الأبدية» التي تنجم عنها.
ثانياً، «إن كل خطيئة، ولو عرضية، تؤدي إلى تعلّق سيّء بالمخلوقات يتطلّب التنقية، سواء في هذه الدنيا، أم في ما بعد الموت في الحالة التي تسمّى مطهراً. هذه التنقية تحرّر مما يسمّى العقاب الزمني الناجم عن الخطيئة»[17]، وبعد أن يتمّ التكفير عن هذا العقاب، يُمحى ما يحول دون الشركة مع الله ومع الأخوة.
من جهة أخرى، يعلّم الوحي الإلهي أن المسيحي، في طريقه إلى التوبة، لا يجد نفسه وحيداً، بل تكون حياته متّحدة، برباط سرّي، بحياة سائر المسيحيين، في وحدة الجسد السرّي الفائق الطبيعة، في المسيح وبالمسيح. وهكذا يقوم بين المؤمنين تبادلٌ رائع في الخبرات الروحيّة، حيث تُضفي قداسة الواحد على الآخرين خيراً أسمى بكثير من الإسـاءة التي كانت خطيئة الواحد قد ألحقتها بالآخرين. منهم من يترك وراءه فائضاً من المحبّة واحتمال الألم والنقاوة والحقيقة يُغدق على الجميع ويعضدهم. هذه حقيقة «النيابة» التي يقوم عليها سرّ المسيح كلّه. إن محبّته الوافرة تفتدينا جميعاً، غير أن محبة المسيح العظيمة لا تتركنا في وضعية المتلقين السلبيين، بل تحملنا إلى الإندماج في فعلها الخلاصي، ولاسيّما في الألم. وهذا ما يؤكّده مقطع من الرسالة إلى أهل قولوسي حيث يقول القديس بولس: «أُتمم في جسدي ما نقص من آلام المسيح في سبيل جسده الذي هو الكنيسة » (قولوسي 1: 24).
هذه الحقيقة العميقة يُعبّر عنها أيضاً تعبيراً رائعاً مقطع من سفر الرؤيا الذي يصف الكنيسة بالعروس المتوشّحة بثوب من الكتّان الأبيض الناصع. يقول القديس يوحنا «والكتـّان هو الأعمال الصالحة التي عملها القديسون» (رؤيا 19: 8). في الواقع، ومن خلال حياة القديسين تُنسج القماشة الرائعة التي هي ثوب الأبدية. كل شيء يأتي من المسيح. ولكن، بما أننا له، فإن كلّ ما لنا هو له أيضاً، ويرتدي قوّة الشفاء. هذا ما ينبغي إدراكه عندما نتكلّم على «كنـز الكنيسة» الذي قوامه أعمال القديسين الصالحة. أن نصلّي لكي ننال الغفران ذلك يعني أن ندخلَ في الشركة الروحيّة، وبالتالي أن ننفتح انفتاحاً كاملاً على الآخرين. فما من أحد يعيش لنفسه، في الواقع الروحي أيضاً. وإن الاهتمام بخلاص النفس لا يتحرّر من الخوف والأنانيّة ما لم يصبح أيضاً اهتماماً بخلاص الآخرين. هذه هي حقيقة شركة القديسين، وسرّ «حقيقة النيابة» والصلاة، من حيث هي طريق الوحدة المؤدّية إلى المسيح والقديسين. وهو يقودنا معه لننسج معه ثوب الإنسانية الجديدة الناصع، وثوب عروس المسيح الكتانّي الرائع.
إن عقيدة الغفران «تُعلّم قبل كل شيء، إذن، أنَّ «تَرْكَ الربِّ شرٌّ ومرّ» (ار2: 19). وذلك أن المؤمنين، عندما يكتسبون غفرانات، يدركون أنهم لا يستطيعون بقواهم الذاتية أن يكّفروا عن الشرّ الذي ارتكبوه بحق أنفسهم كما بحق الجماعة كلها، وهم بالتالي محمولون إلى الاعتراف والتواضع الخلاصي»[18]. تعلّمنا حقيقة شركة القديسين، التي توحّد المؤمنين بالمسيح كما توحّد المسيح بهم، إلى أي مدى يستطيع كل منّا أن يساعد الآخرين–أحياءً كانوا أم أمواتاً–لكي يكون اتحادهم بالآب السماوي أكثر رسوخاً.
استناداً إلى هذه المبادىء العقائدية، وتفسيراً منّي لفكر الكنيسة الأم، أؤكّد أن جميع المؤمنين يستطيعـون، أذا ما استعدوا استعداداً ملائماً، أن ينعموا وافراً بهبة الغفران، طيلة اليوبيل، وذلك وفقاً للتعليمات المرفقة بهذه البراءة. (راجع القرار الملحق).
11.11. إن هذه العلامات ترتبط، من الآن وصاعداً، بتقاليد الاحتفال اليوبيلي. ولن يتوانى شعب الله عن أن يظلّ منفتح الذهن لادراك علامات أخرى قد تأتي بها الرحمة الإلهية الفاعلة في اليوبيل. لقد أشرتُ، في الرسالة الرسولية اطلالة الألف الثالث، إلى بعض هذه العلامات التي من شأنها أن تساعدنا في نيل نعمة اليوبيل[19] وعيشها عيشاً عميقاً. لذلك أتطرق إليها هنا بإيجاز.
أولاً، علامة تنقية الذاكرة: وهي تتطلّب من الجميع الشجاعة والتواضع للإقرار بالأخطاء المقترفة من قبل الذين حملوا أو يحملون اسم المسيح.
إن السنة المقدسة، هي بطبيعتها، زمنٌ للدعوة إلى التوبة. هذه هي الكلمة الأولى في رسالة يسوع، ومن الواجب أن تقترن بالاستعداد النفسي للإيمان: «توبوا وآمنوا بالبشارة» (مرقس 1: 15). ووصية المسيح هي نتيجة لإدراكنا أنّه «حان الوقت» (المرجع نفسه). يعني زمن الله الدعوة إلى التوبة، التي هي قبل كل شيء ثمرة النعمة. الروح هو الذي يوحي لكل واحد منّا «الدخول إلى ذاته» والشعور بضرورة العودة إلى الآب (راجع لوقا 15: 17-20). لذلك فإن فحص الضمير هو إحدى اللحظات الأكثر تعبيراً عن خصائص الوجود الشخصي، حين يقف كل إنسان أمام حقيقة حياته الخاصة، لاكتشاف المسافة التي تفصل ما بين أعماله والمثل الأعلى الذي وضعه نصب عينيه.
إن تاريخ الكنيسة هو تاريخ قداسة. وكتاب العهد الجديد يؤكد بقوّة على هذه السمة التي يتميّز بها المعمدّون، بحيث يكونون قديسين، بقدر ما يكرّسون أنفسهم لعبادة الله الواحد والحقيقي، مبتعدين عن العالم الذي يخضع لإبليس. بالواقع، تظهر تلك القداسة في سيرة الكثير من القديسين والطوباويين، المعترف بهم من قبل الكنيسة، كما تظهر أيضاً في سيرة ما لا يُحصى من الرجال والنساء المغمورين (راجع رؤيا 7: 9). تشهد حياتهم لحقيقة الإنجيل، وتقدّم للعالم الدليل الحسّي على أن الكمال أمر ممكن. غير أنه لا بدّ من الإقرار بأن التاريخ قد سجّل عدداً من الوقائع التي تشكّل شهادة مضادة. ونظراً للأواصر التي تشدنا جميعاً بعضاً إلى بعض، في الجسد السرّي، ورغم إننا لا نحمل المسؤولية الشخصية، ومن دون أن نحلّ محـلّ الله في الـحكم على ما في القلوب، فإننا مع ذلك نحمل ثقل مغالط الذين سبقونا وأخطائهم. ولكن، نحن أبناء الكنيسة، قد أخطأنا أيضاً، وبالتالي، لم تستطع عروس المسيح أن تتألق بكل جمال وجهها. لقد وقفت خطيئتنا حائلاً دون عمل الروح في قلب العديدين، وأسقطت قلّةُ إيماننا الكثير من الأشخاص في اللامبالاة، مبعدةً إياهم عن اللقاء الحقيقي بالمسيح.
وبصفتي خليفة بطرس، وفي هذه السنة المفعمة بالرحمة، أطلب أن تجثو الكنيسة أمام الله، تعضدها القداسة التي نالتها من الرب، لكي تلتمس منه تعالى مغفرة الخطايا الماضية والحاضرة التي اقترفها أبناؤها. الجميع أخطأوا وما من أحد يستطيع أن يعتبر نفسه باراً أمام الله. (1 سفر الملوك 8، 46). لنقل دون وجل: «أخطأنا» (ارميا 3: 25). ولكن لنظلّ على ثقة بأنه «حيث كثرت الخطيئة فاضت النعمة» (روم 5: 20).
إن القبلة التي بها خصّ الله الذين عادوا تائبين إليه ستكون المكافأة العادلة على الاعتراف المتواضع بأخطائهم وأخطاء الآخرين، إنطلاقاً من الرابطة العميقة التي تجمع ما بين أعضاء جسد المسيح السرّي. المسيحيون مدعوون لكي يحملوا على عاتقهم، أمام الله وأمام الناس الذين تعرّضوا للإساءة، الأخطاءَ التي ارتكبوها. وليقوموا بذلك من دون أن يطلبوا شيئاً بالمقابل، وعضدهم الوحيد «محبة الله [التي] أُفيضت في قلوبنا» (روم 5: 5). هناك أشخاص محايدون، وهم قائمون بينكم، من شأنهم أن يعترفوا بأن التاريخ الماضي والحاضر قد سجّل أحياناً كثيرة ولا يزال يسجّل على أبناء الكنيسة حِقَباً من التهميش والظلم والاضطهاد.
لا يبتعدنّ أحد في هذه السنة اليوبيلية عن معانقة الآب! ولا يسلكنّ أحد كما سلك الأخ الأكبر في المثل الإنجيلي حين أبى أن يدخل إلى البيت للمشاركة في العيد (راجع لوقا 15: 25-30)! وليكن فرح المساهمة أقوى وأعظم من كل ضغينة! وهكذا تتألّق عروس المسيح في نظر عالم الجمال والقداسة المستمدّين من نعمة الرب. إن الكنيسة هي، منذ ألفي سنة، المهد الذي فيه مريم أودعت يسوع، وفيه وَكَلت إلى جميع الشعوب أن يكرّموه ويتأملوا وجههه. عسى أن تتألق الإفخارستيا بمزيد من المجد والقوّة، من خلال تواضع العروس التي تحتفل بالقربان المقدّس وتحفظه في داخلها. وفي علامة الخبز والخمر المقدّسين، يكشف يسوع المسيح، القائم من الموت والممجّد ونور الأمم، (راجع لوقا 2: 32) عن استمرارية تجسّده، وهو باق حيّاً وحقيقياً بيننا لكي يغذّي المؤمنين من جسده ودمه. فلتشخص أبصارنا، إذن، إلى المستقبل! إن أبا المراحم لا يتوقّف على الخطايا التي نندم عليها ندامة حقيقية (راجع اشعيا 38: 17). إنه يحقق الآن أمراً جديداً، وبمحبّته الغافرة يستبق السماوات الجديدة والأرض الجديدة. لينشط الإيمان، إذن، وليتعاظم الرجاء، ولتتفاعل المحبة، في سبيل التزام متجدّد بالشهادة المسيحية في عالم الألف الثالث المقبل!
12.12. وللرحمة الإلهية علامة ضرورية في أيامنا بنوع خاص، ألا وهي المحبة التي تفتح عيوننا على احتياجات من يعيشون بيننا في الفقر وعلى هامش الحياة. وتلك أوضاع يمتّد ظلّها القاتل، اليوم، إلى قطاعات اجتماعية واسعة، بل إلى شعوب بأسرها. مما يجعل الجنس البشري يواجه أشكالاً جديدة من العبودية، أكثر فظاعة من تلك التي عرفت في الماضي. فالحرية ما زالت كلمةً خالية من أي مضمون، بالنسبة للأعداد الكبيرة من الناس. والعديد من البلدان، ولاسيّما الفقيرة منها ترزح تحت عبء الديون التي اتخذت أحجاماً بات من المستحيل تسديدها. وقد أصبح واضحاً، مع ذلك، أنه من غير الممكن تحقيق أي تقدّم حقيقي، من دون التعاون الفعلي بين الشعوب من كل اللغات والأعراق والجنسيات والأديان. يجب إزالة كل مظاهر العنف التي تولّد سيطرة البعض على الآخرين. فتلك خطيئة وظلم. من لا يبحث إلاّ عن تكديس الكنوز الأرضيّة (راجع متى 6: 19) لا يستطع أن «يغنى بالله» (لوقا 12: 21).
لذلك لا بدّ أيضاً من بعث ثقافة التضامن والتعاون الدوليين، حيث يضطلع الجميع بالمسؤولية وخصوصاً البلدان الغنية والقطاع الخاص، وذلك من خلال اقتصاد نموذجي يكون في خدمة كل انسان. فلا يجوز إرجاء الوقت، مرة أخرى، لكي يستطيع الفقير لعازر هو أيضاً أن يجلس جنباً إلى جنب مع الغني، للمشاركة في الوليمة الواحدة، ولئلا يضطر إلى أن يأكل من الفتات المتساقط عن المائدة (راجع متى 16: 19-31). إن الفقر المدقع مصدر للعنف والضغائن والشكوك، ومن السلام والعدالة أن يوضع له علاج.
إن اليوبيل دعوة جديدة لتوبة القلب وتغيير نمط الحياة. وهو يذكّر بأنه ما من شيء مطلق على وجه هذه الأرض، لا الأرزاق ولا السيطرة أو إدعاء السيطرة، إلاّ الله وحده، لأن الأرض ملكٌ له وله وحده. «لي الأرض، وانّما أنتم غرباء ونزلاء عندي» (سفر الأحبار 25: 23). حبّذا لو تلامس هذه السنة المقدسة قلب الذين يمسكون بأيديهم زمام مصير الشعوب!
13.13. تذكار الشهداءهو علامة دائمة لحقيقة المسيحي ومحبّته، ولكنها اليوم علامة بليغة بنحو خاص. فالشهداء أعلنوا الإنجيل بتقديم حياتهم حبّاً للمسيح. والشهيد، في أيامنا بنوع خاص، هو علامة المحبّة الكبرى التي تختزن جميع القيم الأخرى. ووجوده يعكس عبارة المسيح السامية التي نطق بها على الصليب: «إغفر لهم يا أبتاه لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون» (لوقا 23: 34). إن المؤمن الذي يحمل دعوته محمل الجد، ويرى أن الإستشهاد إمكانيّة أعلنها الوحي الإلهي، لا يستطيع أن يستبعد هذا الإتجاه من أفق حياته. إن الألفي سنة الماضية، مدموغة، منذ ميلاد السيد المسيح، بشهادة الشهداء الدائمة.
هذا القرن بذاته، المشرف على نهايته، عرف شهداء كثيرين جداً، بسبب أعمال النازية بخاصة، والشيوعية والصراعات العرقية أو القبلية. قاس الآلام أشخاص ينتمون إلى جميع الفئات الإجتماعية، لأجل إيمانهم، وسُفكت دماؤُهم بسبب انتمائهم إلى المسيح والكنيسة، أو قاسوا بشجاعة، ولسنوات عديدة، السجن والعذابات المتنوّعة، لا لسبب إلاّ لأنهم لم يريدوا أن يستسلموا لإيديولوجية كانت قد تحوّلت إلى نظام ديكتاتوري لا يرحم. إن الاستشهاد هو، من الناحية النفسية، الدليل الأكثر بلاغة عن حقيقة الإيمان، لأنه يقدّم وجهاً إنسانياً، حتى في أعنف أشكال الموت، ولأنه يُظهر جماله، حتى في أكثر الاضطهادات شراسةً.
إنّا، في خلال السنة اليوبيلية الوشيكة، بوسعنا أن نرفع نشيد الشكر، ونحن مغمورون بالنعمة الإلهية، إلى الآب السماوي مرنّمين «يسبّحك الذين توشّحوا بحلّة الشهادة». أجل، إنها سنة الذين «غسلوا حللهم وبيّضوها بدم الحمل» (رؤيا 7: 14). لذلك، ينبغي على الكنيسة أن تبقى متمسّكة بشهادتهم وتصون بكل غيرة ذكراهم. عسى أن يجتاز شعب الله عتبة الألف الثالث بكل ثقة، وإيمانه يعضده مثال هؤلاء الشهداء الأصيلين من كل الأعمار واللغات والبلدان، وليقترن الإعجاب بشهادتهم، في قلوب المؤمنين، بالرغبة في الإقتداء بهم، بعون الله، عندما تدعو الظروف إلى ذلك!.
14.14. لن يكتمل فرح اليوبيل ما لم تتوجّه الأبصار نحو تلك التي، بالطاعة التامـة للآب ، حملت بالجسد في سبيلنا ابن الله. في بيت لحم. «حان وقت ولادتها» (لوقا 2: 6) فوضعت مريمُ، وهي ممتلئة من الروح القدس، بكرَ الخليقة الجديدة. لقد عاشت العذراء مريم أمومتها كاملة، منذ اليوم الأول من حملها، بعد أن دُعيت لتكون أم الله، وقد أدّت تلك الأمومة مكلّلةً إياها على الجلجلة أمام الصليب، حيث أصبحت هناك أيضاً أمّاً للكنيسة، بعطيّة عجيبة من المسيح، مبيّنةً للجميع الطريق المؤدية إلى ابنها.
العذراء مريم، امرأة الصمت والإصغاء، الخاضعة لإرادة الآب السماوي تذكرها جميع الأجيال على أنها «الطوباوية» التي عرفت كيف تعترف بالعظائم التي تحقّقت فيها بالروح القدس. ولن تتوانى الشعوب أبداً بأن تذكر أم الرحمة، وأن تلتجىء دائماً إليها. إن التي قصدت، مع ابنها يسوع وخطيبها يوسف، هيكل الله المقدّس، فلتحرس الطريقَ التي سيسير عليها الحجّاج في هذه السنة اليوبيلية! ولتشفع شفاعةً خاصة للشعب المسيحي كي ينال وافر النعمة والرحمة، فيما هو يبتهج بمرور ألفي سنة على ميلاد المخلّص.
ولترفع الكنيسة تسبيحها إلى الله الآب، بالروح القدس، لأجل هبة الخلاص بالمسيح السيد، الآن وإلى الأبد!
أعطي في روما، قرب القديس بطرس، يوم الأحد الأول من زمن عيد الميلاد، الواقع فيه 29 تشرين الثاني 1998 من ميلاد الرب، في السنة الحادية والعشرين من ولايتنا الحبرية.
يوحنا بولس الثاني
الترتيبات الخاصّة لنيل غفران اليوبيل
إن ديوان التوبة الرسولي الـPénitencerie، استناداً إلى الصلاحيات الممنوحة له من قبل الحبر الأعظم نفسه، وعملاً بإرادته المعبّر عنها في براءة الأنذكتي الخاصّة باليوبيل الكبير لعام الفين، يحدّد في هذه الرسالة الترتيبات التي يتوجّب التقيّد بها لنيل غفران اليوبيل.
إن جميع المؤمنين الذين استعدوا استعداداً حسناً [لهذا الحدث] يستطيعون أن ينالوا هبة الغفران الوافر طيلة كل هذا الزمن اليوبيلي، وذلك وفقاً للتدابير المحدّدة أدناه.
لما كنّا قد أوضحنا أن الغفرانات الممنوحة، سواء بصيغتها العامة أم بأمر خاص، هي سارية المفعول طيلة اليوبيل الكبير، نذكّر بأن غفران اليوبيل يمكن أن يشمل بصيغته العامة أنفس الراحلين، وذلك تطبيقاً لعمل جليل من المحبّة الفائقة، وبموجب الرابطة التي تجمع، في جسد المسيح السرّي، ما بين المؤمنين المسافرين على وجه هذه الأرض، وبين الذين أكملوا، حتى الآن، مسيرتهم في هذه الدنيا. ثم إن القاعـدة التي لا يمكن بموجبها نيل الغفران الكامل إلاّ مرّة واحدة1، تبقى صالحة طيلة السنة اليوبيلية.
إن ذروة اليوبيل هي اللقاء مع الله الآب، بالمسيح المخلّص، الحاضر في كنيسته حضوراً خاصاً في الأسرار المقدّسة. لذلك، فإن المسيرة اليوبيلية بكاملها، من نقطة إنطلاقها حتى نهايتها، إنّما قوامها الاحتفال بسرّ المصالحة وبسرّ القربان المقدّس، سرّ المسيح الفصحي، سلامنا وصلحنا: ذلك هو اللقاء التغييري الممهّد لنيل الغفران لنا ولسوانا.
إن المؤمن، الذي يكون قد تمّم بكل ورع سرّ الاعتراف المقدّس، اعترافاً فردياً وكاملاً، وفقاً لمضمون القانون 960 من مجموعة الحق القانوني الغربي والقانون 720 من مجموعة قوانين الكنائس الشرقية، يستطيع، إذا تمّم ما يجب تتميمه، أن ينالَ أو يطبّق هبة الغفران الكامل، أثناء فترة مناسِبَةٍ من الزمن، لا بل يوميّاً، من دون أن يُضطر إلى الاعتراف مجدّداً. بيد أنه من الأهميّة بمكان أن يقتبل المؤمنون غالباً نعمة سرّ المصالحة، للتقدّم على طريق التوبة ونقاوة القلب2. غير أنه من المناسب، في مقابل ذلك، أن تتمّ المشاركة في الإفخارستيا – الضرورية في كل غفران–في اليوم ذاته الذي تتمّ فيه الأعمال الموصى بها3.
هاتان الذروتان من الزمن يجب أن تقترنا، قبل كل شيء، بشهادة الشركة مع الكنيسة وبالصلاة العلنيّة على نيّة الحبر الروماني، وبأعمال المحبّة والتوبّة، وفقاً للتعليمات الواردة أدناه، أعمال يجب أن تعبّر عن توبة القلب الحقيقيـة التي تؤدي إليها الشركة مع المسيح في الأسرار المقدسة. فالمسيح هو الغفران والضحيّة المقدّمة عن خطايانا (راجع 1 يوحنا 2: 2)، وهو يحمل كل واحد منّا إلى لقاء بنويّ ومفعم بالثقة مع أبي المراحم، إذ ينفح في قلب المؤمنين الروحَ القدس الذي هو «مغفرة الخطايا»4. عن هذا اللقاء تنجم التزامات التوبة والتجدّد والشركة الكنسية والمحبة نحو الأخوة.
وبشأن اليوبيل القريب تُثَبّت كذلك القاعدة التي بموجبها يستطيع الكهنة المعرّفون أن يخففّوا عن الذين تقع عليهم الموانع القانونية، إمّا العملَ المفروض عليهم، وإمّا الشروطَ المترتّبة على ذلك5. أمّا المحّصنون والمحصّنات من الرهبان والراهبات، والمرضى وكل الذين، بطريقة أو بأخرى، يتعذّر عليهم الانتقال من مكان إلى آخر، فبإمكانهم أن يقتصروا الزيارة على كنيسة مكان إقامتهم. وإذا تعذّر عليهم ذلك أيضاً فبإمكانهم، عندئذ، أن ينالوا الغفران، باتحادهم الروحي مع الذين يُتممّون تتميماً عادياً الأعمال المفروضة، رافعين إلى الله تعالى صلواتهم وأوجاعهم وتضحياتهم.<