حوار صحفي حول إعلان الرب يسوع

س1: ما هي الدوافع التي تبرر كتابة "إعلان الرب يسوع"؟
منذ فترة وهناك مجادلات في أوساط اللاهوت المسيحي عن الأديان وعن مسألة القيمة التي تمثلها تلك الأديان في مواجهة الإيمان المسيحي. فمن جهة هناك من- في سبيل إعطاء قيمة لمختلف الأديان- يذهب للتأكيد على نوع من التعددية النسبية، ونتيجة ذلك لا يمثّل المسيح الوحي الوحيد الكامل للآب ولكن واحد من السبل التي تقود إلى سرّ الله. ومن جهة أخرى هناك مَن يؤكد بطريقة حاسمة أن المسيح وحده هو الطريق والحق والحياة، ويعلن أنه ما من إمكانية أخرى للدخول إلى سرّ الله سوى المسيح نفسه. وبين هذين الموقفين المتطرفين، حاول الفكر اللاهوتي والسلطة الكنسية أن يعلنا رفضهما لكليهما ولكل صور التعددية النسبية في الدين وتمّ ذلك عدة مرات كان آخرها في "رسالة الفادي".
الوثيقة هي إذن رفض لكل صيغ النسبية وصورها من جهة، ومن جهة أخرى هي رفض لكل صور الاستبعاد المطلق المبني على استبعاد الآخرين رافضاً أي حوار حقيقي مع الأديان الأخرى بنّاء وقائم على الاحترام المتبادل. وفي الواقع، أن كلا التطرفين السابقين، وبالذات الأول منهما المبني على "نسبية الأديان" قد تسبب في أضرار عنيفة في الضمير المسيحي.
إن اعتقاد الكثيرين بأن الطرق الموصلة إلى السر الإلهي متعددة، وبالتالي فليس المسيح هو الباب الأساسي والوحيد للخلاص؛ اضعف الانطلاقة الإرسالية للكنيسة نحو نشر الإيمان المسيحي. مما أدى إلى مشاكل لا تحصى في مجال العمل الإرسالي. إن التأكيد على وحدانية الخلاص بيسوع المسيح ليس منطقاً أعمى، إنه التأكيد الواضح والبسيط للحقائق المرتبطة بالمبادئ الإنجيلية: كما إن هذا التأكيد على هذه الحقيقة الإيمانية هو بعينه ما لا يمنعنا من التعرّف، من خلال علامات الروح القدس، على المخطط الخلاصي الوحيد للآب والذي يمكن أن يمتد حتى إلى خارج حدود ملء الوحي المسيحي الصريح وإن ظل دوماً منطلقاً منه.

س2: هل هذه الدوافع الواردة في هذا الإعلان هي رد على أوضاع واقعية وقائمة أم على مخاوف وهمية ؟

كما قلت سابقاً يبدو إن دوافع كتابة إعلان "الرب يسوع" دوافع واقعية نابعة من مشاكل قائمة يواجهها المرسلون داخل الوسط الإرسالي. أفكر في الإحباط الذي تعاني منه ضمائر الكثير من المرسلين، لما يصيبها من بلبلة، وفي الحوار الملتبس الذي يدفع البعض إلى التخلي عن عاجلية وضرورة البشارة، فتوقفت البشارة بالإنجيل باسم احترام "بذور الحقائق" الموجودة في كل مكان وفي كل الأديان.
إني أعتقد أن هذا الوضع يشكل تحدياً واقعياً لاسيما في أماكن كالقارة الأسيوية التي تعتبر مجالاً مفتوحاً للعمل الإرسالي في البشارة بالإنجيل. نعم يجب احترام الثقافات العريقة والديانات العتيقة في آسيا بكل عمق والجدية في الاعتراف بقيمتها الحقيقية. لكن إذا ما كان هذا الاحترام يفسّر بطريقة تعني التخلي عن البشارة بالإنجيل، فإن ذلك يكون نوعاً من الخيانة ل "عاجلية البشارة بالإنجيل" التي سلمها يسوع المسيح نفسه لتلاميذه.

س3: إذا كان الإعلان الصادر عن مجمع العقيدة والإيمان يؤكد على ملء  ومطلقية الوحي المسيحي، أفلا يجرد هذا باقي المعتقدات الدينية من أي قيمة أو معنى؟ ألا يمكن اعتبار تلك المعتقدات هي الأخرى على الأقل في بعض عناصرها ومحتوياتها كثمرة لنور الله كما يطالبون أحياناً كثيرة؟

إن التأكيد على وحدانية الرب يسوع وفرادته فيما يقدم من وحي الخلاص، لا يعني استبعاد إمكانية وجود سبل أخرى يتجلى عبرها الوحي الإلهي لإعلان الله عن ذاته في الخبرات الدينية الأخرى أيضاً؛ هذا يعني الاعتراف بالروح القدس وعمله في العالم. فالروح يهب حيث يشاء وهذا يدفعنا إلى الانفتاح على إمكانية وجود بذور الحقيقة الإنجيلية في الديانات الأخرى. أما فيما يخص الاعتراف بتدبير الله الخلاصي للعالم فلا يعني استبعاد وجود أي وساطة خلاصية للأديان الأخرى. ولكن المنطلق لقبول كل هذه الحقائق هو الوحي المسيحي الذي يمثل ملء عطية الله في المسيح الذي يجعلنا في الوقت ذاته نعترف بعالمية تدبير الآب، والوحدانية الخلاصية لموت المسيح وقيامته، وعمل الروح القدس. فلا تباعد إذاً بين البشارة بالإنجيل والحوار مع باقي الأديان بين الاعتراف بما فيها من قيم سامية والتأكيد على وحدة وفرادة الخلاص المسيحي. بل لنستطيع القول أنهما يسيران ويقعان في نفس الاتجاه.
 
س4 إذا ما كان المسيح هو المخلص الوحيد للعالم أجمع، فما هي قيمة المعتقدات والممارسات التي يقوم بها غير المسيحيين والتي كوّنت شعوباً وأشخاصاً ذوي روحانية عالية وفضائل عظيمة؟
تكمن قيمتها في أنها "إعداد للإنجيل" على أن يفهم ذلك في معناه السامي والعميق كعمل روح الله في هذه المعتقدات والممارسات الدينية وكمخطط خلاصي يشمل هؤلاء. وفي الوقت ذاته هناك ضرورة ملّّحة للتميّز الذي يتطلّب معايير: والمعيار الوحيد الذي لا يمكن التنازل عنه هو الوحي الذي أتمه المسيح، إنجيل حبه الذي يساعدنا على أن نميّز، في المعتقدات والممارسات الدينية الغير مسيحية، القيم الإيجابية التي يمكن أن تساهم في نمو حقيقي للخبرة الروحية. في الوقت ذاته أيضاً لا يمكن استبعاد أن يحملنا هذا التمييز الذي يتم في نور معايير المسيح، إلى رفض كل الصور اللاإنسانية أو التي ضد الروح القدس والتي يمكن أن تكون موجودة في بعض الخبرات الدينية الأخرى.
 
س5 ما هي بالتحديد الصلة بين الكلمة الأزلي والكلمة المتجسد فيما يتعلق بالخلاص سواء قبل التجسد أم بعده؟
تتحدث وثيقة "الرب يسوع" بوضوح كبير عن هذا الموضوع في نهاية النقطة العاشرة فيها إذ تقول: "إنه ضد الإيمان المسيحي إلحاق أي نوع من الفصل بين الكلمة وبين يسوع المسيح؛ فيسوع هو والكلمة المتجسد شخص واحد غير منقسمين. فالمسيح هو يسوع الناصري وهو كلمة الله الذي صار إنساناً من أجل خلاص جميع البشر". وبمعنى آخر نريد التأكيد بأن الكلمة الأزلى والكلمة المتجسد هما الشخص الوحيد ذاته ليسوع المسيح الكلمة المتجسد. لذا فإن محاولة الفصل أو خلق التناقض بينهما كما حاول البعض أن يفعل لتدعيم أسبقية الكلمة الأزلي على شخص المسيح المتجسد؛ فهذا ببساطة أمر زائف ومنحرف. ذلك أن المسيح هو وحي الآب التاريخي، الابن الأزلي الذي يتخذ صورة الجسد البشري شخص واحد إلهي هو في الوقت ذاته عبر التجسد إنسان حق.
إن المسيح هو المعيار، إنه الوسيط الوحيد بين الله والعالم وهو الذي من خلال نوره يمكن أن نتعرّف على كل "بذور الكلمة"، وكل ما يمكن تواجده من إعداد للوحي في الأديان الأخرى.
 
س6: كيف تبدو العلاقة بين الكلمة المتجسّد والروح القدس في العمل الخلاصي، فبرغم التأكيد على وحدانية هذا التدبير فلا يمكن في الوقت نفسه  القبول بأي تناقض أو اختلاف في الدور أو في آفاق العمل؟
الاتجاه إلى فصل لاهوت المسيح »الكريستولوجيا« عن لاهوت الروح القدس »ابنفماتولوجيا« ظل اتجاهاً حاضراً في الكنيسة. حتى ليمكن القول بأن تناسي عمل الروح القدس ساعد على وجود ما أسماه الأب كونجارChristomonisme occidantale” في المسيحية الغربية. ومن الجهة الأخرى فإن تناسي أو إهمال عمل الكلمة المتجسّد وتمجيد عمل الروح القدس يهدد بالسقوط في روحانية خماسينية Péntecostale ”  “ لا يقل كلاهما انحرافاً عن  القواعد والأسس المسيحية. لهذا يجب أن نبقي على الرباط بين المسيح والروح؛ فعبر هذا الارتباط وحده، يمكن تحديد دور كل منهما. فالمسيح هو الوسيط الوحيد بيننا نحن البشر وهو ملء الوحي الإلهي؛ أما الروح فهو الذي يحقق في الزمان “la praesentia Christi”حضور المسيح، إنه الذاكرة المعاصرة لله. وكما يقول اللاهوتي فالتر جاسبر: إنه الجانب التاريخي من السر الإلهي. وبفضل الروح، روح الحق، روح الأمانة الإلهية يصير المسيح حاضراً وحيّاً حتى اليوم بيننا. برغم التمايز لا يمكن أن يكون هناك تناقض إذاً بين دور المسيح والروح. بل يمكن القول بأن الروح هو بكامله في خدمة الخلاص المسيحي، وأن المسيح بكامله موجّه لإتمام تدبير الروح. لذا فإن الاحتفاظ بهذه العقيدة المزدوجة والوحدة يمكننا من التعرّف على مجال عمل الروح في ضوء هذا المعيار نحو التعرّف بالمسيح.

س7: إذا ما انتقلنا إلى العقائد التي تخص الكنيسة والتي تناولها »إعلان الرب يسوع«، نشعر أنها تقدّم تفسيراً محدوداً لا يترك مجالاً للمسيرة المسكونية التي تحققت بعد المجمع: أي لا يضع في اعتباره ما تمّ مع مختلف الكنائس والجماعات الكنسية من تفاهم وما وضح من تباين. ألم يتغيّر في الأوضاع شيئٌ؟

لا يبدو لي تفسير »يتحقق في«subsistit in” الذي جاء في نور الأمم رقم8، قد أسيء استخدامه في »إعلان الرب يسوع« فالأمر يتعلق بتناول تعاليم المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني كما فعل النص. وفيه أكّد بوضوح كبير أن ملء وسائل الخلاص يتحقق في الكنيسة الكاثوليكية، وأن باقي الكنائس والجماعات الكنسية- بدرجات مختلفة- تساهم في هذا الملء. لدرجة أن المجمع قد طوّر العقيدة الخاصة بدرجات الشركة والتي من خلالها وبلغة المجمع، يؤكد من جهة ملء حضور الكنيسة في الكنيسة الكاثوليكية. ويعترف بوجود عناصر كنسية للكنائس الأخرى كالكنائس الأرثوذكسية الشرقية التي حافظت على التعليم وتقليد الآباء وعلى الإفخارستيا. كما يستخدم لفظ جماعات كنسية للحديث عن كنائس ما بعد الإصلاح.
أما لوي النصوص الذي حاول البعض استخدامها في التحدّث عمّا جاء في بعض نقاط »إعلان الرب يسوع« والتي تتهمه بأنه ينسف ما حققه المجمع، فلا يبدو في الحقيقة أن له أي أساس من الصحة. فقراءة النص بهذا الخصوص واضحة ومحددة، إذ لا يتعدى الأمر سوى ما سبق وأقره المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، والذي يعتبر في الواقع أساس الانطلاقة المسكونية طوال السنوات الماضية. فإذا أردنا أن نجد عكس هذه الروح المسكونية في محتويات »إعلان الرب يسوع« الذي أعتبره إعادة طرح لما سبق وقدّمه المجمع، فإن الأمر يبدو غير منطقي. ومن جانب آخر   فإن الحديث عن درجات من الشركة وعن الاعتراف بالكنائس الشرقية اعترافاً كاملاً. وبالجماعات الكنسية التي خرجت من عباءة الإصلاح البروتستانتي والتي توجد تحت صورة جماعات كنسية، لا يعني تقليل كرامة وقيمة إيمان أبناء هذه الكنائس ولا خبرتهم ومعرفتهم بكلمة الله. إنما يعني أن تؤكد على حقيقة »ملء« وسائل النعمة الذي ائتمن الله عليه الكنيسة الكاثوليكية التي ائتمنها الله على وسائل الخلاص والنعمة. وهذا بالطبع لا يعني أوتوماتيكياً أن الكاثوليك أكثر قداسة من غيرهم. على العكس فإن اليوبيل الأخير قد علمنا أن نعترف بوضوح بأخطاء أبناء هذه الكنيسة، والتي لا تحجب بالطبع، القداسة الموضوعية للكنيسة نفسها والقائمة فيما اؤتمنت عليه من وسائل الخلاص.

س8: التأكيد على ضرورة وجود الكنيسة كسبيل وحيد للخلاص. ألا يناقض في الواقع، بالرغم من التأكيدات المعاكسة، حقيقة وواقع إمكانية الخلاص المقدسة للجميع؟ ألا يجعلنا نقع من جديد في الحكم السابق »خارج الكنيسة لا خلاص«؟

يبدو هنا أنه من الضروري تقديم بعض التوضيحات حول هذه النقطة. فإذا كان المسيح ضرورياً للخلاص، فإن الكنيسة التي هي الحضور السري للمسيح في الروح، تصير أيضاً ضرورية بنفس القدر؛ ولكن هذا لا يعني كما سبق وأن أوضحت، عدم وجود مخطط خلاصي عالمي للآب، ولا ينفي عمل الروح القدس خارج الحدود المنظورة للكنيسة. فمن جهة، هناك وضوح بأنه »خارج الكنيسة لا خلاص« إذا فهمنا هذا التعبير عمن هم  “extra Christum in Ecclesia ” أي خارج المسيح الحي والفاعل في الكنيسة… ولكن هذا التعبير لا يجب أن يستخدم بأسلوب استبعاد كنسي يحملنا إلى احتقار أية قيمة وسيطة أو أية وسيلة للخلاص عبر الديانات الأخرى. بالتالي فإن التأكيد على ضرورة الكنيسة كوسيلة للخلاص تحتوي على تشجيع وتحفيز للانطلاقة الإرسالية وتدفع إلى الأمام حب وفرح البشارة، ولكنها لا تستبعد الاعتراف والاحترام لحضور النعمة وعمل الروح في مخطط الله الآب الذي يمكن أن يتحقق خارج حدود الكنيسة المنظورة.
 
س9 في هذا الإطار، ماذا تبقى من دور لباقي الأديان في خلاص أعضائها المؤمنين؟
لن أتكلم عن تخفيض لهذا الدور، بل أؤكد على أن هناك إمكانية حقيقية لأن تكون هذه الأديان وسائل خلاص لأتباعها بقدر ارتباطها بعمل وتدخّل الروح القدس الحاضر »في بذور الكلمة« “Semina Verbi” لهذه الأديان. كل هذا لا يجب أن يحجب أبداً الإعلان الأساسي والواضح لكل مسيحي. »والذي عليه يقوم أو يسقط الإيمان المسيحي«  “Stantis aut cadentis fidei Cristianae” والذي بموجبه يعترف كل مسيحي أن المسيح وحده هو باب الخراف؛ إنه الطريق والحق والحياة. وأن أحداً لا يقدر أن يصل إلى الآب إلا به، وبدون هذا التأكيد فلا وجود للمسيحية، ولا للنعمة ولا للخلاص: فمن جهة يؤكد هذا الإعلان على ضرورة التبشير وإعلان الإنجيل. ومن الجهة الأخرى يقدّم معيار واضح بين كل ما تقدمه الديانات الأخرى من قيم ومبادئ.
 
س10 كيف يمكن أن نتحدث عن وجود علاقة بين (الكنيسة- الملكوت) قبل مجيء المسيح، بينما يؤكد التاريخ أن كثيراً من الحضارات والثقافات والنظم الأخلاقية سبقت في الوجود المسيح نفسه والكنيسة. فبقاء هذه الحضارات إلى اليوم ومساهمتها المتواصلة في الإعداد للملكوت وتقديم قيمه ولو بطريقة منقوضة وغير كاملة. ألا يجب الاعتراف بها كطرق مستقلة للخلاص تسير في طريق التطور والنمو؟
هذا التساؤل يتناول في الحقيقة موضوعاً سبق طرحه وبقوة في زمن الآباء.  يلخصها القديس أغسطينوس في »الكنيسة منذ هابيل« “Ecclesia ab Abel”. بمعنى أنه كان هناك بالطبع عمل خلاصي لله، سبق تجسّد المسيح على الأرض، وحسب الإيمان المسيحي فإنه يتحقق نور المسيح. وبتطبيق الفكرة عن »الكنيسة منذ هابيل« على كل الأديان غير المسيحية الموجودة حالياً والعاملة في العالم، يمكن التعرّف فيها على حضور نوراني ومشاركة في الوساطة الخلاصية للمسيح، مما يجعلها عملياً بناءات ووسائل صالحة للوساطة والخلاص. فالأمر ليس استبعاد مسيحي لكل ما هو غير مسيحي، بل على العكس فإنه تأكيد شريف للحقائق التي يؤمن بها المسيحيون. والتي تظل مع ذلك منفتحة بالطبع على الاعتراف والتميز على كل القيم الروحية أينما وُجدت، والتي يمكن الاعتراف الكامل بها من قبل جميع المسيحيين لكن فقط من خلال ما أتمه المسيح من وحي كاملٍ.
 
س11 كيف نستطيع التحدّث عن خلاص الشعوب الأخرى من خلال »طرق ووسائل يعلمها الله وحده«، والتي هي الأديان غير المسيحية والمتأقلمة والمناسبة عبر القرون على احتياجات شعوبها وحضارتهم وتقاليدهم دون إعطاءها قيمة؟
بالتأكيد فإن الطرق التي »يعلمها الله وحده« هي الطرق التي يحققها الروح القدس في قلوب الرجال والنساء عبر هياكل وبنى وسيطة للخلاص تتمثل في الأديان. مما يعني أن المسيحية منفتحة على الأديان الغير مسيحية وتقدرها وتحترم ما تقدمه لأبنائها من خيرات واضحة الأثر عبر القرون في ثقافاتها وتقاليدها. لكن هناك عنصران يجب التأكيد عليهما:
–       في المقام الأول: أن هذه الوساطة لا يمكن اعتبارها كاملة ومكتملة كما هي الوساطة التي تتحقق في يسوع المسيح. فبالنسبة للمسيحي يبقى أن المسيح هو الحقيقة والطريق والحياة بكامل المعنى، فالحوار اليقظ إذاً والموجّه إلى التقدير والاعتراف بالحقائق الموجودة في الأديان الأخرى، لا يعفي المسيحي من ضرورة وعاجلية الإعلان عن ملء عطية الله في المسيح. ولا يكون ذلك تقصيراً في تقديم الحقيقة ونقص في المحبة تجاه إخوتنا غير المسيحيين.
–       في المقام الأخير: فإنه حقيقي أن الأديان غير المسيحية بجانب ما تحويه من القيم فإننا نجد هناك غموضاً ورفضاً ومقاومةً موضوعية للحقائق المسيحية لن نتكلم عن المقاومة الفردية والشخصية التي قد نجد مثيلها أيضاً لدى المؤمنين المسيحيين الكاثوليك أنفسهم ولا عن الذنوب والخطايا…الخ، ولكن نتحدث عن الحدود الموضوعية التي تتعارض أحياناً مع كرامة الشخص الإنساني نفسه حسب مخطط الله له. وهنا أقدّم مثلين توضيحيين:
     الأول متعلق بفكرة قيمة الشخص الإنساني: فالفكرة الحالية هي بالتحديد خلاصة ما حققته الرسالة المسيحية عبر تاريخها منذ القرون الأولى المسيحية. وهي مكسب لا يمكن التخلي عنه اليوم بالنسبة للبشرية كلها. لأن أساس الكيان الشخصي للإنسان واحترام شخصية الكائن الحي، كشخص مسئول وواع وغير قابل للتكرار في التاريخ ووحيد في شخصيته. وهذا هو الأساس العالمي لحقوق الإنسان وهي تحقق الارتقاء بالإنسان واحترام كرامته الإنسانية وتؤكد على العدالة في صورها المختلفة.
الفكرة الثانية الكبرى هي: فكرة التاريخ الموجّه إلى »غاية نهائية« “Eschaton” حيث أن غياب هذه الفكرة، كما يحدث غالباً في الثقافات الأسيوية، يعتبر الوجود الإنساني جزءً من دورة معادة ومتكررة: مما يفرغ فكره كفرادة الشخص الإنساني وعدم قابليته للتكرار وقيمته وكرامته وبالتالي فإن التاريخ الموجّه إلى هدف الإنسان في توجيه غني في المعنى مليء بالرجاء؛ وهذه هي الرسالة التي تقدمها المسيحية للثقافات وهي تتطلب الانثقاف، لكنها أيضاً إضافة فائقة الطبيعة وتعني تجديد جذري في أسلوب إدراك العالم والحياة والتاريخ. ولكي نتكلم عن أمثلة واقعية، دعونا نفكر لحظة في »يوم الإجازة الأسبوعية« – الذي قدمته حضارة اليهود-مسيحية للعالم والذي يغيب عن معظم الحضارات الأسيوية: لنفكر أيضاً في فكرة عدم تكرار الحياة الإنسانية لارتباطها بالشخص البشري مما يدعو لحفظ حقوق وكرامة هذا الشخص كحقوق بطريقة لا يمكن التنازل عنها لأنها حقوق مقدسة. هذا ما تحمله المسيحية وما تقدمه، وما لا يمكنها التقليل من شأنه تحت مسمّى إعطاء قيمة ومعنى لحضارات وديانات أخرى تغيب عنها هذه المعاني بالذات.
وفي الوقت نفسه بالطبع وانطلاقاً من المبادئ التي أشرنا إليها أعلاه عن العمل اليومي للروح القدس في تحقيق مخطط الله الخلاصي، أينما وُجدت القيمة في نور الإنجيل. مما يتيح لنا الاعتراف بها وتقديرها. و»إعلان الرب يسوع« لا ينفي هذا الواجب بل يدعمه ويشجعه ولكنه يهيب بالمسيحيين ويطالبهم بالالتزام بواجباتهم ومميزاتهم المسيحية. مذكّراً إياهم أنهم الشهود العاشقين ليسوع المسيح. ملء وحي الله الكامل، الطريق الوحيد المكتمل للخلاص حتى يمكن الوصول إلى الآب الذي يحتضن الجميع ويضمهم في ذاته، والذي بفضل عمل روحه يعطي قيمة أيضاً للمساهمات الثمينة للديانات الأخرى كوسائط للخلاص نحو الله. والإعلان يدين في الوقت ذاته أيّة مقاومة ويبرز أية حدود تضعها هذه الديانات ويساعدها على تحقيق البشر لذواتهم تحقيقاً صريحاً في دعوتهم الإنسانية لتحقيق مجد الله. 
 
عن مجلة "صديق الكاهن"