الأقباط وطنية وتاريخ

أولاً: الأقباط والمومياء الفرعونية

يذكر المرحوم الدكتور مراد كامل في كتابه القبط في ركب الحضارة العالمية، أن الأقباط شعب أبيض من شعوب البحر الأبيض المتوسط وهم لم يحافظوا على بعض ميزات الجنس المصري القديم فحسب، بل احتفظوا إلى الآن بالسحن المصرية القديمة، وكان اختلاطهم بالأجناس المختلفة التي نزحت إلى مصر قليلاً إلى درجة لم تؤثر فيهم مما أدهش علماء الأجناس الذين أثبتوا من مقاييس الرأس والقامة أن التشابه يكاد يكون تاماً بين المومياء المصرية وهياكل العظام في العصور المختلفة وبين أقباط اليوم”.

ويسجل المؤرخ الغربي “وليم درل” هذه الشهادة العجيبة “للقبط أهمية خاصة لأنهم البقية الباقية من الشعب المصري، ذلك الشعب الذي يمتاز بأن له أقدم تاريخ مدون“.

ويقول “ماسبيرو” أنه “إذا كانت هناك أمة حافظت على أصولها دون أن يختلط بها دم غريب فإنما هي الأمة القبطية سليلة الفراعنة”.

وشهد الكاتب الإسلامي عبد الرحمن عزام “لا أرى في البلدان الغربية أقليات لأن القبط في مصر ليسوا أقلية بل أكثرية، القبط هم الأمة بأسرها هم آباؤها وأجدادها وأبناؤها، أعترف بحبي للقبط وإسرافي في هذا الحب لأنهم برهنوا في مصر وفي الشرق على أنهم جديرون بالاحترام وجديرون بالحب، ففي ميدان الوطنية كان شهداء القبط أول الشهداء. وفي فجر النهضة كان المسجونون منهم أول الظافرين بهذا الشرف، ومن يدعو إلى غير حب القبط فهو ليس بمسلم وليس بمصري“.

 

ثانياً: المسلمون والأقباط عبر التاريخ!!

يحكي قداسة البابا شنودة الثالث عدة روايات استقاها من أعماق التاريخ القديم، اسمعوه يقول: “لنا في التاريخ الإسلامي صداقات كثيرة بين حكام المسلمين وبين المسيحيين ونراهم قد اعتمدوا عليهم في ميادين عدة لعل أبرزها التعليم والطب والهندسة والأمور المالية، ففي التعليم نرى أن الخليفة معاوية بن أبي سفيان اختار رجلاً مسيحياً لكي يؤدب ابنه زياد. وزياد اختار كاهناً مسيحياً لكي يؤدب ابنه خالداً، والخليفة عبد الملك بن مروان كان يتخذ يوحنا الدمشقي مستشاراً له، وقد اختار رجلاً معلماً مشهوراً اسمه أثناسيوس لكي يؤدب أخاه عبد العزيز.. ولما صار عبد العزيز بن مروان حاكماً لمصر أخذ أثناسيوس معه كمستشار له، نجد أن الأخطل كان من الشعراء المسيحيين المشهورين اندمج في مجموعة متلازمة مع جربر والفرزدق اشتهرت في العصر الأموي، وكان الأخطل المسيحي حينما يدخل إلى مساجد المسلمين يقوم المسلمون له إجلالاً لعلمه وأدبه كما يروي التاريخ الإسلامي.

ونجد في التاريخ أيضاً كثيرين من الخلفاء المسلمين وولاتهم اهتموا بالمسيحيين من كل ناحية، كان محمد بن طنج الأخشيدي يبني بنفسه الكنائس ويتولى ترميمها، وكنيسة أبي سرجة بمصر القديمة اهتم ببنائها الخلفاء المسلمون، وكنيسة أبي سيفين، القديس مارقوريوس بمصر القديمة تولى الاهتمام بها الخليفة العزيز بالله الفاطمي، ولا أستطيع أن أذكر مقدار اهتمام الخلفاء الفاطميين بالكنائس وبناءها وترميمها في العهد الفاطمي، إنما أترك هذا الأمر لعالمين كبيرين من علماء الإسلام هما المقريزي في كتابه القصص، والمسعودي في كتابه مروج الذهب!!

كان أحمد بن طولون من أكثر المحبين للأقباط وقد اختار مسيحياً لكي يبني له مسجد أحمد بن طولون، واختار مسيحياً لكي يبني القناطر، واختار مسيحياً يبني كثيراً من منشآته وكان أحمد بن طولون يذهب كثيراً لزيارة دير القصير، وكان على صلة وثيقة برهبانه هناك. والأديرة المصرية كانت دائماً مجالاً لالتقاء الخلفاء والولاة، وكانوا يحبونها ويقضون فيها الكثير من الوقت ويصادقون أساقفتها ورهبانها.

ثالثاً: التفرقة إهدار لكل الشرائع السماوية


ويقول الأديب الصحفي الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي:

أولها: أن المتدين الحقيقي يحترم عقيدة أخيه وديانته ويحرص على أخيه في الوطن حرصه على أخيه الشقيق، فهكذا تأمر الشرائع السماوية.

ثانيها: أن الدين الإسلامي منذ جاء إلى مصر واعتنقه المصريون أوصى بالأقباط خيراً، فالإسلام اعتبر الأقباط أهل ذمة، وأهل الذمة- كما فسرها الأوائل منذ عهد الرسول والخلفاء الراشدين- أن الأقباط في ذمة الله ورسوله، وعلى هذا فالمسلم الذي يفهم دينه حق الفهم مطالب من الناحية الإسلامية، أن يتعامل مع إخوانه الأقباط بكل الاحترام والتكريم لأنهم في ذمة الله ورسوله، ومن أساء إليهم قد أساء إلى الله ورسوله!!

 

رابعاً: والآن.. تعالوا إلى كلمة سواء!!

هلموا بالحب والصراحة..

الآن وبعد أن استعرضنا لآراء بعض المفكرين من الأدباء ورجال الدين، لا يسعنا هنا إلا أن نواجه الحقائق الواقعة بصراحة الإنسان الغيور على وطنه، المحب لكل ذرة من تراب بلده:

أولاً: مطلوب الحب!! مطلوب الحب بين المصريين على السواء، مطلوب التسامح أكثر من التعصب، والسلام أكثر من الخصام، وليذكر الجميع ما قاله الكتاب المقدس:”إن كنت لا تحب أخاك الذي تراه فكيف تحب الله الذي لا تراه؟!!”.

ثانياً: مسؤولية وسائل الإعلام!! لا شك أن من أخطر الوسائل التي تسهم في إثارة الفتن الدينية- الإذاعة والتليفزيون والصحافة، ونحن نرى ونسمع كل يوم في التليفزيون ما يؤذي آذاننا ويفسد أذهاننا، ويثير مسامعنا، ويهاجم عقائدنا، كل أولئك ولا شك يترك في حياتنا أثراً قد يكون سبباً رئيسياً في تطرف، شبابنا وتحريضهم على العنف والعدوان.

– إن وسائل الإعلام مسؤولية مسئولة عن الأحاديث المستهجنة الهدامة التي تتعرض للدينات الأخرى، وكلما تهدأ النفوس وتحاول أن تنسى ما أصابها من كلمات الاستهزاء والسخرية، نراها تتجدد في اليوم التالي مما يضاعف هذه المشاعر ألماً وإيذاء!!.

ثالثاً: مناهج هدامة ينبغي التصدي لها!! صدرت في الأيام الأخيرة، بعض المطبوعات والنشرات المسمومة على مرأى ومسمع من كبار المسؤولين، أقل ما تتصف به أنها أسلحة خطيرة، وقنابل ومفرقعات يمكن أن تفتك بالشعب وتحوّله إلى ساحة من المعارك تسودها شريعة الغاب، ونذكر منها على سبيل المثال:

1- كتاب “الحكمة الجديرة بالإذاعة” ولا نريد أن ندخل في تفاصيله ويكفي أن يتذكر صاحبه أن “لا إكراه في الدين”.

2- وكتاب آخر أصدره أحد المتطرفين شحنه بعبارات أقل ما يُقال فيها أنها تحريض سافر على إثارة الفتن والاضطرابات بين أبناء الوطن الواحد.

3- هذا فضلاً عن كتاب آخر لا يقل خطورة عن سابقيه، يكفي أنه كان سبباً من أسباب العنف، محرضاً على الأذى والعدوان مما أثمر عن أحداث المنصة وأسيوط والمنيا وسوهاج وغيرها!! وهنا نرجو أن ينتبه القائمون على رقابة الكتب للقيام بحملة تطهير للأسواق والمطابع التي تقذف كل يوم بعشرات من هذه المؤلفات!!

رابعاً: قانون عثماني بال مطلوب إلغاؤه: وهو يحتوي على عشرة شروط مجحفة وعجيبة لأنه لا يمكن توافرها جميعاً في أية حالة من أحوال بناء الكنائس، ودعماً للوحدة الوطنية نطالب بإلغاء هذا “الخط الهمايوني” لأنه من بقايا فلول الاستعمار العثماني.

خامساً: لنحذر الحساسيات في التشكيلات: ولئن كان الأقباط عند وضع الدستور قد رفضوا بحماس قضية “التمثيل النسبي” إلا أنهم عندما يجدون أنفسهم في عزلة عن العمل السياسي على مختلف مستوياته، لا شك وأنهم يحسون بجرح عميق في كرامتهم كمواطنين لا يقلون حباً لوطنهم عن اخوتهم المسلمين.

وفي انتخابات الستينات والسبعينات وجدنا ما يخجل جبين، العدالة والحكمة، فتارة ينجح قبطي واحد وتارة ينجح ثلاثة أقباط، فيضطر رئيس الدولة إلى “تعيين” عدد من الأقباط ليكمل العدد عشرة نواب بين 400 عضواً، الأمر الذي يترك في نفوس الأقباط والعقلاء المنصفين من المسلمين جرحاً عميقاً يظل زمناً حتى يندمل!!

– لذلك نرى – دعماً للوحدة الوطنية غلق بعض الدوائر على المرشحين الأقباط كما كان يحدث في عهد الوفد حتى يحدث التوازن تحت قبة البرلمان.

سادساً: إصلاح برامج التعليم: كانت اقتراحات رواد الوحدة الوطنية وعقلاء المعنيين بالشئون الدينية في الوطن، كلها تنصب على ضرورة إصلاح برامج التعليم، فلا يسمح لمدرسة أو مدرس بأن يبث العصبية الدينية التي تثير الضغائن، ولا يسمح لجهة أن تستغل الدين لنشر الخلافات!! فيجب إصلاح برامج التعليم، بحيث تتضمن الكتب المدرسية في جميع المراحل التعليمية، مقتبسات من تاريخ العصر القبطي، ووطنية رجال الأقباط الدينيين والعلمانيين، وبذلك يتربى النشء المسلم على محبة النشء المسيحي، وتزول المفاهيم الخاطئة من عقولهم!!

سابعاً: المشاركة الفعلية للأعياد المسيحية: يذكر صاحب كتاب “أقباط ومسلمون” بأن الفاطميين احتفلوا رسمياً بالأعياد المسيحية مثل عيد الغطاس، وعيد النيروز، أي رأس السنة القبطية، وأيضاً عيد الميلاد وهو ثالث الأعياد التي تحتفل به الدولة رسمياً، وكانت الحكومة في عهد الفاطميين تسلو 500 دينار ذهباً بمناسبة عيد خميس العهد، وكان هذا المبلغ يوزع على جميع أرباب الرسوم!!

 


أما بعد…

فلتطمئن الأفئدة الجزعة، والقلوب الهلعة الفزعة، فمصر لن تغيب أبداً عن حياتنا، وهي الباقية الغالية دائماً بكل حضارتها وتراثها، ووحدتها، ستظل مصر بمسلميها ومسيحييها، بآثارها وتاريخها، ستظل دائماً أرض الحب والوحدة المقدسة، ستظل دواماً أرض الحضارة وطريق السلام، وستحارب أبداً كل شذوذ وإرهاب وتطرف وعنف!!.